الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا توجد في البيت امرأة

فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)

2022 / 12 / 27
الادب والفن


كان الزمان رضيعا عندما تنفّسها القدر، ومارست أمّها مع الأيّام لعبة الخفاء والتجلّي فاختفت من حياتها، واختفت من حياتي... كنت أوسّدها ذراعي وأوشوش في أذنها حتّى تنام وفي الصباح أنسلّ إلى عريشها وأندسّ بجانبها متناوما لأوهمها أنّي ما فارقتها طوال الليل، وإذا رأيت منها اعوجاجا وابتعادا عن الجادة أتصنّع القسوة، وأزورّ عنها، فتجهش بالبكاء، لكنّ قلبي يحنو عليها فأرفعها من خصرها إلى أن تتدلّى أطرافها، ويصير وجهها فوق مستوى عنقي، أنزلها قليلا، ثمّ أنحني عليها بهامتي، أغرز ذقني في حنايا صدرها، أدغدغها، فتنفجر ضاحكة وبقايا الدموع في عينيها... أدفع بها بعيدا، أتأمّلها برهة ثمّ أجذبها إليّ مع استدارة خفيفة بنصفي الأعلى وكأنّني أحميها من خطر يتعقّبها، فتطوّق عنقي بيديها، وتدفن وجهها بين خدّي وكتفي مقهقهة بأعلى صوتها، حتّى تسعل... كنت أمازحها إلى أن تملّ وتتعب... أطوّف بها الحوانيت وجنان الأطفال... هذه كجّة، هذه قاطرة، هذه سفينة بلا أشرعة، صنع جيّد، نقي بنيّتي ما شئت من اللُعب والعبي فسوف تملّينها يوما ما... وكانت تبذل جهدا لتلفت نظري إليها... تقلّدني في كلّ شيء أقوم به، طريقة نومي، كيفية تصنّعي للغضب، حركاتي وسكناتي، ابتسامتي الخبيثة... وكنت أخشى عليها نتيجة تصرّفها هذا... أربت على خدّها مبتسما وأقول لها:
- «عيب يا صغيرتي لا تتهكّمي من أبيك، البنات الطيّبات لا يفعلن ذلك...»
فتعقد ما بين حاجبيها تشبّها بي، تنصب قامتها، وتنفخ صدرها حتّى تلائمها شخصيتي، تحرّك شفتيها فينساب منهما صوت يشبه صوتي يردّد ما قلته كالصدى...
وفي ذلك اليوم الذي اشتدّ فيه عودها، وطافت الأنظار من حولها، تطوّقها العيون من كلّ جانب، كنّا معا نجلس في مقهى حديقة البلفيدير، نمتّع نفسينا بجمال قلّ ما نراه في دهاليز المدنيّة المختلقة، ونسترق السمع لحديث المائدة المجاورة حين يجفّ الكلام بيننا وينطّ السكون بجانبنا... الجوّ منعش وجميل والمكان شاعريّ خلاّب، يأخذ بالقلوب فيأسرها في بوتقة التفكير المنطقي في الحرب والسلم إذا كانت «مسيّسة» في عالم الخوف، أو في الذوق والجمال إذا كانت مزكومة النفس... وربّما زادت على ذلك ودخلت أشياءها الصغيرة كما فعلت، فتطرّقت إلى التفكير في أمر هذا الدخيل الذي سيجعل حياتي محنة، ويملأ روحي أسى ووحدة... كانت قد حدّثتني عنه من قبل فوصفته لي وصف محبّ لمحبوبه... تخيّلته رجلا لا كالرجال... أفرغت ذهني في تمثيل صورته... كسوت وجهه بشارب ولحية خفيفة مستحبّة لدى الصبايا، ولم أهمل جانب الشخصية فيه، فأنا أريد لابنتي الوحيدة زوجا مسؤولا يسعدها... كنّا ننتظره في ذاك المكان، ونفسي تتفتّق منه شتّى العواطف... ماذا لو كنت قد ملت بوهمي إلى درجة قصوى في التصوّر؟ هل أوافق إذا ما خالفت الحقيقة لما رسمته في خيالي أم أنّني...؟ أبدا لا يمكنني أن أعبث باختيارات ابنتي... لن أتدخّل في خصوصيات حياتها... لقد عوّدتها على ذلك...
قاطع تفكيري صوت ابنتي وهي تشير إلى شاب مقبل نحونا قائلة:
- «انظر! لقد وصل يا أبي.»
فردّدت:
- «نعم، لقد وصل... أخيرا وصل.»
أخيرا التقينا فوقعت المعاينة... أخيرا، تأكّدت من الصورة، وتحقّق ظنّي ورضيت بالدخيل زوجا لابنتي، ورضيت بنفسي غريقا في قوالب الصمت والوحدة...
والآن، يأتيني وفي عينيه كتلة من شعاع غريب، يسوق زوجته أمامه حاسرة الرأس متخاذلة، يدفع بها إليّ وينصرف قائلا:
- «خذ عنّي شبهك، فقد زوّجتني رجلا لا يجيد فنّ الطبخ ولا الإغراء.»
تسع كلماته أذني... أصاب بالغثيان... تدور حولي معالم الأشياء... ألعاب الصبيان تتهمني، أنت المسؤول... الكجات و القاطرات ووسائل الترفيه تسخر منّي... الجدران والمقاهي وجنان الأطفال وعين الرضى تشير إليّ بأصابعها، تتهمني: أنت المسؤول... أصرخ في نفسي وفي كلّ شيء حولي:
- «لست مسؤولا عمّا حدث، لا توجد في البيت امرأة.»
ثمّ انكفئ على وجهي في بكاء صامت... أتذكّر عينيها فأقفز من مكاني وأحتضنها، أقبّل وجهها، عنقها، أسند رأسها على صدري، وأهمس في أذنها:
- «أي بنيّتي، لست مسؤولا عمّا حدث، إنّه القدر!»








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل