الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرب وتغيير الثقافة

أحمد عصيد

2006 / 10 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


هل يمكن للعرب ، بعد أن اهتدوا أخيرا إلى أن مشكلتهم مشكلةُ ذهنيةِ تخلفٍ مستحكمة ، أن يتغيروا ؟ وهل يمكن لهذا التغيير أن يأتي من داخل منظومتهم الثقافية التي وقعت ، بشكل يكاد يبدو نهائيا ، في براثن التطرف والنزعات النكوصية المعادية لقيم العصر ؟

حضرني هذا السؤال قبل شهور بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة لمؤسسة الفكر العربي بمدينة مراكش تحت شعار " العرب بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة " ، وعاودني من جديد هذه الأيام وأنا أسمع عن تنظيم المؤتمر القومي العربي بالدار البيضاء بالشعارات إياها التي رددها منذ نصف قرن ، وقد كنت دُعيت لمناقشة القوميين العرب على الهواء مباشرة في برنامج بثته قناة الجزيرة خلال انعقاد المؤتمر ، غير أن صدورهم ضاقت عن حضوري والاستماع إلي ، فكان أن اختاروا أن يخاطبوا بعضهم بعضا بدلا من أن يحاوروا غيرهم ، وهو أمر يثبت على الأقل بأن شعار القناة التلفزية القطرية " الرأي و الرأي الآخر " شعار نسبي لا يحمل دائما نفس الدلالة التي قد تتبادر إلى ذهن المتلقي.

وقبل البدء في محاولة الإجابة على السؤال الذي طرحناه نتساءل قبل كل شيء : من هم العرب ؟ هل هم فقط المجتمعون داخل قاعة أو منتدى ، والهائمون في متاهات النظريات والمفاهيم الملتبسة ؟ أم أنهم شعوب ومجتمعات ودول ؟ أم أنهم فئات ومجموعات وعائلات داخل هذا البلد أو ذاك ؟ أم أنهم أبناء بلد معين يطمحون إلى تسويق بضاعتهم في بلدان أخرى ؟ أم أنهم مجرد فرضية قد تصدق أو تكذب ؟

إن مصدر الخلل في غموض المصطلح إنما يكمن في التاريخ وفي الذاكرة ، فالعرب قوم كان لهم حظ أن يكتبوا تاريخهم بأيديهم ، وكان لهم حظ أوفر في أن يكتبوا أيضا تاريخ غيرهم ، نيابة عن غيرهم . وبعد صدمة الحداثة واهتزاز القيم فرض سياق غير مسبوق على الشعوب المقهورة التي أنهكها الاستبداد أن تعيد النظر في ذاتها وفي موقعها ، مما جعل التاريخ يقفز إلى الواجهة من جديد ، التاريخ المسطور بأيدي الغير ومكره . لقد أدركت هذه الشعوب بأن انطلاقها نحو المستقبل لا يمكن أن يتم بدون استعادة تاريخها وتملكه ، وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون إعادة قراءته بوعي جديد وخارج هوية من كتبه .

هكذا أصبح المشكل اليوم هو إصرار العرب على طرح قضايا المجتمعات التي يتواجدون بها انطلاقا من مرجعيتهم الثقافية والفكرية وحدها ، في استخفاف تام بالمنظومات الثقافية لتلك المجتمعات التي قد لا يكونون فيها إلا أقلية ، وهو ما يعني استبعاد الأسباب الحقيقية للتخلف من دائرة اهتمامهم . نفهم من هذا أن تلك الشعوب والمجتمعات لن تغادر تخلفها أبدا ، لأن الذي يسهر على البحث لها عن حلول لمشاكلها المزمنة هو نفسه الذي عمل على تأبيد تخلفها، فـ" العقل العربي " الذي يستنفر الناس إلى المؤتمرات والمناظرات هو نفسه " العقل العربي" الذي يعمل " بحكمته " على تدبير شؤون الدول والمجتمعات المأزومة المسماة جميعها " عربية " ، وهو الذي يشرع للاستبداد بكل ألوانه وفنونه ، وهو الذي يحتقر المرأة والطفل ويشيع الظلامية باسم الخصوصية والأصالة العربية الإسلامية ، هل يمكن للعرب أن يكونوا الداء والدواء معا في الآن نفسه ؟

أعتقد أنه قد مضى من الزمن ما يكفي لكي تكتشف كل هذه الشعوب والبلدان الرازحة تحت هيمنة الأبوة الثقافية العربية ، بأن " العقل العربي " قد بلغ درجة من الشيخوخة والخرف أصبح معهما لا يؤتمن على مصير الأجيال وأرواح الناس وثرواتهم المادية والرمزية، ومن ثم وجب الحجر عليه وإحالته على المعاش .

ليس العرب بحاجة إلى نظريات في السياسة أو " ثقافة التغيير " ، فقد أتخموا بها على مدى قرن كامل ، كما اجترّوا مضامينها زمنا غير يسير ، بل إنهم حوّلوها ، على عادتهم ، إلى خطب رنانة وملاحم وثورات بلاغية صاحبت إيقاع الحديد والنار وفوهات البنادق ، ولكنهم بالتأكيد بحاجة إلى " تغيير الثقافة " ، تغيير الذهنية ؛ وهو ما لا سبيل إليه إلا بكسر الطابوهات المستعصية ومحاربة الأساطير القديمة التي عملوا ، على مدى قرن كامل ، على ترسيخها في أذهان النشء وإشاعتها في كل مناحي حياة المجتمعات التي شاء التاريخ أن تتواجد بها بعض من ثقافتهم ولغتهم .

ومن ثم أرى من باب الإنسانية أن أقترح على القوميين العرب وعلى حراس العروبة والعقل العربي المقترحات التالية التي قد لا تروق لهم اليوم ولكنها أفكار المستقبل :

1 ـ على العرب ، قبل كل شيء ، أن يتوقفوا عن الحديث باسم غيرهم ؛ فالشعوب لا تقبل الوصاية ، كما أنها لا يمكن أن تقبل بجعل قضايا العرب تحظى بالأولوية على قضاياها الوطنية الخاصة ، إذ لا يمكن مواجهة المشاكل الداخلية لكل بلد بالسكوت عنها وتجاهلها إرضاء لنرجسية الذات العربية .

2 ـ على العرب من جهة ثانية أن يتخلصوا من وهم أنهم " ورثة " حضارة عظيمة ، ذلك أن هذا الوهم يساهم بنصيب كبير في إفشال أي تغيير في الثقافة السائدة ؛ فما يعتبرونه ميراثا هو في الأصل بمعايير الحضارة المعاصرة " تراث ميت " ، إنه يضم بعض مظاهر الازدهار التي عرفتها فترة معينة مضت عليها قرون طويلة ، ولكن تلك المظاهر نفسها تعد اليوم ، مقارنة بما وصلت إليه البشرية ، ثقافة عتيقة ومتجاوزة .

3 ـ يحاول العرب أن يستعيدوا بعض سطوتهم وأبوّتهم على مسرح الأحداث باستعمال إيديولوجيا التطرف الديني ، وذلك بعد أن انكسرت كل أحلامهم في التحديث على صخرة الماضي الذي ظل حيا في دواخلهم ، وها قد أصبح إسلام العرب كارثة معولمة ، و كأني بهم قرروا ، بعد أن يئسوا من أن يعثروا على مخرج من أزماتهم ، أن يُغرقوا فيها العالم بأسره.
ليس من حق العرب إشاعة الرعب وثقافة الانتحار في بلدان ما زالت تبذل الكثير من التضحيات من أجل الخروج من التخلف ، بعد أن ضحّت بدماء أبنائها عقودا طويلة من أجل الحرية والاستقلال.

4 ـ لن يكون للعرب مكان في عالم الغد إذا هم أصرّوا على البقاء على ثقافة الريع القديمة ، فأنا أتساءل : هل كان من الممكن للعرب ـ العرب الأقحاح ـ أن يصبحوا مصدر إزعاج للعالم لولا أنّ الإنجليز اكتشفوا تحت الرمال القاحلة ، منذ بدايات القرن العشرين ، كميات هائلة من الذهب الأسود ؛ هذا الذي أصبح اليوم خير وسيلة لتسويق طاعون الوهابية الذي نشأ أصلا في عزلة عن العالم داخل تجمعات عشائرية في الصحراء المترامية ؟؟؟
كما يبدو من حقنا التساؤل ، بعد كل الذي جرى ، إن لم يكن مشكل العرب في العمق هو مشكل من نزلت عليه فجأة ثروة هائلة دون أن تكون لديه أية مؤهلات لتدبيرها.

إن شعار " تغيير الثقافة " لا يُفهم ولا يستقيم إلا بأن يتخذ معنى تغيير ثقافة العرب بثقافة غيرهم ، وإعادة الاعتبار لعبقريات الشعوب وهوياتها العميقة والمتجذرة في أعماق التاريخ ، ذلك أنه يسهل كثيرا ربط الصلة الحضارية بين الثقافات العريقة والحضارة المعاصرة ، بينما يعد من ضروب المستحيل إعادة العقل العربي إلى رشده ، وجعله يعيش السياق المعاصر ، ذلك أنه بسبب نرجسيته وإصابته بنكوص مزمن ، يعتبر إهانة له التخلي عن بطولاته القديمة ـ الوهمية في معظمها ـ من أجل تعلم أبجدية العصر الذي نحن فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلمو بريطانيا.. هل يؤثرون على الانتخابات العامة في البلاد؟


.. رئيس وزراء فرنسا: أقصى اليمين على أبواب السلطة ولم يحدث في د




.. مطالبات بايدن بالتراجع ليست الأولى.. 3 رؤساء سابقين اختاروا


.. أوربان يثير قلق الغرب.. الاتحاد الأوروبي في -عُهدة صديق روسي




.. لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.. فرنسا لسيناريو غير مسب