الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زهرة الأنوناكي

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 12 / 29
الادب والفن


" 1 "
ـــــــــــــــــــ
على عادتها صباح كلّ يوم ، ما إن أفاقت الملكة " شبعاد " ، وفتحت عينيها الذابلتين المتعبتين ، وهي في فراشها ، حتى التفتت إلى كبيرة الوصيفات ، التي تقف على مقربة منها ، وقالت : أرجو أن يكون ابني الأمير قد أفاق من النوم .
ومالت كبيرة الوصيفات عليها ، وردت قائلة بلهجة هادئة مطمئنة : نعم ، يا مولاتي ، لقد أفاق سيدي الأمير ، وتناول طعام فطوره .
وأبعدت الملكة عينيها عنها ، وقالت بصوتها المتعب : آمل أن فطوره كان طيباً ومفيداً .
ومالت كبيرة الوصيفات عليها ثانية ، وقالت : كلّ ما أمرت به ، وما يحبه سيدي الأمير ، كان أمامه على المائدة ، وقد أشرفت على ذلك بنفسي .
وتناهى وقع أقدام نشطة من خارج جناح الملكة ، فاعتدلت كبيرة الوصيفات ، وقالت باشة : مولاتي ، ها هو سيدي الأمير قادم .
فاعتدلت الملكة " شبعاد " في فراشها ، وقالت لكبيرة الوصيفات : دعينا وحدنا إذن .
وتراجعت كبيرة الوصيفات ، وهي تقول بصوت هادىء : إنني أقف بالباب ، يا مولاتي .
ودخل الأمير مبتسماً باشاً ، يزهو بعمره الذي لم يتجاوز العشرين ، وقال ، وعيناه لا تبصران غير أمه الملكة : مليكتي العزيزة ..
وقاطعته الملكة مبتسمة : أنا أمك ، أيها الأمير .
وأضاف بصوته المليء بالحيوية والشباب : ومليكتي ..
وقاطعته الملكة ثانية : أنا ملكة أور كلها إلا إنت ، فأنا أمك ، أمك فقط .
ومال عليها الأمير ، وقبلها ، ثم قال : آه ربيع ، ربيع سومر ، بل ربيع العالم كله .
وتراجعت ابتسامة الملكة " شبعاد " ، وقالت : لا يا بنيّ ، قل خريف سومر ، فالربيع هو أنت .
وجلس الأمير على طرف الفراش ، وأمسك يديها بكلتا يديه ، وقال : أنت الربيع الدائم ، وفي الخارج يضج الربيع ، تعالي معي ، وليتعانق الربيعان .
وسحبت الملكة يديها برفق من بين يديه ، وقالت بصوتها الواهن : إنني متعبة بعض الشيء ، لم أنم جيداً ليلتي هذه ، وكذلك الليالي الأخيرة ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت بصوت منكسر : يبدو أن الآلهة العظيمة ، التي تحبك كثيراً ، تريدك أنت بالذات ، أن تجلس على عرش مدينتها المقدسة أور .
وتطلع الأمير إليها بعينيه المحبتين ، وقال متأثراً : عرش أور العظيمة ، لا يليق إلا بملكة واحدة ، هي أنت ، يا مليكتي وأمي .
وحاولت الملكة " شبعاد " أن تبتسم ، وهي تتطلع إليه بعينيها الذابلتين المتعبتين ، وقالت : ربيع سومر في الخارج ، وأنت الربيع ، يا بني ، فاذهب ، ولتتعانقا ، وهذا ما يفرحني كثيراً .
ولاذ الأمير بالصمت ، فتمددت الملكة في فراشها متنهدة ، وقالت بصوت واهن متعب : اذهب ، يا عزيزي ، لكن لا تتأخر في الخارج ، أريد أن تتناول الغداء هنا ، لعلي أتناول معك بعض الطعام .
وقبل أن يخرج الأمير من الغرفة ، قالت له الملكة : بعد ظهر اليوم ، ستزورنا الأميرة " اشوميا " ، وأريد أن تجلسا معاً .

" 2 "
ــــــــــــــــــــ
نزل الأمير من القصر ، وراح يتجول في الحدائق المحيطة به ، التي يتفجر فيها الربيع أزهاراً متضوعة ، وأغاريد تعزف من كل مكان .
وعلى مسافة منه ، يقف حارسه الشاب اليقظ ، المسلح بسيف ورمح وخنجر ذي مقبض عاجي ، أهدته له الملكة " شبعاد " لشجاعته ووفائه للأمير .
وفجأة ، ووسط أشجار أزهرها الربيع ، ظهرت امرأة عجوز نضرة ، تقف مبتسمة ، وهي تتطلع إلى الأمير ، بعينيها السوداوين الذكيتين .
وعلى الفور ، أسرع الحارس الشاب نحوها ، ويداه تشدان على رمحه ، وقال لها بصوت حازم : أيتها المرأة العجوز ، اخرجي من هنا .
لم تتحرك المرأة العجوز من مكانها ، ولم ترفع عينيها عن الأمير ، وكأنها لم تسمع الحارس الشاب أو تراه ، وقالت مخاطبة الأمير : أيها الأمير ، تعال .
وحاول الحارس الشاب إبعادها ، موجهاً رمحه حولها ، وهو يقول : قلت لك ، اخرجي .
ومرة أخرى ، لم تلتفت العجوز إليه ، وخاطبه الأمير قائلاً : أيها الحارس ، دعها .
والتفت الحارس الشاب إلى الأمير ، وقال : مولاي ، دعني أبعدها ، إنها عجوز ساحرة .
واقترب الأمير من المرأة العجوز ، وقال للحارس الشاب : ابتعد أنتَ .
وتراجع الحارس الشاب متردداً ، وهو يتمتم : سيدي ، أرجوك ، لا تقترب منها ، إنها ..
وأشار الأمير للحارس الشاب أن يسكت ويبتعد ، فلاذ الحارس بالصمت ، ومضى مبتعداً ، لكنه سرعان ما توقف ، وعيناه الحذرتان تتنقلان بين الأمير والمرأة العجوز ، التي قال إنها ساحرة .
وتوقف الأمير أمام المرأة العجوز ، وحدق فيها ملياً ، ثم قال : لا أعرف كيف وصلتِ إلى هنا ، لكن يبدو أن لديك شيئاً تودين أن تقوليه لي .
وابتسمت المرأة العجوز ، وقالت : نعم ، لديّ فعلاً ما أقوله لك ، أيها الأمير الشاب .
وابتسم الأمير بدوره ، وقال : هذا ما خمنته ، تفضلي ، إنني أصغي إليكِ .
وحدقت المرأة العجوز ، في عيني الأمير الشابتين المتلهفتين ، وقالت : إنني أرى جيداً ، ما رأيته أنتَ في المنام ، خلال اليومين الأخيرين .
ولاذ الأمير بالصمت لحظة ، ثم قال : هذا مستحيل ، فما رأيته في المنام ، خلال الليلتين السابقتين ، لم يكن شيئاً عادياً ، كما إنني لم أحكه لأحد .
وابتسمت المرأة العجوز ، وقالت : رأيت زهرة جميلة ، غريبة ، من أزهار الانوناكي .
وهزّ الأمير رأسه ، وقل : لا ، لم أرَ زهرة ، وإنما رأيت فتاة ، فتاة جميلة ، غريبة الشكل .
واتسعت ابتسامة المرأة العجوز ، وقالت : رأيتها في المنام ، خلال ليلتين متتاليتين ..
وردّ الأمير قائلاً : نعم .
وتابعت المرأة العجوز قائلة ، وهي مازالت تبتسم : فتاة بيضاء البشرة ، شعرها مثل الذهب ، وعيناها مثل سماء أور في فصل الصيف ، رأيتها تقف قرب شجرة ضخمة ، تطل على نبع ماء كالمرآة .
وبدت الدهشة على الأمير ، لكنه قال : نعم ، رأيت هذه الفتاة فعلاً قرب النبع .
واستدارت المرأة العجوز ، ومضت مبتعدة ، وهي تقول : هذا ما رأيته أنا أيضاً .
وناداها الأمير قائلاً : أيتها المرأة ، توقفي .
لكن المرأة العجوز لم تتوقف ، وواصلت سيرها ، وهي تقول : ستراها في نفس المكان ، الذي رأيتها فيه في المنام ، إنها .. زهرة الانوناكي .
وحاول الأمير أن يلحق بها ، لكنها وكما ظهرت فجأة ، اختفت فجأة ، وتوقف الأمير مذهولا ، حائراً ، لا يعرف ما الذي عليه أن يفعل .




" 3 "
ــــــــــــــــــــ
قبل أن تتناول " نيبيرو " طعام الفطور ، تفقدت كالعادة خشفها ، الذي اصطادته لها أمها قبل أشهر قليلة ، وبحثت عنه قرب الشجرة ، حيث تجده كلّ صباح ، كأنه على موعد معها ، ليقوما بجولتهما المعتادة ، في الأطراف القريبة من الغابة .
ونادته بلغته المحببة : خشوفي ..
لكن خشوفي لم يردّ عليها ، فنادته ثانية بصوت أعلى : خشوفي .. خشوفي .
وهذه المرة أيضاً ، لم يردّ عليها ، وبدل الخشف سمعت أمها تناديها من باب الكوخ : نيبيرو ، الفطور جاهز ، تعالي نأكل .
وتلفتت نيبيرو حولها حائرة قلقة ، وقالت : ماما ، بحثت عن خشفي ، في كلّ مكان ، ولم أجده .
ونظرت أمها إليها ، وقالت : لا تقلقي ، يا بنيتي ، إنه خشف صغير ، ولابد أنه يرعى في الجوار .
وخيل لنيبيرو ، أنها تسمع مأمأة خشفها ، تصدر من مكان ليس ببعيد ، فاتجهت نحو مصدر المأمأة ، وهي تقول لأمها : أسمع مأمأته ، يا ماما ، سأذهب إليه ، وآتي به ، أخشى أن يبتعد ، فيأكله الذئب .
وضحكت الأم ، وقالت : تعالي ، يا بنيتي ، لا يوجد هنا ذئب ، وسيعود خشفك إليك ، بعد أن يشبع .
لكن نيبيرو لم تلتفت إلى أمها ، ومضت تلاحق ما توهمت أنه مأمأة خشفها ، وفي أجمة قريبة ، ملتفة الأشجار ، تفاجأت بظهور امرأة عجوز ، لم يسبق لها أن رأتها في الجوار ، فتوقفت مترددة ، خائفة .
وأشارت لها المرة العجوز ، وقالت بصوت هادىء : تعالي ، أيتها الجميلة .
واقتربت نيبيرو منها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فحدقت المرأة العجوز فيها بعينيها النافذتان ، وقالت : آه يا للجمال النادر ، بشرة بيضاء ، وشعر ذهبي ، وعينان بلون سماء أور .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أعرف عما تبحثين ..
ونظرت نيبيرو إليها صامتة ، فقالت : أنت تبحثين عن خشفك .
واقتربت نيبيرو من المرأة العجوز بلهفة ، وقالت : نعم ، دليني عليه ، إذا كنتِ قد رأيته ، أيتها الجدة .
وتطلعت المرأة العجوز إليها مبتسمة ، وقالت : رأيته ، وسترينه أنتِ أيضاً ، بل ربما سترين معه .. غزال العمر ، الذي تحلم به كلّ فتاة في عمرك .
وحدقت نيبيرو فيها ملياً ، وفكرت فيما تعنيه هذه المرأة العجوز ، التي تبدو داهية ، ثم قالت : من فضلك ، دليني على مكان الخشف ، فأنا أخاف عليه من الذئب .
وابتسمت المرأة العجوز ثانية ، وقالت بصوت موحي : لا تخافي ، يا جميلتي ، لن يجرؤ ذئب على التعرض لخشفك ، أو الاقتراب منكِ ..
وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : خشفك المحبوب بين يدين أمينتين قويتين ، نابعتين من أرض سومر السمراء الخصبة الطيبة .
وتطلعت نيبيرو إليها حائرة ، وقالت : عفواً ، لا أفهم ما تقصدين ، أيتها الجدة .
وردت المرأة العجوز قائلة : ستفهمين ما أقصده ، اليوم اليوم وليس غداً ، ستفهمين عندما تلقين خشفك .
وتساءلت نيبيرو بصوت متلهف : وأين سأجده ؟ هذا الخشف الطائش .
وأشارت المرأة العجوز إلى طريق يتوغل إلى وسط الغابة ، وقالت : سيري على هذا الطريق ، وستجدينه قرب شجرة ضخمة ، تطل على النبع .
ونظرت نيبيرو بعينيها القلقتين إلى حيث أشارت المرأة العجوز ، ثم عادت بعينيها لتنظر إليها ، لتشكرها ، لكنها لم تجدها ، ولم تجد لها أي أثر .
ووقفت نيبيرو خائفة ، وهمّت أن تسرع عائدة إلى الكوخ ، لكن تناهت إليها من أعماق الغابة مأمأة خشفها ، كأنها يناديها أن تعالي ، فتناست خوفها ، واندفعت بهمة نحو خشفها ، ملبية مأمأته الساحرة .

" 4 "
ـــــــــــــــــــ
سارت نيبيرو على الطريق ، الذي تحف به الأشجار ، وبدا وكأنه طريق مهد من أجلها ، في هذا الطرف المنعزل من الغابة .
وخيل لها ، لسبب لا تدريه ، أن الطريق قد يطول ، لكننها لن تضل فيه ، وستصل النبع ، الذي حدثتها عنه المرأة العجوز .
وفوجئت بالطريق ينفتح فجأة ، عن فسحة ساحرة الجمال ، تغمرها أشعة الشمس ، وقد توسطتها شجرة ضخمة ، وارفة الظلال ، تطل على نبع متدفق ، بدا ماؤه وكأنه مرآة صافية .
وخفق قلبها فرحاً ، إذ لمحت خشفها ، يقف تحت الشجرة الضخمة ، لكنه لم يكن وحده ، فقد كان إلى جانبه ، يقف شاب غريب حسن المظهر .
وتوقفت نيبيرو ، ونادت خشفها باسم التدليل ، وبصوت رقيق : خشوفي ..
وتطلع الخشف إليها ، بعينيه الواسعتين السوداوين الجميلتين ، لكنه ظل في مكانه قرب الشاب الغريب ، لا يريم ، فأشارت نيبيرو له أن تعال ، وهي تقول له بنفس الصوت الرقيق : تعال ، يع عزيزي خشوفي ، تعال ، أنا حبيبتك نيبيرو .
وهذه المرة أيضاً ، ظل الخشف في مكانه ، رغم أن الشاب الغريب لم يمنعه من تلبية ندائها له ، وتحيرت نيبيرو ، ماذا تفعل ، ورفعت عينيا الزرقاوين إلى الشاب ، ورأته يتطلع إليها صامتاً .
ومأمأ الخشف ، فنادت نيبيرو قائلة : تعال .. تعال .
ولم يتحرك الخشف من مكانه ، فقال الشاب الغريب : تعالي ، وخذيه ، إذا كان خشفكِ .
وبصورة لا إرادية ، سارت نيبيرو نحوالشاب الغريب ، وعيناها الزرقاوان تغوصان في عينيه السوداوين ، وهي تقول بصوت رقيق : نعم ، إنه خشفي ، وعادة ما يستجسب لندائي ، عندما أناديه .
وسكتت نيبيرو ، وعيناها الزرقاوان مازالتا تغوصان في عينيه السوداوين ، فقال الشاب : ربما يريد هذا الخشف ، أن أتعرف بك ، بعد أن تعرف هو بي .
وتوقفت نيبيرو أمامه ، فتأملها ملياً ، ثم قال : يا للعجب ، لم يسبق لي أن رأيتك ، في هذه الغابة .
وقالت نيبيرو : أنا أيضاً لم يسبق لي أن رأيتك هنا ، أو في أي مكان .
وقال الشاب الغريب ، وهو مازال يتأملها : أنت لا تشبهين أحداً ، ممن أعرفه ، لا في أور ، ولا في أية مدينة أخرى من مدن سومر .
ولاذت نيبيرو بالصمت لحظة ، ثم قالت : ربما هذا لأني لست سمراء مثلك ، أو مثل أمي .
وهزّ الشاب الغريب رأسه ، وهو مازال يتأملها ، وقال : ليس هذا فقط ، لكن ..
وسكت برهة ، ثم قال : أنت فتاة جميلة جداً .
وبدل أن تتراجع نيبيرو ، أو تبدو محرجة ، ابتسمت فرحة ، وقالت : أشكرك .
ونظرت نيبيرو إليه ، وعادت تغوص في عينيه السوداوين العميقتين ، وقالت : أنت أيضاً جميل ، وبالأخص عيناك .
ولاذ الشاب الغريب بالصمت ، وراح أحدهما يتأمل الآخر ، يغمرهما شعور دافىء محبب ، وأفاقت نيبيرو ، حين سمعت خشفها يمأمأ ، فأخذته بين ذراعيها ، وقالت : ماما تنتظرنا الآن ، فلنذهب بسرعة إليها .
واستدارت نيبيرو ، ومضت مسرعة على الطريق ، والخشف بين يديها ، فهتف بها الشاب الغريب : أيتها الجميلة ، أريد أن أراك ثانية .
وردت نيبيرو ، دون أن تلتفت إليه : غداً .
وتساءل الشاب الغريب : أين ؟
فقالت نيبيرو : هنا ، قرب النبع .

" 5 "
ـــــــــــــــــــ
عند منتصف النهار ، اعتدلت الملكة في فراشها ، فأسرعت إليها كبيرة الوصيفات ، ومالت عليها ، وقالت بصوت خافت : مولاتي .
ومن غير أن تنظر إليها ، قالت الملكة بصوتها المتعب الواهن : يبدو أن الأمير ، لم يأتِ بعد .
وردت كبيرة الوصيفات ، بنفس الصوت الخافت : سيأتي سيدي الأمير قريباً ، فهذا هو وقت عودته إلى القصر ، يا مولاتي .
وصمتت كبيرة الوصيفات لحظة ، ثم ابتسمت قائلة :
مولاتي ، إنه الربيع ، وسيدي .. ربيع .
وتنهدت الملكة ، وقالت : آه ربيع سومر .
ونظرت الملكة إلى كبيرة الوصيفات ، وقالت : أتمنى أن يأتي الأمير ، قبل أن تأتي الأميرة ، فقد اقترب موعد زيارتها لي .
وقالت كبيرة الوصيفات بصوت مطمئن : سيأتي ، يا مولاتي ، سيأتي سيدي في الوقت المناسب ، وسيلتقي بسيدتي الأميرة .
وتنهدت الملكة ثانية ، وهي تضع رأسها المتعب على المخدة ، وقالت وكأنما تحدث نفسها : آه .. رأيته في المنام .. هذه الليلة .
ولأن كبيرة الوصيفات ، تعرف عادة الملكة ، فإنها لاذت بالصمت ، فتابعت الملكة قائلة : نعم ، رأيته ، زوجي الملك .. اباركي .
وصمتت ثانية ، ثم قالت : بدا لي ، كما في الماضي ، في أوج قوته ، وجلاله ، وجماله ..
ونظرت الملكة إلى كبيرة الوصيفات ، وأضافت قائلة : قال لي ، شبعاد ، إنني مشتاق إليك ، وقد آن الأوان ، تعالي إليّ ، تعالي ، تعالي .
ومالت كبيرة الوصيفات على الملكة ، وقالت بصوت هادىء ، حاولت أن لا يكون حزيناً : مولاتي ..
وفتحت الملكة عينيها ، وكأنها فوجئت بوجود كبيرة الوصيفات ، وقالت بصوت ازداد وهناً : لعل اباركي .. على حق .. فأنا متعبة جداً .
وقالت كبيرة الوصيفات ، وهي تحبس دموعها : أنت بخير ، يا مولاتي ، وستتعافين قريباً بعون الآلهة ، فأور بحاجة إليك .
ولاذت الملكة بالصمت برهة ، ثم نظرت إلى كبيرة الوصيفات ، وقالت : ستأتي الأميرة بعد قليل ، وسأكون منشغلة معها .
وتمتمت كبيرة الوصيفات : أهلاً بسيدتي الأميرة .
وقالت الملكة مخاطبة كبيرة الوصيفات : ابقي معي هذه الليلة ، أريد أن أتحدث إليكِ .
وردت كبيرة الوصيفات قائلة : أمر مولاتي .
وأغمضت الملكة عينيها الذابلتين المتعبتين ، فتراجعت كبيرة الوصيفات بهدوء ، ثم خرجت من الغرفة ، وبهدوء شديد أغلقت الباب .

" 6 "
ــــــــــــــــــــ
دخل الأمير إلى القصر ، ولمح في طرف الحديقة حارسين ، في ثياب يغلب عليها اللون الأسود ، فعرف أن الأميرة " " موجودة عند أمه الملكة ، وخمن أنها لابد وأن تكون متوترة لغيابه ، دون أن يظهر على وجهها الجامد أي شيء .
وما إن دخل القصر ، واتجه إلى جناح الملكة ، حتى أسرعت إليه وصيفة شابة ، كانت واقفة على مقربة من باب الجناح ، وقالت له بصوت خافت : سيدي ، جلالة الملكة تسأل عنك ، وتريدك في جناحها .
وواصل الأمير سيره ، دون أن يلتفت إلى الوصيفة الشابة ، فتوقفت الوصيفة الشابة ، ثم تراجعت ، وعادت بهدوء إلى مكانها .
وفتح الأمير باب جناح الملكة ، ومضى إلى الداخل مسرعاً ، ونظرت الملكة إليه ، والأميرة بوجهها الجامد تجلس على كرسيّ إلى جانبها ، وقالت بنبرة عتاب : تأخرت ، يا بنيّ الأمير .
وردّ الأمير قائلاً : عفواً ، يا أمي .
ثم التفت إلى الأميرة ، ورمق وجهها الجامد بنظرة سريعة ، وقال : عمتِ صباحاً ، أيتها الأميرة .
ونظرت الأميرة إليه ، وقالت : عمت صباحاً ، يا سيدي الأمير .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أخبرتني جلالة الملك ، أنك خارج القصر ، منذ الصباح .
ورمقها الأمير بنظرة خاطفة ، ثم قال : نعم ، كنت أتجول وحدي في الغابة .
ونظرت الملكة إليه ، وقالت : ليتك أخذت الأميرة معك ، فأجواء الغابة رائعة ، في مثل هذه الأيام .
وقال الأمير ، دون أن ينظر إلى الأميرة : في المرة القادمة ، سآخذها معي ، يا مولاتي .
ونهضت الأميرة ، ووجهها الجامد ، باقٍ على جموده ، وانحنت للملكة ، وقالت : مولاتي ، اسمحي لي ، لقد أطلت زيارتي ، وجلالتك متعبة .
ونظرت الملكة إليها ، وقالت : لا تنسي ، أريد في أقرب فرصة أن تذهبي مع الأمير ، وتتجولي معه في الغابة ، فالجو الآن ربيع .
وتراجعت الأميرة قليلاً ، ووجهها باق على جموده ، وقالت : ما تشائينه ، يا مولاتي .
ونظرت الملكة إلى الأمير ، وقالت : بني ، اذهب مع الأميرة ، حتى باب القصر .
وردّ الأمر قائلاً : نعم ، أمي .
وخرجت الأميرة من جناح الملكة ، وخرج الأمير معها ، وسارا معاً صامتين في أبهاء القصر ، وما إن خرجا إلى الحديقة ، حتى أسرع الحارسان ، بثيابهما التي يغلب عليها اللون الأسود ، وسارا خلف الأميرة .
وعند باب القصر ، توقفت الأميرة ، والتفتت إلى الأمير ، وقالت : توقعت أن أراك في القصر ، فقد أخبرت جلالة الملكة بموعد زيارتي لها هذا اليوم .
وردّ الأمير قائلاً : عرفت بأنك ستأتين ، لكني لم أعرف أنك ستأتين في هذا الموعد بالذات .
ولاذت الأميرة بالصمت لحظة ، ثم قالت : أبي يسأل عنك ، فأنت لم تزره منذ فترة .
فقال الأمير : تحياتي إلى أبيك ، قائد الجيش ، سأزوره في وقت قريب .
والتفتت الأميرة إلى الحارسين ، وقالت بصوت جاف : هيا ، فلنذهب .
وذهبت الأميرة ، والحارسان بثيابهما ، التي يغلب عليها اللون الأسود ، يتبعانها كظلها ، وظل الأمير برهة في مكانه ، ثم استدار عائداً إلى داخل القصر .

" 7 "
ــــــــــــــــــ
رغم تأخر نيبيرو ، التي خرجت للبحث عن خشفها ، ورغم انتصاف النهار ، إلا أن الأم لم تتناول لقمة واحدة من الطعام ، الذي أعدته للفطور .
وجاءت نيبيرو أخيراً ، بعد منتصف النهار ، وما إن رأتها الأم مقبلة ، والخشف يهرول أمامها ، حتى أسرعت إليها متهللة ، وهي تقول : أقلقتني ، يا حبيبتي ، وخشيت أن يكون الذئب قد ..
وضحكت نيبيرو ، وقالت : لكنك قلت لي ، يا ماما ، ليس في غابتنا ذئب .
ومدت الأم يديها ، وعانقت نيبيرو بشدة ، وقالت : بعض الناس ، أسوأ من الذئاب ، وأخطر منهم .
وتملصت نيبيرو من بين يديها ، وهي تقول : قوليها صراحة ، يا ماما ، إنك تخشين الناس ، لسبب لا أعرفه ، ولذا تختبىئين بي هنا ، في هذا الطرف من هذه الغابة الواسعة الموحشة .
ودفعتها الأم برفق ، وقالت : أجعتني ، يا غزالتي ، ولم أتناول لقمة واحدة حتى الآن ، هيا سأسخن الطعام ثانية ، ونفطر ونتغدى في نفس الوقت .
وفي الكوخ ، سخنت الأم الطعام ، الذي أعدته للفطور ، ووضعته على السفرة ، وجلست قبالة نيبيرو ، وقد لاحظت صمتها وسهومها غير العاديين ، وقالت : هيا يا حبيبتي ، وإلا برد الطعام ثانية .
وتناولت نيبيرو بضعة لقيمات من الطعام ، وهي مازالت صامتة ساهمة ، ثم رفعت عينيا إلى الأم ، وقال بصوت غريب على الأم : ماما ..
ولم ترتح الأم لصوت نيبيرو ، لكنها نظرت إليها ، وقالت : نعم حبيبتي .
وقالت نيبيرو : أريد أن تصدقيني .
وتوقفت يد الأم بلقمة الطعام ، قبل أن تصل بها إلى فمها ، وحدقت في نيبيرو ملياً ، ثم قالت : نحن ، أنا وأنت ، كما ترين ، يا حبيبتي ، نعيش هنا هادئتين آمنتين ، لا ينقصنا أي شيء .
وتغاضت نيبيرو عما قالته الأم ، وتساءلت بصوت غريب : أصدقيني ، من أنا ؟
وفوجئت الأم بما قالته نيبيرو ، لكنها كتمت عواطفها ، وقالت : أنت ! أنتِ ابنتي .
وحدقت نيبيرو فيها ، وقالت : ما أعرفه أن الفتاة تشبه عادة أمها ..
ولاذت الأم بالصمت ، فقالت نيبيرو بنفس الصوت الغريب : عندما أنظر إلى ماء البركة الصافية ، وأحدق في وجهي ، بشرة بيضاء ، وشعر أصفر ، وعينان زرقاوان ، و .. لا أرى أي شبه بيني وبينكِ .
ووضعت الأم لقمة الطعام جانباً ، وقالت : هذا يحدث أحياناً ، يا نيبيرو ، إنها إرادة الآلهة .
وقالت نيبيرو ، كأنها لم تكن تصغي إلى الأم : أقول ، ربما كنت أشبه أبي ، الذي لم أره .
ولاذت الأم بالصمت ثانية ، وكأنما أثار قول نيبيرو مواجعها الماضية ، ثم قالت : زوجي ، ذهب إلى الحرب ، ولم يعد مطلقاً ..
ونظرت إلى نيبيرو ، ثم قالت : أردت الحقيقة ، وسأصارحك بالحقيقة كاملة ، يا نيبيرو .
وقالت نيبيرو : هذا ما أرجوه .
وتابعت الأم قائلة : ولدت طفلة ، بعد ذهابه إلى الحرب ، بأشهر قليلة .. وتساءلت نيبيرو : أنا !
لم تجبها الأم ، وإنما نهضت من مكانها ، وتوقفت عند الباب ، فنهضت نيبيرو ، ووقفت إلى جانبها ، وقالت : أكملي ، يا ماما .
وقالت الأم بصوت تبلله الدموع : لكن الطفلة ماتت بعد أشهر ، وكانت مثلي سمراء ..
وصمتت الأم ، ونظرت إلى نيبيرو ، وقالت : ذات ليلة مقمرة ، وكنت جالسة وحدي ، تحت شجرة أما الكوخ ، أقبل رجل غريب ، يشبهك تماماً ، لا أدري من أين جاء ، ووضع بين يديّ طفلة كالقمر ..
وتساءلت نيبيرو ثانية : أنا !
وردت الأم قائلة : نعم ، أنتِ يا نيبيرو .
وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : قال لي الرجل ، هذه طفلتي ، أبقيها عندك ، فأنا هارب من كوكب نيبيرو ، وقد أعود ذات يوم وآخذها معي .
وصمتت الأم ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، ثم مدت يديها ، وأخذت نيبيرو إلى صدرها ، وقالت : أنتِ ابنتي ، ربما أن ذلك الرجل الغريب ، كان مبعوثاً من الآلهة ، ليقدمك لي ، بدل ابنتي الصغيرة الراحلة .




" 8 "
ــــــــــــــــــــ
عند حوالي منتصف الليل ، أفاقت الملكة شبعاد ، كأن أحداً هزها برفق ، وما إن فتحت عينيها ، حتى رأت كبيرة الوصيفات تقف إلى جانب سريرها ، فتمتمت بصوت واهن : أنتِ هنا !
ومالت كبيرة الوصيفات عليها ، وقالت بصوت خافت : مولاتي .
وحدقت الملكة فيها ، وقالت : الوقت متأخر ، كان عليكِ أن تكوني في فراشكِ .
فقالت كبيرة الوصيفات بصوتها الخافت : مولاتي ، أردتِ أن تتحدثي إليّ ، فكيف أنام ؟
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : آه منذ أن فتحت عينيّ ، على هذه الحياة ، قبل أكثر من أربعين سنة ، وأنت إلى جانبي ، لا تفارقينني .
فقالت كبيرة الوصيفات : هذا شرف كبير لي ، يا مولاتي ، فأنت تاجي وتاج أور كلها .
ولاذت الملكة بالصمت لحظة ، ثم قالت : مادمتِ هنا ، فأريد أن أتحدث إليك ، أصغي إليّ جيداً .
وقالت كبيرة الوصيفات بصوت هادىء : كلي آذان صاغية ، يا مولاتي .
وتابعت الملكة قائلة : قلتُ لكِ صباح اليوم ، أن مليكي ، ملك أور العظيمة ، اباكي ، يناديني من عالمه ، وعليّ أن ألبي النداء ، وأذهب إليه .
وبصوت دامع ، قالت كبيرة الوصيفات : مولاتي .. وتابعت الملكة قائلة ، دون أن تصغي إليها : عندما تحين ساعتي ، وأرحل عن هذا العالم ، أريد أن أدفن إلى جانب زوجي ومليكي الحبيب اباركي ..
ولاذت كبيرة الوصيفات بالصمت ، ودموعها تسيل على خديها ، وتابعت الملكة قائلة : أريده ضريحاً ضخماً ، واسعاً ، توضع فيه إلى جانب وصيفاتي وخدمي ، أثاثاً ضرورياً لرحلتي إلي العالم السفلي .
وصمتت الملكة مرة أخرى ، ثم قالت بصوت راح يزداد خفوتاً شيئاً فشيئاً : وأريدك أنت نفسك ، أن تلبسيني ردائي المقصب ، وتضعي على جيدي جميع حلي من الذهب والأحجار الكريمة ، وأريد أيضاً قيثارتي الملكية ، التي صنعت خصيصاً لي .
وصمتت الملكة شبعاد ، وانسدل جفناها فوق عينيها الذابلتين المتعبتين ، وخفق قلب كبيرة الوصيفات بشدة ، وهي تحدق فيها خائفة ، والدموع تسيل من عينها ، لكن قلبها هدأ قليلاً ، حين رأت الملكة تتنفس بانتظام ، وقد استغرقت في نوم عميق .

" 9 "
ـــــــــــــــــــــ
عند الضحى ، من اليوم التالي ، اتجهت نيبيرو وخشفها إلى النبع ، على أمل أن تسبق الأمير وتصل قبله ، لكنها حين وصلت فوجئت بالأمير ، يقف تحت الشجرة الضخمة ، المطلة على النبع .
وما إن رآها الأمير مقبلة ، حتى أسرع إليها متلهفاً ، وقال : كم خشيتُ ..
وقاطعته نيبيرو ضاحكة : خشيت أن يأكلني الذئب ، أنا وخشفي ، في الطريق إليك .
وضحك الأمير بدوره ، وقال : بل خشيت أن لا تأتي ، خاصة وأنا لا أعرف بعد أين تسكنين .
وتوقفت نيبيرو قبالته ، وعيناها الزرقاوان تتفرسان فيه ، وقالت : أما أنا فلم أخشى ذلك .
وحدق الأمير فيها متوجساً ، متسائلاً ، وكأنه ظنّ أنها لا تهتم به ، بالقدر الذي يهتم هو بها ، فقالت : لقد رأيت في عينيك السوداوين ، أنك تريد أن تلتقي بي ، وها أنا أمامك قرب هذا النبع .
ومدّ الأمير يده ، وأمسك يدها ، وسحبها برفق نحو الشجرة الضخمة ، وهو يقول : تعالي ، يا نيبيرو ، نجلس هنا ، تحت هذه الشجرة .
وجلسا تحت الشجرة الضخمة ، وأحدهما يتمعن في الآخر ، وقال الأمير : آه يبدو لي أنك لستِ فتاة كباقي الفتيات ، وإنما ساحرة .
وضحكت نيبيرو ، وقالت : ما دمت قد جئت بك إلى هنا ، فأنا ساحرة فعلاً .
وهزّ الأمير رأسه ، وقال : لم أكن أعرف ، قبل أن أراكِ البارحة ، بأني شاعر .
وتساءلت نيبيرو مندهشة : شاعر !
فتابع الأمير قائلاً : أصبحت أقول الشعر ، كما يقوله شعراء أور العشاق ، وإن كان ربما ليس في مستوى ما يقولونه ، إلا أنه عندي شعر ، صادق ، اسمعي ، سأقرؤه لكِ ، واحكمي أنتِ بنفسكِ .
ووضعت نيبيرو وجهها القمر بين كفيها ، وهي جالسة قربه ، وقالت : تفضل ، إنني أسمع .
وتهيأ الأمير لحظات ، ثم بدأ يقرأ بصوت هادىء :
عندما يغيب القمر
وتنطفىء النجوم
أنتِ شمسي
أشرقي عليّ
وأضيئ لي الطريق إليكِ
وسكت الأمير ، وهو ينظر إليها ، فابتسمت نيبيرو ، وقالت : هذا كلام غير عادي .
وأضاءت ملامح الأمير فرحة كبيرة ، وقال : نعم ، كلام غير عادي ، إنه شعر .
وتساءلت نيبيرو : هذا الشعر عني !
فرد الأمير قائلاً : عنك ولكِ أيضاً ، يا نيبيرو .
واقتربت نيبيرو منه ، وقالت : اقرأ لي مزيداً من هذا الشعر ، يا عزيزي .
واعتدل الأمير في جلسته ، وهو يحدق في عينيها الزرقاوين ، وقال :
حبيبتي
أنت في نظري تمثال من الذهب
تحفة فنان في معالجة الخشب
تحفة فنان في معالجة المعدن
بودي أن تبقي أمامي إلى الأبد
يا حبيبتي
وهنا هبّت نيبيرو من مكانها ، وقالت : آه ما أروع هذا الكلام الشعر ، لكن .. ، فلأسرع ، لابد أن أمي المسكينة قلقة عليّ الآن .
ونهض الأمير ، وقال : أنا أيضاً أنتظرك .
ومضت نيبيرو مسرعة ، وهي تهتف قائلة : انتظرني غداً .. هنا .. قرب هذا النبع .


" 10 "
ـــــــــــــــــــــ
استمرت زيارات الأميرة للملكة شبعاد ، في الفترة الأخيرة ، كلّ يوم تقريباً ، وفي أوقات مختلفة ، ربما لأن حالة الملكة الصحية ، راحت تتراجع وتتدهور ، يوماً بعد يوم ، وهذا ما تقوله لأبيها قائد الجيش ، ولكن ربما كان هناك سبب آخر ، لم تصرح به لأحد .
واليوم ، عند العصر ، نهضت الأميرة من مقعدها ، القريب من سرير الملكة ، وقالت : مولاتي ، أنت متعبة ، أستودعك الآلهة ، عليّ أن أذهب .
وتنهدت الملكة ، وقالت بصوت واهن : للأسف ، تأخر الأمير اليوم أيضاً ، كنت أريده أن يجلس معكِ ، وتتبادلان الحديث معاً .
فقالت الأميرة ، ووجهها الجامد لا يفصح عن مشاعرها الحقيقية ، رغم أنها كانت تعاني في داخلها : في يوم آخر ، يا مولاتي ، إن شاءت الآلهة .
وفي اليوم التالي ، في نفس الوقت تقريباً ، استأذنت الأميرة للانصراف ، فقالت الملكة وصوتها يزداد وهناً : إنني خائفة على الأمير ، إنه يتأخر هذه الأيام في الغابة ، لسبب لا أدريه .
وتوقف الأميرة ، وتطلعت إلى الملكة ، وقالت : لا أظنه يصطاد شيئا إلى هذا الوقت .
وردت الملكة قائلة : لم يأتِ بصيد إلى القصر ، ولم يهتم بالصيد في يوم من الأيام .
وتراجعت الأميرة إلى الوراء ، وهي تقول : هذا ما خمنته ، عمتِ مساء ، يا مولاتي .
وخرجت الأميرة من القصر ، وحارساها اللذان يرتديان ثياباً يغلب عليها اللون الأسود ، يسيران كالعادة وراءها ، وكأنهما ظلان ّ لها .
وفي الطريق قالت الأميرة بصوتها الآمر ، دون أن تلتفت إلى حارسيها : الأمير يقضي معظم نهاره في الغابة ، أريد أن أعرف ، ما الذي يفعله هناك طوال الوقت ، أريد هذا بأسرع وقت ممكن .
في اليوم التالي ، اقترب الحارسان منها ، وكانت تقف في حديقة القصر ، وقال الأول : مولاتي ، راقبنا الأمير اليوم طول النهار .
وحدقت الأميرة فيهما ، وقالت : حسن ، إنني أصغي ، عسى أن تكونا قد عرفتما شيئاً ذا بال .
وتقدم الثاني منها ، وقال : إنه يلتقي وسط الغابة ، قرب النبع ، بفتاة غريبة ، تبدو وكأنها ليست من عالمنا هذا ، الذي نعيش فيه نحن البشر .
وحدقت فيه مندهشة متسائلة ، فقال الحارس الأول : مولاتي ، إنها فتاة شابة ناصعة البياض ، شعرها أصفر كالذهب ، وعيناها زرقاوان .
ولاذت الأميرة بالصمت لحظة ، ثم قالت : هذه الفتاة خطر على الأمير ، وعلى أور كلها ، وأنا لا أريد للأمير ولا لأور ، مثل هذا الخطر .
وانحنى الحارسان ، اللذان يرتديان ثياباً يغلب عليها اللون الأسود ، ثم مضيا مبتعدين ، وظلت الأميرة ، جامدة الوجه ، واقفة وسط الحديقة .

" 11 "
ــــــــــــــــــــــ
قبل أن تشرق شمس هذا اليوم الربيعي الجميل ، مضى الأمير إلى موعده مع نيبيرو ، فعليه هذا اليوم أيضاً ، كما في كلّ الأيام السابقة ، أن يصل قبلها إلى الشجرة الضخمة ، التي تطل على النبع .
إنه يريد أن يتأملها ، وهي تقبل راكضة نحوه ، والريح العاشقة تطاير شعرها الذهبي ، وتنقل إليه ضحكتها الفرحة فرحة الربيع في هذه الغابة .
وبالفعل وصل الأمير إلى الشجرة الضخمة ، المطلة على النبع ، وشعر بالفرح لأن نيبيرو ، لم تكن قد وصلت بعد ، ها هو يسبقها اليوم أيضاً ، ووقف تحت الشجرة الضخمة ، ينتظر أن تقبل عليه راكضة ، والريح تطاير شعرها الذهبيّ .
وفكر أن يمازحها ، ويوهمها بأنها سبقته في الحضور إلى النبع هذا اليوم ، فالتف حول الشجرة الضخمة ، وتوارى وراءها ، وراح ينتظر .
ومرّ الوقت بطيئاً ، وارتفعت الشمس فوق الأشجار شيئاً فشيئاً ، وجاء الضحى ، لكن نيبيرو لم تطل ، ولم يرها تقبل راكضة نحوه ، والريح تطاير شعرها الذهبيّ ، ماذا جرى ؟ من يدري .
وتطلع الأمير نحو الطريق ، الموصل إلى النبع ، لا بأس ، فالشمس تتدلل أحياناً ، وتحتجب بعض الوقت ، لتزيد الشوق إليها ، والشمس نيبيرو نفسها ، تأخرت بعض الشيء ، لكنها ستطل حتماً ، وستقبل راكضة ، والريح تطاير شعرها الذهبيّ .
وارتفعت الشمس حتى بلغت كبد السماء ، لكن نيبيرو لم تطلّ ، وهمّ الأمير أن يخرج من وراء الشجرة ، عندما تناهى إليه ، وقع أقدام الخشف ، ومعها وقع أقدام أخرى ، وخفق قلبه بشدة ، صحيح أن الشمس تأخرت ، ولكن ها هي تطل عليه أخيراً .
وأطل الأمير برأسه ، من وراء الشجرة الضخمة ، ورأى الخشف ، متجهاً نحوه على الطريق ، لكنه لم يرَ نيبيرو ، بشعرها الذهبيّ المتطاير ورأى بدلها امرأة وسطاً ، تسير بخطوات تائهة ، وعيناها الخائفتان تدوران فيما حولها ، بحثاً عن عزيز افتقدتاه .
وخرج الأمير من وراء الشجرة الضخمة ، وتوقف على مقربة منها ينتظر ، وعيناه لا تفارقان الخشف والمرأة ، التي تسير إلى جانبه .
وتوقفت المرأة أمامه ، وقد بدت مثقلة بالهم والحيرة ، وراحا يتبادلان نظرات صامتة متسائلة ، وأخيراً قالت المرأة بصوت أنهكته الدموع : جئت إلى هنا ، أبحث عن فاة بيضاء البشرة ، شعرها ذهبيّ ، وعيناها ..
وقاطعها الأمير قائلاً : نيبيرو ! أين هي ؟
وترنحت المرأة ، وكأن أحدهم ضربها على رأسها ، وكادت تهوي إلى الأرض ، فمدّ الأمير يديه ، وأسندها بقوة ، فرفعت عينيها الغارقتين بالدمع إليه ، وقالت : أنت من تلقاه قرب النبع كلّ يوم إذن ؟
وبدل أن يجيبها الأمير ، سألها بحرقة : أين هي ؟ لماذا لم تأتِ ؟ إنني أنتظرها منذ الصباح .
وتهاوت المرأة عند أسفل الشجرة ، وقالت بصوت باكٍ : أنا أسألك ، أين هي ؟
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لو تعرف كم كانت فرحة بك ، وتركتُها تركض وراء فرحها ، رغم أنني كنتُ قلقة ، خائفة مما يجري بينكما .
ومدّ الأمير يديه الشابتين ، وأنهضها واقفة ، وقال لها : حدثيني عن كلّ ما جرى .
وتنهدت المرأة المنهارة ، وقالت بصوت باكٍ : ليلة البارحة ، سمعت نيبيرو خشفها يمأمىء خائفاً في الخارج ، فأسرعتْ إليه لتدخله إلى الكوخ ، لكنها تأخرت ، وخرجتُ أبحث عنها ، فرأيت الخشف في مكانه ، ولم أجد أي أثر لعزيزتي .. نيبيرو .
وصمتت المرأة برهة طويلة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : من يدري ، لعل أباها ، الذي جاء بها من كوكب بعيد ، عاد أخيراً ، وأخذها معه .

" 12 "
ـــــــــــــــــــــ
بعد منتصف النهار ، وصل الأمير إلى القصر ، ورأى الحارسين اللذين يرتديان ملابس يغلب عليها اللون الأسود ، فعرف أن الأميرة موجودة هذا اليوم أيضاً ، عند أمه الملكة .
ولاحظ الأمير ، أن الحارسين الغرابين ما إن رأياه ، حتى أطرقا رأسيهما إلى الأرض ، وهربا بأنظارهما المريبة من عينيه الحزينتين .
وفي أعماقه ، كان السؤال لا يهدأ ، أين الشمس نيبيرو ؟ أين اختفت ؟ وأي غمامة سوداء تواريها ؟ وهل انتهى كلّ شيء ؟ وكأن نيبيرو لم تكن .
ودخل القصر ، واتجه مباشرة إلى جناح الملكة ، ودخل غرفة نومها ، واعتدلت الملكة ، حين رأت الأمير داخلاً ، ونهضت الأميرة ، ورمقته بنظرة سريعة ، لا تفصح عما في داخلها ، وقالت مرحبة بصوت جامد : مرحباً ، أيها الأمير .
وردّ الأمير بصوت مكتوم ، دون أن يلقي ولو نظرة واحدة عليها : مرحباً .
ونظرت الملكة إليه ، وقالت بصوت قد استعاد بعض عافيته : حمداً للآلهة ، جئت اليوم مبكراً .
لم يردّ الأمير بشيء ، ومع ذلك التفتت الملكة إلى الأميرة ، وقالت لها : هذا يوم جميل ، اخرجا الآن من القصر ، وتجولا في الغابة .
وانتظرت الملكة رداً من الأمير ، أو من الأميرة ، لكن أحدهما لم يردّ بكلمة واحدة ، وربنا أرادت الملكة أن تداري الموقف ، فقالت : يبدو أن الأمير متعب اليوم ، فقد جاء تواً من الغابة .
ونهضت الأميرة ، وانحنت للملكة ، وقالت : عن إذنك ، مولاتي ، أبي ينتظرني الآن في القصر .
ولاذت الملكة بالصمت ، فتراجعت الأميرة ، ووجهها جامد كالعادة ، ثم استدارت ، وغادرت الحجرة ، دون أن توجه للأمير كلمة واحدة .
ورفعت الملكة عينيها إلى الأمير ، وقالت بصوت متوجس : بنيّ ، الأميرة خطيبتك ، وعليك أن تبدي بعض الاهتمام بها ، فهي فتاة شابة .
ونظر الأمير إلى الملكة ، وأطال النظر إليها ، ثم قال بنبرة قاطعة : إنها ليست خطيبتي .
واتسعت عينا الملكة ، ولم تفه بكلمة واحدة ، فاستدار الأمير ، ثم غادر الغرفة .
8 / 1 / 2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع