الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )

علي فضيل العربي

2022 / 12 / 29
الادب والفن


يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 1 )

كان لي صديق اسمه ( ج ) أعزّه أيّما إعزاز ، و هو معلّم مدرسة ابتدائيّة ، أفنى زهرة شبابه و أتبعها بسنين من كهولته ، في تعليم أبناء وطنه في مدرسة ريفيّة - و هو فخور بما قام به - .
قال لي ذلك الصديق : عندما عيّنت مدرّسا في مدرسة ريفيّة ، في منطقة جبليّة نائيّة ، أخذتني رهبة ، و ارتجفت أوصالي ، و سقط بين يديّ ، و ضربت أخماسا في أسداس ، و أصابتني حيرة ، لأنّه لم يكن لي سابق معرفة بأهل الريف ، و كانت معرفتي بحياة الريفيين ، و بعاداتهم و تقاليدهم و سلوكاتهم سطحيّة و نظريّة ، أخذتها و استقيتها من نصوص القراءة في المدرسة تتحدّث عن الحياة الفطريّة في الريف .
و كان صديقي شابا طريّ العود ، مرهف العاطفة ، حضريّ التفكير ، مدنيّ السلوك ، لم يسبق له أن عاشر أهل الريف ، اللهم إلاّ ما سمعه عنهم من حكايات و قصص و نوادر و فنتازيات ، او قرأه عنهم في كتب أو صحف . هو ابن المدينة، فيها ولد قبل اندلاع الثورة التحريرية بأربع سنوات في مدينة ( س ) ، و فيها ترعرع و نشأ و شبّ ، لكنّ ظروف الحياة و يد القدر ساقته إلى عالم ريفيّ لا عهد له به . فوجد نفسه في مدرسة ريفيّة ، تبعد عن مدينته ( س ) و مسقط رأسه بعشرة كيلومترات جنوبا ، أو نحو مسيرة ساعة و نصف على متن دراجة هوائيّة . كانت تلك المدرسة تقع في دوار ( مجمع سكني ريفيّ ) ، يفضي إليها طريق مترب ضيّق يخترق فجّا بين جبلين من اشجار الصنوبر و العرعار و السرو و الكاليتوس و الصفصاف ، يفصل بينهما وادي القرود كما اعتاد أهل المنطقة على تسميّته ، حيث كانت تعيش القرود ، و عند شروق الشمس تنحدر ، تلك القرود الصغيرة الحجم من قمتي الجبلين إلى حافتي الطريق ، و كأنّها بصدد تحيّة المارة او عرض نفسها عليهم بغرض الفرجة . فيرمي لها بعض المارة ، و المسافرين بعض المأكولات ، كالبسكويت و حبّات الموز و الكاتوه . كانت المياه المنحدرة من أعالي الجبلين ، تحول إلى شلالات صغيرة ، رقراقة و عذبة صافية صيفا و ربيعا ، هادرة ، فائضة على ضفتيه خريفا و شتاء . و كانت قرود ( الماغو ) غالبا ما تراقب المارة المتوقفين لملء زجاجات الماء ، أو للشرب و التبرّد في زمن الحرارة و القيظ صيفا ، أو للتفرج على القردة ، و هي تقفز على الصخور و أغصان الأشجار ، و تستفز الأطفال ، و تبدي لهم حركات بهلوانيّة ، و تكشّر عن أنيابها ، و كأنّها تضاحكهم . كان السير في تلك الطريق المؤديّة إلى المدرسة الريفيّة ، التي عُيّنت فيها مدرسا بدرجة معلّم متربّص ، كما أخبرني صديقي ، أشبه بمغامرة رحّالة في درب مجهول النهاية ..
قال لي صديقي المعلّم ، و قد التمعت في مقلتيه معالم الذكريات :
لم تكن الطريق إلى تلك المدرسة الريفيّة هيّنة على نفسي ، في تلك الأيام . فقد كانت وسائل النقل العصريّة معدومة تماما . فلم ألمح خلال أسبوع كامل سيارة نقل فرديّ أو جماعيّ واحدة . كانت وسائل تنقّل أهل الدوار ، و هم أغلبهم فلاحون و مزارعون و رعاة ماشيّة ، كالماعز و الأبقار المحليّة و الأغنام ، الدرجات الناريّة و الهوائيّة في أحسن الأحوال . أمّا أغلب وسائل النقل ، فهي الأحمرة و البغال و العربات التي تجرّها البغال أو الأحصنة ، و من السكان الريفيين من يفضل المشي على الأقدام .
أما وسيلتي ، أنا ، فكانت دراجتي الهوائيّة التي اشتراها لي أبي هدية عند نجاحي في شهادة التعليم المتوسط . و هي الشهادة التي أهلتني للدخول إلى معهد تكوين المعلّمين في فترة السبعينيات . فكنت أقطع تلك الكيلومترات العشر في مدّة ساعة و نصف أو اكثر . اركبها تارة عند يستوي الطريق أو ينحدر ، و تارة أخرى أسير و إياها خطوة بخطوة عندما يصّاعد بي الطريق و ينعرج يمنة و يسرة .
كنت أنطلق ، يوميّا - ما عدا يوم الأحد ، التي كانت عطلة نهاية الأسبوع ، قبل أن تتحوّل إلى يوم الجمعة – عند الفجر كي أصل في الوقت المناسب ، و قبل الساعة الثامنة صباحا ، موعد الدخول إلى القسم . و غالبا ما كنت أصل في زمن الشتاء و المطر و الثلوج و الصقيع متأخرا عن التلاميذ ، أي بعد الثامنة بربع ساعة أو اقلّ . فأجد تلامذتي الصغار في انتظاري بمنتهى البراءة و الشوق . أمّا إذا حلّ الربيع ، و امتدّ النهار ، فقد كنت أجد فسحة من الوقت ، فأنطلق من البيت على السادسة ، و قد أشرقت أنوار الشمس و ملأت الآفاق و الفضاء نورا و إشراقا . و كنت أستمتع أثناء الطريق المتربة بمناظر الربيع و زقزقة العصافير و البلابل و نسائم الصباح المحمّلة بروائح الغابة المحاذية للطريق .... ( يتبع )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل