الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


با إدريس الخوري، المنشطر المستفز الساحر...!!

ادريس الواغيش

2022 / 12 / 26
الادب والفن


بقلم: ادريس الواغيش
با ادريس، إن كنا قد أتعبنا هدوءك بضجيج ثرثرتنا، اسمح لنا هفوتنا وأنت في مرقدك هناك، أما إذا كنت تعبت منا ومن هذه الأرض، واخترت الرحيل طواعية، فقد اتخذت قرارا صائبا. الكتاب والمثقفين هنا يا صاحبي أصبحوا لا يطيقون بعضهم في المدينة الواحدة، أكثر من ذي قبل، ومما كنت تعرفهم فيهم. لا تنزعج، عشت ساحرا في كتاباتك، جميلا مزعجا في مجالسك، منشطرا بين هدوء الرباط وصخب الدار البيضاء أو البيداء كما يسميها صاحبنا بوزفور.
"سير...سير" صرخات أطلقها الركراكي في غيابك، تبعته آلاف، إن لم تكن ملايين الحناجر، في ملاعب قطر. قد سمتعتها وأنت في قبرك، وربما مرت بمسامعك قبلنا بسنوات، وسرت مطمئنا غير مباليا إلى حيث أنت الآن، وبين كلمتي "سير... سير" وصرختك المميزة "واتا...سير" التي كانت تخرج مدوية من بين شفتيك، تنتهي الحكاية، قبل أن تبدأ فصولها، ويتوقف الكلام.
عشت كل المفارقات الإنسانية في حياتك، صادقا كنت يا با ادريس في إنسانيتك، جارحت صادما في هجوك وجواباتك، مستفزا في صراحتك، مرغوبا مكروها في نفس الوقت، مستبدا لطيفا في جلساتك، جادا هازلا، منشطرا إلى نصفيك. لم يسلم أحد من سطوة لسانك، كما لم تسلم أنت من لسان أحد. كنت منشطرا إثنان في واحد، كلاكما إدريس المازح والخوري الجارح يعيشان في جسد واحد، اعتمد كلاكما إدريس والخوري، التسفيه والفضح والتجريح والسخرية من الناس ومن الحياة. ومع ذلك كنت أكثرنا صدقا، تأتينا في الصباح فاتحا مناوشا بجرأة قلم القاص والسارد من الهامش، وتذهبت إلى مرقدك مسالما معافيا في آخر الليل، وقد شربت ودخنت من السجائر ما يكفي لتدمير عشرات الأجساد.
القصة بعد رحيلك مع زفزاف بقيت يتيمة يا با إدريس، فقدت أحد أركانها، ومن حظها أن أطال الله في عمر العم أحمد بوزفور، وجدت فيه العم الحنون، وإلا بقيت أكثر يتما وتعاسة مما كانت عليه قبل رحيلك. وحتى لو عمرت بيننا أكثر مما عشت، لم تكن لتضيف شيئا إلى لعنة الكتابة، اللعنة هي نفسها، إن لم تزدد حدة وشراسة، أكبر من أن يحتويها قلم أو تضاف إليها البهارات شيئا. أحسن ما فعلت في حياتك، نعيت نفسك بنفسك قبل رحيلك، وأنت على قيد الحياة.
كدنا نفوز بكأس العالم في قطر 2022 هذه المرة، وأنت في غيابك يا با ادريس، ولولا أن غشنا المتواطئون من الإفرنج لفعلنا، ومن كثرة تعاستنا في الحياة وتوالي الهزائم علينا، خرجنا نتدافع إلى الشوارع فرحين كما لم نفرح من قبل، فرحنا كما يفعل الأطفال صباح يوم العيد، نصرخ ونردد الشعارات شماتة في الكآبة والتعاسة. ولأننا أيضا لم نكن متعودين على الفرح، سئم الفرح منا وغاب سريعا. خرجنا نتهافت على اقتناص لحظات من البهجة، قبل أن تنفلت من بين أيدينا، وتطير كما يفعل أي طير أو حمامة. ومع كل ذلك، لا تصدق محمود درويش يا با ادريس انه" على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، إن كان كل شيء يستحق الكتابة، فلا شيء يستحق الحياة.
كنت قاصا مقتدرا، ومن نعاك بعد غيابك إن صادقا أو منافقا، أضاع مداد حروفه، كنت أكثرنا صدقا، لم تكن في حاجة إلى من ينعيك، ولا إلى شاعر يرثيك. نعيت نفسك بنفسك، واسترحت. نعيك لنفسك، وأنت حي، كان أكثر صدقا من قصائد الشعراء وتراتيل الفقهاء، أقوى مما كان سيقوله فيك شاعر مبتدىء، قولك فيك كان أجمل وأصدق من كل القصائد. القصاصون أكثر صدقا ونبوءة من الشعراء. الشعر في أيامنا أصبح سلعة تباع وتشترى يا صديقا كنت لي، بدأ يغزوه الانسياب وغزارة الانزياح، ينخر جسمه مكر المكائد. الشعر كاذب وأكثر احتيالا على وجه القصيدة، لم يعد الشعر كما قرأناه، ونحن تلاميذ في المدارس أو طلاب في الجامعات. لا تندم الآن يا صديقي، وقد رحلت، أن كنت قاصا، أصبح الشعراء بعدك كمشة من اللوبيات وريع وشطارات.
كتابة القصة واحدة من نعم الحياة عليك أو لعلها إحدى اللعنات، وأنت حي يرزق أو يعاني من قلة الرزق، لا أدري. أقصد نعمة الكتابة علينا جميعا، كتابا و شعراء.
أذكر أننا التقينا كثيرا في أكثر من مناسبة، وكنت في كل مرة بخيلا شحيحا في كلامك، كما لو أن ثقبا في طبقة الأوزون أثر على السمع في أذنيك أو شللا مفاجئا وتصلبا أصاب لسانك، وإذا بقلمك يجف ومداد كلماتك يقل. التقينا كثيرا وتحدثنا قليلا، رغم أننا كنا متشابهين في الطباع وفي الأسماء والانتماء إلى الهامش. أذكر أننا تكلمنا في مناسبتين، ولم يسعفنا الكلام، اقتصر حديثنا على الحياة العامة والأدب. وكان كلامنا سطحيا ومملا عابرا، مثلما كان عبورك سريعا من الحياة إلى الموت، وفبلها من الشعر إلى الصحافة وكتابة القصة القصيرة. ارتأيت مع بوزفور وزفزاف أن يكون مقامكم الأفضل في فردوس القصة، كنتم تلمحون مرة وتفصحون في أخرى عن نواياكم الصريحة بيسر وسهولة، وبلغة واقعنا ومعيشنا الأليم. كنت ترتاح مثل كل القصاصين في القصة من لغو الشعر، وتحيى فيها حياة مختلفة داخل عباءة الخلص للقصة القصيرة.
لا تقلق يا با ادريس هناك، نحن هنا كما تركتنا وتعودت على حالنا، فرق وشيع وقبائل لا احد يطيق احدا، انانيين فردانيين أكثر من الرأسماليين أنفسهم. أكثر كرها لبعضنا وتعصبا لأفكارنا كما لو كنت أنت معنا هنا. ننسى أننا مجرد أرقام عابرة يا صاحبي، وسنلتحق بك مكرهين لا طائعين، لأننا أصبحنا نحب الحياة أكثر مما نحب نفوسنا وأسرنا عكس ما يبدو منا في ظاهرنا. ما يخفف عنا هو أن عبورنا نحن الكتاب والشعراء، سيكون أكثر خفة وأقل ضررا، لن نحمل معنا أكثر من مجاميع قصصنا ودواوين أشعارنا، ولن نأسف مثل الآخرين على أرصدة سنتركها هنا للآخرين وراءنا في البنوك، لا ضيعات لنا، لا عقارات في ملكية أسماء نسائنا وأبنائنا وبناتنا. ليس لنا هنا، وأنت العارف بنا، فللا في الأحياء الراقية بفاس ومراكش، ولا شققا تطل على كورنيشات المتوسط في طنجة وتطوان، ولا شاليهات على رمال المحيط الأطلسي بأحياء الهرهورة الراقية في الرباط وعين الذئاب ومارينا الدار البيضاء.
ومن يعتبرون أنفسهم كتابا وشعراء كبارا، سيلفون قصائدهم تحت آباطهم في صمت ويغادرون آسفين على غرورهم، يتبعهم إلى مثواهم الأخير ضجيج بعض مريديهم ودموعا مغشوشة، ومن على شاكلتهم من كبار الإقطاعيين والأغنياء، ستقام لهم حفلات صاخبة بالمديح والسماع تليق بغيابهم عن ثرواتهم، ولكن في الأخير سيجدون أنفسهم مثلنا مجرد أرقام جامدة يملأها من يليهم بعد مماتهم، مثل ما يقع في أرقام التأجير بأسلاك الوظيفة العمومية أو تسلسل أرقام البطاقات الوطنية في الحياة العامة بالنسبة لعباد الله الصالحين أو السراق والفاسدين والمرتشين.
لا تصدق محمود درويش يا با إدريس بأن فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة، أعرف أنك لم تتأثر مثلنا بعناوين قصائده، كما كنا نفعل نحن في البدايات. الهواء أصبح أكثر رطوبة هنا يا صاحبي، والحياة غالية قاسية، موجعة تكاد تكون معجزة. لا شيء يغري بالبقاء على هذه الأرض بعد رحيلك، لاشيء عليها أو فيها يستحق البقاء. درويش كان قصده أن يخفف من وطأة مرض أحاط بجسده العليل من كل الجهات، يئس مما آل إليه وضع فلسطين، وهو ملقي على السرير بأحد مستشفيات باريس. الحياة هنا متعبة يا صديقي إدريس، بئيسة كما كتبت عنها بصدق في قصصك، وعكس ما كان يصوره لنا الشعراء الرومانسيون الحالمون في قصائدهم.
جئت تحمل لقبا مستعارا، هو ليس لك، كما يحمله الكثيرون منا عنوة. وجدت نفسك تحمل لقب"الخوري"، لا أنت له ولا هو لك. ولكن الجميل فيك، أنك عشت راضيا بقدرك، ساخرا من واقع "كازابلانكا" الذي يشبه واقعك، أقصد واقعنا، إلى حد القسوة. تشبثت بمبادىء آمنت بها، ولم تخنها كما فعل غيرك. لم تخذل الغارقين في معاناتهم، وكنت مناصرا ومؤازرا لهم في كتاباتك وقصصك. خضت حروبا إما قسرا دفاعا عن نفسك أو طواعية ضد المهووسين بعظمة الجنون. انتصرت في بعضها، وهزمت في كثير منها، وتحملت عواقب الهزائم وحدك.
وفي الأخير، غادرتنا مرفوع الرأس، حاملا معك كبرياء نسر إفريقي. ربحت أصدقاء مخلصين في عالم متحول، يتغير كل يوما إلى الأسوأ، رغم ما نراه من بهرجة وجعجعة.نم قرير العين يا صديقي، وليرحمك الرحمن إلى أن نلتقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال