الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدَّوْلَة كَحِزْب سِيَّاسِي سِرِّي

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2022 / 12 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


الأُطْرُوحَات النظرية في هذا النصّ، تَنْطَلِقُ من رسالة صادرة عن وزارة الداخلية بالمغرب، مُصَنّـفَة «سِرِّيَة»، وَجَدْتُهَا بِالصُدْفَة في سنة 2020، وهي مُسَرَّبَة، وَمُتَدَاوَلَة، على شبكة الإِنْتِرْنِيت. وفي البداية، ضَحِكْتُ عند قراءة هذه الرسالة. واعتبرتُ أنها تُؤَكِّدُ ما كنـتُ أعرفه مِن قَبْلُ (من خلال النظرية الماركسية حول الدولة). ثُمّ تَجَاهَلْتُ هذه الرسالة، ولم أَعْبَأْ بها. لكن مِن بعد مُرور أكثر من سنة، اِكْتَشَـفْتُ هذه الرسالة من جديد، وهي مَا زَالت تَدُور على شبكة الإِنْتِرْنِيت. ثُمّ أَدْرَكْتُ أن هذه الرسالة تُوَفِّرُ مناسبة بِيدَاغُوجِيَّة، وَمُفِيدَة، لِشَرْح بعض آلِيَّات اِشْتِـغَال أَجهزة الدولة. وَرَغْمَ مُضِيِّ قُرابة سبعة سنوات على كتابة هذه الرسالة المُسَرَّبَة، فإنها تبـقى مهمّة. لأنها تُـعَبِّر عن ظواهر سِيَّاسية دَوْلَتِيَة عَامَّة، وَمُتَوَاصِلَة.
وكان بِإمكاني أن أكتب مَقَالًا مُشَابِهًا لِلْمَقال الحالي، دون الكلام نِهائيًّا عن الرسالة المُسَرَّبَة. وكان بإمكاني أن أشرح في هذا المقال نـفس الأفكار عن آلِيَّات اِشْتِـغَال أجهزة الدولة، وعن تَدَخُّلِهَا في الانـتخابات العامّة، وعن تَسَرُّبها في الأحزاب والنـقابات والجمعيات المُعَارِضَة، إلى آخره. لكن الرسالة المُسَرَّبَة، وَلَوْ أنها غير ضَرُورية، فإنها تَأْتِي بِمُسَاعَدَة بِيدَاغُوجِية، وَتَقُوم بِدَوْر التَوَابِل في وِعَاء طَهْيِ الطَعَام، وَتُعْطِي لِلْمَنْتُوج طَعْمًا مُسْتَمْلَحًا.
وهكذا، وَمِن خلال تحليل هذه الرسالة المُسَرَّبَة، أُحاول أن أُوَضِّحَ ظَاهِرَة سِيَّاسِيَة عِلْمِيَة، مُجْتَمَـعِيَّة، وَعَامَّة (مَعروفة جَيِّدًا لَدَى عُلَمَاء المُجتمع الماركسيّين). وهذه الظاهرة هي أن الدولة (بما فيها الدولة الْلِّبِيرَالية، أو الرَّأْسَمَالِية)، أو بعض أجهزتها، تَمِيل دَائِمًا، وَتِلْـقَائِيًّا، إلى أن تـعمل كَأَنّها "حِزب سِياسي سِرِّي". ولماذا أَسْتَـعْمِل هنا عبارة «حزب سيّاسي»؟ لأن أجهزة الدولة تَـعْمَل هُنا بِمَنْطِـقِ الأحزاب السياسية، وَبِمَنَاهِجها. ولماذا أَستـعمل عبارة «سِرِّي»؟ لأن أجهزة الدولة تُخْفِي أَفْـعَالَهَا المعنية، وَتَـفْـعَل مَا لَا تَـقُول، وَتَـقُول ما لَا تَـفعل، خَوْفًا من اِنْفِضَاح خَرْقِهَا لِلْقَانُون الذي وَضَعَتْه هي بِنَـفْسِهَا.
وهـكذا تَتَصَرَّف الدولة كَـ «حزب سياسي سِرِّي»، مُجَنَّد لِمُحاربة مُجمل النُـقَّاد، والمُعَارِضِين، والخُصوم، أو الأعداء السياسيّين، الذين يَـفْضَحُون الـفَسَاد، أو الذين يَطْمَحُون إلى تَـغْيِير، أو إلى اِسْـقَاط، النظام السياسي القائم. وَفي هذا الإطار، يَتَحَرَّك بعض مُوَظَّـفِي الدولة، وخاصّةً مِنهم ذوي الرُّتَب العُلْيَا والمُتَوَسِّطَة، بِـعَصَبِيَّة مُتَحَمِّسَة، وَمُتَشَدِّدَة. وقد تَكُون أحيانًا هذه العَصَبِيَة عَنِيـفَة، أو خَشِنَة. وتستـعمل الدولة ضِدَّ خُصومها، وبشكل اِنْتِهَازِي بَيِّن، كل الوسائل المُتَاحَة، سواءً كانـت هذه الوسائل قانونية، أم مَمْنُوعَة مِن طَرَف الـقانون الـقائم، أو اِسْتِبْدَادِيَّة، أو غير نَـزِيهَة، أو غير أخلاقية. وذلك ما سَنَتَأَكَّد منه من خلال التوضيحات التَالِيَّة.
ولا أَدَّعِي في هذا النَصّ الحالي أنني أُقَدِّمُ نظريةً متـكاملة عن آليَّات اِشتـغال أجهزة الدولة. لأنه سبق لِمُـفَـكِّرِين آخرين أن قاموا قَبْـلِـي بهذا العمل(1). وإنما أكـتـفـي هنا بتحليل هذا الحدث البسيط (رِسَالَة مُسَرَّبَة)، والمُـعَـبِّر، لكي أُوَضِّحَ من خلاله، كَيْفَ أن نسبة هامّة من أفراد أجهزة الدولة يَمِيلُون تِلْـقَائِيًّا لِلْعَمل كأنهم يُشَـكِّلُون "حزبًا سياسيًا خَـفِـيًّا".
وهذه الرسالة المُسَرَّبَة، ليست هي الحَدَث الوحيد الذي يـفضح ظاهرة تَصَرُّف الدولة كَـ "حزب سياسي سِرِّي". بَل تُوجد أحداث كثيرة تُـعَبِّر عن نَـفس الظاهرة. وقد اِخْتَرتُ حالة هذه الرسالة المُسَرَّبَة، لأنها حالة بَسِيطَة، وَوَاضِحَة، وَمَفْضُوحَة، وَبِيدَاغُوجِيَّة، أكثر من الحالات الأخرى.
وَهَكَذَا، فَـقَد سَُرِّبَت على الإِنْتِرْنِيت، صُورَة (على شكل JPG) لِـرِسالة داخلية، وَسِرِّيَة، صَادِرَة عن "المديرية العامّة لمراقبة التـراب الوطني" (DGST) بالمغرب، وَمُؤَرَّخَة بِـ 1 يونيو 2015، وَمُرَقَّمَة بِـ 6986، وَرَقم مَرْجِعِهَا هو 15/5208، وَهي مُوَجَّهَة إلى «المدير الإقليمي لمراقبة التـراب الوطني في إقليم الحُسَيْمَة» (بالمغرب). وَتَتَـكَـوَّن هذه الرسالة من قُرابة 12 سطرًا. وَقَد وَقَّعَ هذه الرسالة «المسؤول عن قِسْم الإِرْسَالِيَّات، المُراقب العام، DGSN/DGST N°7587/16». وموضوع هذه الرسالة هو : إعطاء توجيهات حول «تَوَازُنَات الأحزاب السياسية المُشاركة في الانـتخابات الجارية [آنَئِذٍ] بِإِقْلِيم الحُسَيْمَة».
والنَصُّ الكَامِل الوَارِد في هذه الرسالة هو التَّالِي: «ردًّا على رسالتـكم المؤرّخة بتاريخ 1 نونـبر 2015، بخصوص الاتجاهات السياسية العامّة بمدينة الحُسَيْمَة، وبعد أن ثَبُتَ، من جُلّ التَـقارير الواردة، أن سَاكِنَة الإقليم تتّجه نحو فرض [؟] توازنات سياسية جديدة بين الأحزاب المشاركة في الانـتخابات، قد تجعل أشخاصًا غير مُتَـعَاوِنِين [مَعَنَا] يَحْصِدُون بعضا من المقاعد، فإننا ندعو إلى تَشْتِيت أصوات المُنْـتَـخِبِين، وَجَعْل أغلبيتها تَـتَّـجِه إلى الأحزاب التي تَخْدُم مَصالحنا مُباشرةً [!]. وعليه، لا بدّ من تحريك كل المُتَـعَاوِنِين مع أجهزتـنا من السياسيّين الرِّيـفِيِّين [نسبةً لِمَنْطَقَة "الرِّيفْ" في المغرب] وجعلهم يتـقدّمون إلى الانـتخابات بالإقليم، ونخصّ بالذكر : إلياس العمري عن "حزب الأصالة والمعاصرة"؛ ونجيب الوزّاني عن "حزب العهد الديموقراطي"؛ وشاكر أشهبار الأمين العام لِـ "حزب التجديد والإنصاف"، بشرط أن يُدعّم بشكل مباشر المُتَـعَاوِن نجيب الوزاني؛ [ويجب] إعادة الإتّصال بكل عُمَلَائِنَا مِن المُنْـتَسِبِين [=المُتَسَرِّبِين] لكل من "الحركة الأمازيغية" بالمنطقة، و[حركة] "الحُكم الذّاتي"، و"[حركة] 20 فبراير"، من أجل تَحْيِيدِ كل المُتَـعَاطِفِين مع هذه الحركات [المُعَارِضَة]. [وَ]نُشَدِّد على رَصْد كلّ حركات المُرَشَّحِين الغَير مُتَـعَاوِنِين، وَحَشْد التَـرْسَانَة الـقانونية من أجل اِقْتِنَاص كلّ هَفَوَاتِهِم. وكل تَهَاوُن في تَـنـفيذ التَـعْلِيمَات في هذه المرحلة الحَرِجَة من قِبَل المُتَـعَاوِنِين، سَيُـعاقب وِفْـقًا لِلجَارِي به العَمَل». [ويمكن رؤية صورة هذه الرسالة في آخر هذا النص الحالي].
وقبل البدء في تَأْوِيل مَضَامِين هذه الرسالة، نَتَسَاءَل: هل هذه الرسالة المُسَرَّبَة حقـيقـية، أم مُصْطَنَـعَة ؟ نحن نَجْهَل الغَيْب. لكن الاحتمال الأكبر هو أن هذ الرسالة حقيقية. ولماذا ؟ 1) لأن عُلماء المُجتمع الماركسيون يعرفون جَيِّدًا أن هذه الظواهر الدَوْلَتِيَة الواردة في هذه الرسالة هي مَأْلُوفَة، وَمُعْتَادَة. بَلْ يُوجد ما هو أكبر، أو أخطر منها. 2) لأن معظم الكتب السياسية والتاريخية المنشورة عن مُجتمع المغرب، تتحدّث عن وُجود مثل هذه الظواهر الدَوْلَتِيَة الواردة في الرسالة. 3) لأن مُعظم الأحزاب السياسية المغربية، سواءً كانـت مُعارضة أم مُوَالِيَة، يتـكلّمون عن وُجُود مثل هذه الظَوَاهِر. 4) لأن الظواهر الدَوْلَتِيَة المذكورة في هذه الرسالة تُوجَدُ أيضًا في كثير من دول العالم، وخاصة منها دول العالم الثالث، بما فيها الجزائر، وتونس، ومصر، والأردن، والسودان، إلى آخره. 5) لأنه، حتّى لو كانـت الرسالة مُزَوَّرَة، فإن الظواهر التي تَحَدَّثَت عنها الرسالة، موجودة فعلًا في الواقع، بَل يُوجد ما هو أكبر، وأهم منها.6) لأن مضمون الرسالة ليس «سِرِيًّا»، بل مُعظم المواطنين يَـعرفون جَيِّدًا أن أجهزة وزارة الداخلية تتـدخّل في الانـتخابات كَـطَرَف مُسَانِد لِلسُّلطة السياسية وَلِمُنَاصِرِيها.
وهل يَحِقُّ لنا مُناقشة مضمون هذه الرسالة المُسَرَّبَة ؟ نَعم. لأن شُؤِون الدولة (مِن وُجْهَة نظر الشعب) هي شُؤُون عُمُومِيَة. ولأنه يُـفْتَرَضُ في الدولة أن تـكون في خِدمة الشعب، وخاضعة له. ولأنه من حقّ الشعب، ومن حقّ المُواطِنِين، أن يُنَاقِشُوا أُمور الدولة التي تَحْكُمهم، سواءً كانـت قضايا الدولة المَـعْنِيَة مُحْتَرِمَة لِلْـقانون، أم مُنَافِيَة له. ولا يَحِقُّ لِـأَيِّ جِهاز في الدولة أن يَمنـع الشّعْبَ مِن نِقَاش قَضَايَا دَوْلته، مثلًا بِحُجَّةِ أن هذه الـقضايا هي «سِرِّيَة». ولأن الدستور القائم يَـعِدُ الشّعبَ بأن يَضمن له حُرِّية التـفكير، وَحُرِّيَة التَـعْبِير، وَحُرِّيَة النَشْر، وَحُرّية التـنظيم، وَحُرّية التظاهر، أو الاحتجاج. ولأنه من واجب الدولة أن تُنْجِزَ طُمُوحات الشعب. وإذا ما حُرِمَ المواطنون من هذه الحُقـوق، ومن هذه الحُرِّيَات، فهذا سَيَـعْنِي أن الحُكم الـقائم هو حُكم استبدادي. فَيَـغْدُو هذا الحُكم فاقدًا لِلشّرعية.
بعد تلك التـقديمات السَّابِـقَة، نَنْتَـقِل إلى اِسْتِثْمَار تلك الرسالة المُسَرَّبَة، وَنَسْـتَـخْلِصُ منها الاِسْتِنْتَاجَات الثَمِينَة التاليّة :
- الاِسْتِنْتَاج رقم 1 : لا تَـقُوم الأجهزة الـقمعية فقط بِزَجْر الجرائم والمُخَالَفَات العادية، التي يُعاقب عليها القانون، وَإِنَّمَا تَـقُوم أيضًا، وباستمرار، بِدِرَاسَة التطوّرات السياسية، التي تحدث في آراء جماهير الشعب («الرّأْي العام»)، بما فيها آراء النَاخِبِين في الانـتخابات العامّة، التي يُـفْتَرَضُ فيها، دُسْتُورِيًّا، وَقَانُونيًّا، أنها «انتخابات مُسْتَـقِلَّة، وَحُرَّة، وَشَـفَّافَة، وَنَزِيهَة». لأنه جاء في الرسالة المُسَرَّبَة أنها تُجيب عن رسالة أخرى سَابِـقَة، حيث قالت : «رَدًّا على رسالتـكم المؤرّخة بِـ ...». ولأن الرسالة المُسَرَّبَة قالت أيضًا أن موضوع هذه المُراسلات هو : تَتَبُّع «الاتجاهات السياسية العامّة بمدينة الحُسَيْمَة». بِمَعْنَى أن الأمر يَتـعَلَّق بِالتَأْثِير على، أو بِتَـكْيِيـف قَسْرِي لِـ، «الاتجاهات السياسية العامّة»، الجارية في آراء جماهير الشعب. وَبَنَت الرسالة جُجَّتَها الـقَوِيَّة على أساس أنه «ثَـبُتَ مِن جُلّ التَـقَارِير الواردة»، وذلك في صِييغَة الجَمْع («التَـقَارِير»). وَوُجُود هذا السَّيْل مِن «التَـقَارِير»، التي تَصْعُدُ مِن القَاعدة إلى المَركز، ثُمّ تَهْبِطُ مِن المركز إلى القَاعِدة، يُؤَكِّد وُجُود تَتَبّع مُمَنْهَج، وَدِراسة مُنَظَّمَة، لهذه «الآراء»، و«الاتجاهات السياسية العامّة»، من طرف وزارة الدّاخلية، ومن طرف مُختلف أجهزة المُخابرات. بَيْنَما لا يُوجد في الدستور، ولا في الـقـوانين القائمة، ما يسمح لأجهزة الدولة بأن تَشْتَـغِلَ على رَصْد أَفْـكَار المُواطنين، وَتَتَـبُّـع أرَائِهِم السياسية، (سَوَاءً في ميدان الانـتخابات العامّة، أم في غيره). وَلَا يَسمح لها الدُستور، وَلَا القانون، بأن تَـعْمَلَ على إِعَادَة تَوْجِيه هذه «الآراء» السياسية، أو «الاتجاهات السياسية العامّة»، أو تَـغْيِيرها، أو تَـكْيِِيـفِـهَا، نحو اِتِّجَاه مُخالـف لِلْاِتِّجَاهات التي اِخْتَارَهَا المواطنون بحرّية. كما لَا يُوجد في الدستور، ولا في الـقانون، ما يسمح لِلأجهزة الـقمعية، والمُخَابَرَاتِيَة، بأن تَـقُوم بِـتَـكْمِيم الأفواه المُنْتَـقِدَة، أو بِتَهْمِيش المُـعَارِضِين، أو بِإِفْشَال، أو بِتَصْفـيَِّـة، الخُصُومِ السياسيّين، أو الثوريّين.
ولهذا السبب بالضّبط، فإنّ الاحتمال الأكبر، هو أن الدولة ستـرفض بالتَّأْكِيد الاعتـرافَ بِصِدْقِيَة هذه الرسالة المُسَرَّبَة. لأن هذه الرسالة تـفضح الدولة في حالة تَلَبُّس (en flagrant délit)، وتتّهمها بأنها تحاول إعادة توجيه أصوات النَّاخِبِين، مِن الأحزاب المُعارضة، إلى الأحزاب المُنَاصِرَة للنظام السياسي الـقائم .
- الاِسْتِنْتَاج رقم 2 : أَشَارت الرسالة المُسَرَّبَة إلى أن خُلَاصة تلك الدِرَاسَات و«التَـقَارِير» (المُتَبَادَلة بين الـقاعدة والمركز في أجهزة وزارة الداخلية)، هي أن «سَاكِنَة الإقليم تَـتَّجِه نحو فَرْض [؟] توازنات سياسية جديدة بين الأحزاب المشاركة في الانـتخابات». وَنُلاحظ هنا بِاسْتِـغْرَاب أن الرسالة تَـعْتبر المُواطنين الذين يُصَوِّتُون بِحُرِّيَة في الانـتخابات العامّة، أنهم «يَـفْرِضُون» على وزارة الداخلية «توازنات سياسية جديدة». وتـفْتَرِضُ الرسالة أن هذا «الفَرْض» غير مَـقْبُول. وَنَبَّهَت الرسالة إلى أن الخطر هو أن «أشخاصًا غير مُتَـعَاوِنِين [مَـعَنَا، قَدْ] يَحْصِدُون بعضًا من المقاعد». ثم أعطت الرسالة تَوْجِيهات واضحة، وَصَارِمَة، لِمَنْـعِ حُدُوث تلك الاحتمالات. وَأَمَرَت الرسالة السِرِيَّة بِـ «تَشْتِيت أَصْوَات المُنْـتَـخِبِين، وجعل أغلبيتها تتّجه إلى الأحزاب التي تَخْدُم مَصالحنا مُباشرةً» ! كما أمرت الرسالة بِـ «رَصْد كلُ حَركات المُرَشَّحِين الغير مُتَـعَاوِنِين». لأن هذه الرسالة تَـعْتَبِرُ «المُرَشَّحِين الغير مُتَـعَاوِنِين» بِمَثَابَة خُصُوم، أو أعداء للدولة ! وهذه التَوْجِيهَات، تُثْبِتُ أن وزارة الداخلية، وأجهزة المُخابرات، تـعمل بِهدف تَـغْيِير آرَاء وَاخْتِيَارات السُـكَّان في ميدان الانـتخابات العامّة ! وهذا خَرْقٌ سَافِرٌ لِلدستور، وَلِلـقانون القائم. حيث أن كُلًّا مِن الدستور، وَالـقانون، لَا يُعْطِيَّان لأجهزة الدولة حَـقَّ التَدَخُّل في آراء النَاخِبِين، وَلَا يَسْمَحُ لها باستـعمال أَدَوَات الدولة، وَمِيزَانِيَّاتِهَا، لِـغَايَة تَـغْيِير الاختيّارات السيّاسيّة لِلمُوَاطِنِين.
- الاِسْتِنْتَاج رقم 3 : بعدما أَثْبَتْـنَا (في الاِسْتِنْتَاج رقم 1) أن وزارة الداخلية تَرْصُدُ أَفْـكَار المُواطنين، وَتَـتَـتَــبُّـعُ أرَائِهِم السياسية في الانـتخابات العامّة؛ وبعدما بَيَّنْـنَا (في الاِسْتِنْتَاج رقم 2) أن وزارة الداخلية، وأجهزة المُخابرات، تـعمل بِهدف تَـغْيِير ، أو إِعَادَة تَوْجِيه، آرَاء وَاخْتِيَارات السُـكَّان في ميدان الانـتخابات العامّة، فهذه المُعْطَيَات تَـعني أن الأجهزة الـقمعية تَـعْمَل كَحِزْب سياسي سِرِّي، يَهْدِفُ إلى إِعَادَة تَوْجِيه الآرَاء السياسية لِلجماهير الشعبية في الْاِتِجَاه الذي يَخدم مَصَالِح الأشخاص الحَاكِمِين، أو مَصَالح الدولة، أو يَخْدُم مَنَافِع الطبقة السَّائِدَة، أو النظام السياسي القائم. حيثُ تَكَلَّمَت الرسالة عن تَـعْبِئَة، وتَجْنِيد، و«تَحْرِيك» الأشخاص «المُتَـعَاوِنِين مع أجهزتـنا»، و«إعادة الإتّصال بكل عُمَلَائِنَا». وقالت الرسالة: «نَدْعُو إلى تَشْتِيت أصوات المُنْـتَـخِبِين، وَجَعْل أغلبيتها تَـتَّـجِه إلى الأحزاب التي تَخْدُم مَصالحنا مُباشرةً» ! وأضافت الرسالة : «وعليه، لَا بُدَّ من تَحْرِيك كل المُتَـعَاوِنِين مع أجهزتـنا»، و«تَحْيِيدِ [neutraliser] كل المُتَـعَاطِفِين مع هذه الحركات [المُعَارِضَة]». وبالتَّالِي، تَشْتَـغِل هذه الأجهزة الـقمعية كَـحِزب سيّاسي مُنْحَاز، يَـعمل في الخَـفَاء، وَيُـكَرِّسُ مُعْظَمَ مَجْهُودَاتِه لِخِدْمَة الأشخاص الحَاكِمِين، وَيَـعْمَل لِـفَائِدَة الطبقة السّائِدَة، أو النظام السياسي الـقائم، وليس لِخِدْمَة مَصالح الشعب، بِصِدْق وأمانة.
(وَنَظَرًا لِكَوْن الرسالة المُسَرَّبَة لَا تَتَـكَلَّم عن ظَاهِرَة استـعمال المال في الانـتخابات العامّة، بِهَدَف شِراء أَصْوَات النَاخِبِين الـفُـقَـراء، وهي أَسَالِيب مُسْتَـعْمَلة خِصِّيصًا مِن طرف الأَثِرِيَّاء، والمُـقَاوِلِين، والمًسْتَـغِلِّين، وَالأَعْيَان (notables) المَحَلِيِّين، فإننا نَتَلَافَى الكلام عن هذه الظاهرة. وَلَوْ أنها ظاهرة هَائِلَة، وَفَـعَّالَة، في التَأْثِير على نـتائج الانـتخابات العامّة. وعلى الرَّغْم مِن أن السُلُطَات السياسية، ووزارة الداخلية، وأجهزة الـقمع والمُخابرات، تـعرف جَيِّدًا ضَخَامَة هذه الظاهرة، ومنذ عَشَرَات السِنِين، وَلَا تَـفْـعَل شيئًا لِزَجْرِهَا، وَلَا لِمُـعَاقَبَة مُرْتَكِبِيها).
- الاِسْتِنْتَاج رقم 4 : في هذا الإطار (المَوْصُوف سَابِقًا)، تُصْبِحُ إِذَنْ الانـتخابات العامَّة غَيْر مُسْتَـقِلَّة، وَغير حُرَّة، وَغَيْر شَـفَّافَة، وَغَير نَزِيهَة. وَتُصْبِحُ السُّلْطَة السياسية مُتَّهَمَة بِـ «إِسَاءَة اِسْتِـعْمَال السُّلطة» (abus de pouvoir). بَل يُصبح عَمَل أجهزة الدولة على تَـغْيِير الاختيارات السِيَاسية لِلنَّاخِبِين مَظْهَرًا مِن مَظاهر الاستبداد السياسي. وفي هذه الأوضاع، كان مِن حَقِّ الأحزاب السياسية المُتَضَرِّرَة في هذه الانـتخابات العامّة، أن تُـقِيم دَعَوَات قَضَائِيَّة ضِدّ الدولة، لكن بِشَرْط أن يَـكُون الـقَضَاء مُسْتَـقِلًّا وَنَزِيهًا. أمّا إذا كان الـقضاء غير مُسْتَـقِـلٍّ، أو غير نَزِيه، فإن هذه الدَعَوَات الـقَضَائِيَة تَـغْدُو عَبَثِيَة، وَمَضْيَـعَة لِلْوَقت، وَمَضْيَـعَة لِلطَّاقَات. وَيُصبح، في نـفس الوقت، أَمَلُ إِصْلَاح النظام السياسي الـقائم، من داخل مُؤَسَّـسَاتِه، أَيْ عَبْر الوسائل الـقانونية، أمرًا مُسْتَحِيلًا. وَآنَـئِـذٍ، تَـغْدُو سُبُل النضال الثوري، غَيْر المُتَـقَيِّدَة بالـقانون القائم، مَشْرُوعَة.
- الاِسْتِنْتَاج رقم 5 : مِن المَعْلُوم أن الـقـوانين الحالية القائمة في المغرب، تُـعْطِي لِوزارةَ الداخلية حَـقَّ اِحْتِـكَار تَنْظِيم الانـتخابات العامّة (البرلمانية، والجماعية، والمهنية، الخ). وذلك إلى درجة أن الـفاعلين السياسيين لم يَـعُودوا يَتَصَوَّرُون أيّة إِمكانية لتـنظيم الانـتخابات العامّة بِدُون إِشْرَاف وزارة الدّاخليّة على هذه الانخابات. وفي نـفس الوقت، تَتَدَخَّل وزارة الداخلية (مثلما أَكَّدَتْهُ الرسالة المُسَرَّبَة) في هذه الانـتخابات كَطَرف سِيَّاسِي مُنْحَاز، وَمُنَاصِر لِلْـقِـوَى السياسية المَلَـكِيَّة، والرَّأْسَمَالِيَّة، واليَمِينِيَّة. الشيء الذي يَعْنِي أن وزارة الداخلية، المُنَظِّمَة لِلْاِنْتِخَابَات، هي في نـفس الآن، خَصْمٌ وَحَكَمٌ. وهذا مُنَافٍ لِلْعَدْل.
وَكُلَّمَا كانـت الإدارة المُنَظِّمَة لِلانـتخابات العامّة تُـعَـبِّـئ، في نـفس الوقت، جُيَوشًا سِرِّيَة لِمُحاربة الأحزاب والأشخاص «الغير مُتَعَاوِنِين» معها، أو الذين يرفضون الخُضُوع أو الْاِنْبِطَاح لها، فَهَذا يَـعْـنِـي أن تلك الانـتخابات العامّة، هي غَيْر «مُسْتَـقِلَّة»، وَغَيْر «حُرَّة»، وَغَيْر «شَـفَّافَة»، وَغَيْر «نَزِيهَة»، أو مُتَحَيِّزَة (biaisée).أو مُزَوَّرَة، أو مَـغْشُوشَة. لأنها مُنْحَازَة لِصَالح الأشخاص الحَاكِمِين، أو لِفَائِدَة الـقِوَى السياسية السَّائِدَة في المُجتمع، أو لِمَصلحة الطبـقات المُسْتَـغِلَّة. وعليه، يَسْتَحيل إِنْجَاز أيّ إصلاح دِيموقراطي في البلاد، إذا لم يَـكُن الـقَانُون يَمْنَـع كُلُّ شكل من أشكل تَدَخُّل وزارة الداخلية في تَنْظِيم، أو في تَسْيِير، الانـتخابات العامّة. ويجب إِسْنَاد تـنظيم الانـتخابات العامة، إلى هَيْئَة مُسْتَـقِلَّة عن السُّلَط التَنْـفِيذِيَة، وعن السُّلطة التَشْرِيعِيَة، وحتّى عن السلطة الـقضائية الحالية، لأن أفراد السلطة الـقضائية هم أيضًا مُنْحَازِون حاليًّا لِلْأَشْخاص الحَاكِمِين، وَلِلنِّظام السياسي القائم. وقد اِنْـفَضَح خلال مُجمل العُـقُود الماضية أن جهاز الـقضاء كان مُنْحَازًا لِأُطْرُوحَات النظام السياسي في مُجْمَل المُحاكمات التي لها أَبْعَاد سياسية، مثل مُحاكمات المُعْتَـقَلِين والمُعارضين السِّياسيِّين.
- الاِسْتِنْتَاج رقم 6 : تُـقَسِّم هذه الرسالة المُسَرَّبَة المُواطنين إلى عِدَّة أَصْنَاف؛ وهي : (1) صِنْـف المواطنين العاديِّين؛ (2) صِنْـف المُوَظَّـفِين المأجورين في أجهزة الدولة؛ (3) صِنْـف الأشخاص «المُتَـعَاوِنِين مع أجهزتـنا»، (وقد ذَكَرت الرسالة أمثلة عن أسماء أشخاص وأحزاب مُصَنَّـفِين كَـ «مُتَـعَاوِنِين»؛ (4) صِنْـف «عُمَلَائِنَا المُنْتَسِبِين» إلى التـنظيمات المُـعَارِضَة (أي الأشخاص المُتَسَرِّبِين سِرًّا داخل هذه التـنظيمات المُعارضة، والذين يُنَـفِّذُون فيها أَوَامِر الأجهزة القمعية). (5) صِنْـف «أشخاص غير مُتَـعَاوِنِين». وهم الأشخاص الذين يَرْفُضُون الخُضُوع لِتَوْجِيهَات، أو لِتَـعْلِيمَات، أجهزة الدولة.
وهذا التَصْنِيف يُؤَكِّد أن النظام السياسي المَلَكِي يُجْبِرُ المواطنين على أن يكونوا مَسُودِين، وَخَاضِعِين. ولا يَسمح لهم بأن يكونوا أكثر من ذلك. وفي هذا الإطار، وعلى خِلَاف وُعُود بعض الأحزاب التَـقَدُّمِيَة، تَـغْدُو «الديموقراطية» (بما فيها «الديموقراطية التشاركية») مُسْتَحِيلَة. وتوجد فعلًا نسبة هامّة من المواطنين المَسْحُوقِين، لَا تَـقْدِرُ على الانتـفاض ضدّ أَوْضَاعِهَا المُجتمعية، أو تَتَحَمَّلُ بِصَبْر بأن تَـبْـقَـى في مُستوى هذا الدَّور المُجتمعي المُتَدَنِّي.
والأشخاص شَدِيدُو الـفقر، هُم عادةً الذين يَـقْبَلُون بِأن يعملوا كَـ «مُتَـعَاوِنِين مع أجهزتـنا»، وَكَـ «عُمَلَائِنَا المُنْتَسِبِين» إلى التـنظيمات المُـعَارِضَة. وَيَحْصُل عَادَةً الأشخاص «المُتَـعَاوِنُون»، والأشخاص «العُمَلَاء المُنْتَسِبُون»، على «مُـقَابِل» مَادِّي، أو على «مُكَافَآت»، إمّا على شكل أُجُور، أو مَدَاخيل شهرية، أو على شكل رِيع اِقتصادي، أو على شكل تَسْهِيلَات في الاِغْتِنَاء غير المشروع، أو على شكل اِمْتِيَّاز الإِفْلَات مِن العِـقَاب، الخ.
الاستـنـتاج رقم 7 : خلال العَشْر سَنوات الماضية، كُنْتُ أُنَبِّه بعض المناضلينَ إلى وُجُود عناصر بُولِيسِيَة مُتَسَرٍّبَة (infiltrés) داخل مُعظم الأحزاب، والنـقابات، والجمعيات. بما فيها أحزاب اليسار. وَقُلْتُ مرارًا لبعض المناضلين، خلال بعض الاجتماعات التنسيقـية، أنه من بين قُرابة العشرين شخص الحاضرين في اِجْتِمَاع التَنْسِيـق المَعْنِي، إِثْنَان أو ثلاثة أشخاص مَشْكُوك في تَـعَاوُنِهم مع الأجهزة المُخابراتية أو القَمعية. لكن كثيرين من المناضلين كانوا يَعْتَبِرُن هذه التَنْبِيهات مُبَالَغ فيها، أو خَيَالِيًّة. وكانوا يَرْفُضُون تَصْدِيق وُجُود أشخاص "مُتَسَرِّبِين" داخل تـنظيماتهم الحِزْبِيَة، أو النقابية، أو الجَمْـعَوِيَة. ثُمّ جاءت فيما بعد أحداث، وَوَثَائِـق، وَمُعْطَيَات، بما فيها هذه الرسالة المُسَرَّبَة على شبكة الإِنْتِرْنِيت، لِتُـؤَكِّد وُجُود تِلك الحَقـيقة المُرَّة. حيثُ تَـعْتَرِفُ هذه الرسالة المُسَرَّبَة بِوُجُود عِدَّة أَصْنَاف مِن الأشخاص، وهم : 1) صِنْـف «المُتَـعَاوِنِين مع أجهزتـنا» ( nos collaborateurs, nos collabos). وهم الأشخاص الأعضاء في الأحزاب، أو النـقابات، أو الجمعيات، والذين يَظْهَرُون مُسْتَـقِـلّين في أفكارهم، وفي سُلُوكِيَّاتِهم، لكنهم يَـقْبَلُون تَـنْـفِـيد الخَدمات السِرِّيَة التي يطلبها منهم أفراد الأجهزة الـقمعية، أو المُخابراتية. 2) صِنْـف «عُمَلَائِنَا» (nos agents). وهم الأشخاص الذين يَـقبلون بأن يعملوا كَجَوَاسِيس سِرِيِّين لِصالح أجهزة المُخابرات، أو لِصالح أجهزة أخرى تَابِـعَة للدّولة. 3) صِنْـف «عُمَلَائِنَا المُنْتَسِبِين» إلى تَنْظِيمَات الأحزاب والنـقابات والجمعيّات والحَرَكَات المُعارضة. وهم الأشخاص العُمَلَاء السِرِيِّين الذين تَسَرَّبُوا (infiltrés)، أو تَسَلَّـلُـوا (affiliés)، داخل الأحزاب، أو النـقابات، أو الجمعيّات المُعارضة، وَحَصَلُوا على العُضْوِيَة داخلها. ويـعملون كمناضليّين عاديِّين داخلها. بَلْ يُظْهِرُون عَادَةً حَمَاسًا نِضَالِيًّا أكبرَ من بَاقِي المناضلين. لكن دَوْرَهُم الخَـفِـيّ هو التَجَسُّـس، وَتَنْـفِـيد أَوَامِر ضُبَّاط في أجهزة المُخابرات، بهدف إحداث أَضْرَار في تلك الأحزاب، أو النـقابات، أو الجمعيات، مثل عَرْقَلَة إِنْجَاز أَنْشِطَتِهَا، أو إِثَارَة الصِدَامَات داخلها، أو العمل على تَـقْسِيمِها، أو تَشْتِيتِهَا. 4) صِنْـف «أشخاص غير مُتَـعَاوِنِين [معنا]» (les insoumis). والمقصود بهم أنهم أشخاص ثوريّون، أو مُتَمَرِّدُون، أو عُصَاة. أي أنهم يَرْفُضُون الإِمْتِـثَال لِرَغَبَات، أو لِتَـوْجِيهَات، أجهزة الدولة. 5) صِنْـف «المُتَـعَاطِفِين مع الحركات» المُعَارِضَة. وهم الأشخاص الذين تُصَنِّـفُهم الأجهزة الـقمعية كَخُصُوم، أو كَأَعْدَاء، لأنهم يُنَاصِرُون التَنْظِيمَات «العَدُوَّة» للدولة، أو للنظام السياسي القائم.
وبالتَّالي، فإن أجهزة الدولة القمعية تُصَنِّـفُ المواطنين، ليس على أساس نزاهتهم، أو كفاءاتهم العِلْمِيَة، أو اجتهاداتهم، أو إِنْتَاجَاتِهِم، أو اِلْتِزَامِهِم بالقانون، وإنما تُصَنِّـفُهُم على أساس دَرَجَات طَاعَتِهِم، أو وَلَائِهِم، أو خُضُوعِهِم، أو اِنْبِطَاحِهِم، أو خِدْمَتِهِم، لِلنظام السياسي القائم. بِمَـعْنَى أن الدولة تَـعْمَل فـقط بِأُسْلُوب «الزَّبُونِيَة» (clientélisme).
وحينما تَـكَلَّمْتُ (مثلًا في كتاب "نـقد أحزاب اليسار") عن «الأحزاب الخَاضِعَة»، أو «الأحزاب الإدارية»، أو «الأحزاب المَخْزَنِية»، كان المقصود بها تلك الأحزاب التي نَشَأَت بإيعاز من السّلطة السياسية، أو وزارة الدّاخلية، أو تلك التي لا تتحرك إلاّ طِبْـقًا لِـأَوَامِر، أو لِتَوْجِيهَات، الأجهزة المُخَابَرَاتِيَة.
وَسبق لي أن دَعَوْتُ، مِرارًا وَتِـكْرَارًا، قـيّادات أحزاب اليسار إلى القـيّام بِحَمَلَات مُسْتَتِرَة، وَتَحْـقِيـقَات سِرِّيَة، لِلْبَحْث عن العناصر البوليسية المُنْدَسَّة داخل تنظيماتها. لكنها لم تَـقُم بِتِلك المهام. ومن واجب أحزاب اليسار أن تَتَشَدَّد في شُروط مَنْح العُضْوِيَة لِلْمُرَشَّحِين إلى الاِنْخِرَاط في تَنظيماتها، وأن تَكُون حَازِمَة في مُراقبة سُلُوكِيَّات أعضائها، لِتَلَافِي تَسَرُّب الأشخاص المُعَادِيِّين داخلها. وَيَتَوَجَّبُ على أحزاب اليسار أن تعمل من أجل التَـوَفُّـر على جهاز تَنْظِيمي أَمْنِـي مُوَازٍ، وَسِرِّي، وَمُتَخَصِّص، وَمُضَاد لِلْمُنْدَسِّين، وَ لِلْمُخْبِرِين، وَلِلْعُمَلَاء، وَمُضَاد لِتَسَرُّب العناصر المُعادية إلى داخل الحزب المعني. وَيُمـكِـن العُثُور بِسُهُولة على وَثَائِـق، وعلى كُتُب في هذا المجال، مَنشورة على الإِنْتِرنيت (باللغات الغربية). وَإذا لم تَـقُم بذلك أحزاب اليسار، فإن أجهزة المُخابرات سَتُدْخِل عُمَلَائَهَا السِرِّيِّين إلى داخل أجهزة هذه الأحزاب، وَسَتُسَيْطِرُ عليها، وَسَتَتَحَـكَّمُ فيها، وَسَتُحَوِّلُهَا إلى دُمْيَات طَيِّـعَة. وهؤلاء الضُبَّاط في أجهزة المخابرات، ليسوا مثل المناضلين، مجرّد هُوَّاة، أو مُتَهَاوِنِين، يـقضون مُعظم وَقتهم في أعمالهم المِهَنِيَّة، وَلَا يُخَصِّصُون سِوَى وقت صغير لِلـقضايا السياسية. وإنما هم سِيّاسِيُّون مُحْتَـرِفُون، شُغْلُهم اليومي كُلُّه يدور حول مراقبة الـقِوَى اليسارية، وَتَتَبُّـعِهَا، وَتَحْرِيك العُمَلَاء داخلها، لِإِنْجاز أهداف تَحْيِيدِهَا، أو إفشالها، أو تَخْرِيبها.
وسبـق أن حدث في المغرب، مرارًا، وتـكرارًا، للأجهزة المُخابراتية أن سَرَّبَت عناصرها داخل قِيَّادات بعض الأحزاب اليسارية القديمة، وحوّلتها مِن الداخل إلى نَـقِيضِها. وَأُذَكِّر هنا مثلًا بِأن اسماعيل العلوي، ونـبيل بـن عبد الله، اللذان تَسَرَّبَا، في قرابة سنوات 1980، إلى داخل الحزب الشيوعي الـقديم (والذي غَيَّرَ اِسْمَه فيما بعد إلى "حزب التـقدم والاشتاركية")، وَاحْتَلَّا فيه مَواقِع المسؤولية الرئيسية، وحوّلا ذلك الحزب الشيوعي القديم إلى حزب مَلَـكِـي، وَمُحافظ، ورأسمالي، ويميني، وانتهازي. وذلك بالرّغم مِم وُجود أساتـذة جَامِعِيِّين مَرْمُوقِين داخل هذا الحزب. وتوجد أمثلة أخرى لِـعناصر تَسَرَّبَت في سنوات 1965 داخل قـيّادة أحزاب يسارية أخرى، مثل حزب الاتحاد الوطني للقُوَّات الشعبية ، وكذلك في سنوات 1980 داخل قيّادة حزب الاتحاد الاشتـراكي للقـوّات الشعبية" . وَعَمِلَ هؤلاء العُملاء المُتَسَرِّبُون، حسب الفترات، على إِضْعَاف أحزاب اليسار، أو التَحَـكُّم فيها، أو عَرْقَلَتِهَا، أو شَلِّهَا، أو تَـقسيمها، أو تَسْخِيرِها، أو قَلْبِهَا إلى نَـقِيضها. بَيْنَما التـنظيمات الماركسية اللينينية، التي نشأت في سنوات 1970، كانـت قَوِيَّة نِسْبِيًّا في تَأْثِيرها على الجماهير، رغم أن أعداد أفرادها كانـت قَلِيلة جدًّا. ومن بين الأَسْرَار التي تُـفَسِّرُ تلك الـقُوّة النسبية لتلك التـنظيمات الماركسية اللينينية، هو أنها كانـت شديدة الحَذَر عند قَبُول عُضْوِيَة المُرَشَّحِين الجُدُد، وشديدة اليَـقَظَة، والصَرَامَة، في تـعاملها مع المُتَـعاطفين معها، ومع المُرْتَبِطِين بها، ومع المُنْتَسِبِين إليها.
وَمِمَّا ظلّت تشتـكي منه مُجمل قِيّادات قـوى اليسار في المغرب، منذ بداية الاستـقلال الشكلي للمغرب في سنة 1956 إلى اليوم، هو أنها تَجد صُعُوبَات هَائِلَة جِدًّا في تَدْبِير أحزابها المُعارضة للنظام السياسي القائم. وذلك إلى درجة أن هذه الـقـيادات كانت تُحِسُّ أحيانًا أن أحزابها مَشْلُولَة. وَلَا تَسْتَطِيع إِنْجاج أيّة مُبَادَرة نِضَالِيَة. وهذه الأوضاع لم تَكُن اِعْتِبَاطِيَة. وكثير من هذه القـيادات لَا تَدري أنه، إذا كان أشخاص «عُمَلَاء»، مُتَسَرِّبِين داخل أحزابهم، وداخل حَتَّى بعض الأجهزة القـيادية لأحزابهم، أو إذا كانـت الأجهزة المُخابراتية قد نَجَحت في تَحْوِيل بعض أعضاء هذه الأحزاب إلى «عُمَلَاء»، أو «مُتَسَرِّبِين»، عبر اِسْتِـغْلَال نُـقَط ضُعْفِهم الشخصية، فإن هؤلاء الأشخاص «العُمَلَاء» قد يستطيعون عَرْقَلَة مُـعْظَم أنشطة تلك الأحزاب. فَتُصبح تلك الأحزاب شِبْهَ مَشْلُولَة، أو كَأَنَّها مُـعَـوَّقَة، أو كَأَنَّهَا غَير مَوْجُودة. بل قد تَنْجَحُ الأجهزة المُخابراتية في تَحْوِيل هذه الأحزاب اليسارية إلى عَكْسِهَا (مثلما حدث في حالة "الحزب الشيوعي" الـقديم، وفي حالة حزب "الاتحاد الاشتـراكي للقـوّات الشعبية"). وبدون توفّر كلّ حزب يساري على جهاز مُضاد لِتَسَرّب الأعداء داخله، سَيَصْـعُب على هذا الحزب المعني حماية نـفسه من تَأْثِيرات هؤلاء الأعداء «المُنْدَسِّين»، أو «المُتَسَرِّبِين».
وبعد ظُهور "حركة 20 فبراير" في سنة 2011، بدأ يَنْـكَشِفُ أن بعض الجهات في الدولة تحمل مُيُولَات فَاشِيَة (fasciste). ولم تَـعُد هذه الجهات تَـكْتَـفِـي بِالـقَمْع المُعْتَاد، وَلَا بالأجهزة الـقمعية مِن الطِرَاز التَـقْلِيدِي، أو القَدِيم. وذلك رَغْم التَصَاعُد الهَائِل الحَاصِل في تَـعَدُّد، وَتَنَوُّع، هذه الأجهزة الـقمعية. بالإضافة إلى ما يُرَافِـقُ ذلك من تَضَخُّم كَبِير في مِيزَانِيَّات هذه الأجهزة القمعية. وأصبحت هذه الجهات (في الأجهزة الـقمعية) تَـعْمَل على إِنْشَاء واستـعمال نوع مِن «المِيلِيشْيَات الـفَاشِيَة الصِدَامِيَّة». وهذه «المِيلِيشْيَات» تُشْبِهُ «البَلْطَجِيَّة» في مِصْر، أو «الشَبِّيحَة» في سُورْيَا، أو «العِيَّاشَة»، أو «المُرْتَزِقَة»، الخ. وأعضاء هذه «المِيلِيشْيَات» هم أَصْلًا فُـقَرَاء تَـعِسُون، يبحثون عن أيّ مَصْدَر كان لِلْـعَيْش. وكان بِالإِمْكَان أن يكون هؤلاء الأشخاص الـفقراء مُناصرين لِلـقِوَى اليسارية، لكنه بَحْثَهُم عن أيّ مصدر لِلْعَيْش دَفَـعَهُم إلى السُّـقُوط في شِبَاك الأجهزة الـقمعبة والمُخَابَرَاتِيَة. فَظَهَرَت «الشبيبة المَلَكِية» إِبَّان "حركة 20 فبراير"، وذلك منذ سنة 2011. وكانـت مُهمّتها هي افتـعال الصِدَامَات العَنِيـفَة مع المُتَظَاهِرِين السِّلْمِيّين، بِهَدَف منـعهم بالـقُوّة من التَظَاهُر. لأن قـوّات الـقمع العادية، التي تَلْبِسُ الزَيَّ الرَّسْمِي، تَتَلَافَى تَصْوِيرَها من طرف وسائل الإعلام وهي تَـقْمَع بِالهَرَاوَات المتظاهرين السِّلْمِيِّين. وبعد سنة 2020، ظهر صِنـف جديد من «البَلْطَجِيَة» على شكل «جَمْعِيَّات» مُسَيَّسَة، وَيَمِينِيَّة مُتَطَرِّفَة. وَيَظْهَرُ أنها مُمَوَّلَة وَمُنَظَّمَة بِإِيعَازٍ من الأجهزة القمعية. وَبَدَأَ يَتَجَلَّى أن أعضاء هذه «الجمعيات» المُسَيَّسَة هم مَأْجُورُون خَفِيُّون لَدَى الدولة. وَتَتَمَيَّزُ هذه «الجمعيات» المُسَيَّسَة بِدِفَاعِهَا المُتَطَرِّف عن المَلَكِيَة القائمة. وَتَحْضُر هذه «الجمعيات» المُسَيَّسَة إلى بعض الأَنْشِطَة التي يُنَظِّمُها المناضلون المُعَارِضُون، وَتُحَاوِل منـعهم بِالقُوَّة من القـيام بِتِلْكَ الأنشطة النضالية. فَتَحْدُث تَوَثُّرَات، قَدْ تَتَحَوَّل بِسُهُولة إلى صِدَامَات عَنِيـفَة، وَمُؤْسِـفَة. وَتَعمل هذه «الجمعيات» المُسَيَّسَة بِـعَـقْـلِيَّات وَأَسَالِيب "المِيلِيشْيَات الفَاشِيَة". وهي مُدَرَّبَة خِصِّيصًا على خَوْض الصِدَامَات العَنِيـفَة. وَتَـقِـف عَادَةً فِرَق البُوليس إلى جانـب هذه «المِيلِيشْيَات الصِدَامِيَّة»، بَلْ تَحْمِيهَا، وَتُـنَاصِرُهَا.
- الاِسْتِنْتَاج رقم 8 : أَمَرَ كاتب الرسالة المُسَرَّبَة مَرْؤُيسِيه بِـ : « حَشْد التَـرْسَانَة الـقانونية من أجل اِقْتِنَاص كلّ هَفَوَاتِ»، أو أخطاء، هؤلاء المُعارضين، والمناضلين الثوريّين، وذلك طَبْعًا بِهَدف اِسْتِـغْلَال هذه «الهَـفَوَات»، لِـتَـلْـفِيق التُهَم الجِنَائِيَة ضِدَّهم، واعتـقالهم، وَتَبْرِير الحُكْم عليهم بِـعُـقُوبَات حَبْسية، بِهَدَف رَمْيِهِم في السِّجْن، وَتَهْمِيشِهم خلال سنوات طويلة، مثلما حدث مع عَشَرَات الآلاف مِن المُعتـقلين السياسيّين الـقُـدَامَى، وَمِثْلَمَا يحدث حاليًّا مع المُعتـقلين السياسيّين الجُدُد (ومنهم الموجودين حاليًّا في سُجُون المغرب). فَيَظْهَرُ هكذا هؤلاء المَسْجُونِين، ليس كَمُـعْـتَـقَـلِين سِيَّاسيّين، وَإنما كَمُجْرِمِين عَادِيِّين.
وَتُثْبِتُ إِذَنْ هذه الرسالة المُسَرَّبَة، أن أجهزة الدولة، وخاصة منها الأجهزة الـقمعية، لَا تَتَـعَامَل مع «القانون» كَأَداة مُحَايِدَة لِتَحْقِيق العَدْل في المُجتمع، وَإِنَّمَا تستـعملُ «التَرْسَانَة الـقانونية» بِشكل اِنْتِهَازِي، وَمُتَـعَـمَّـد، كَسِلَاح لِمُحَارَبَة المُنْتَـقِدِين، والمُعَارِضِين السيّاسيّين. ويعمل المُشَرِّعُون، هم أيضًا، ليس بهدف إِنْتَاج قَوَانِين مُحَايِدَة، تُحَـقِّـق العَدْل في المُجتمع، وَإِنَمَا يعملون بهدف إنتاج «تَرْسَانَة من الـقوانين» يَسْهُلُ اِسْتـعمالها كَسِلَاح لِـقَـمْـع، وَلِمُحَارَبَة، كلّ المُنْتَـقِدِين، والمُعَارِضِين، والثوريّين. وَمَـعْنى ذلك، أن الدولة ليست جِهَازًا مُحايدًا، أو فوق الصراع الطبقي، وإنما تَتَحَوَّل الدولة إلى أَدَاة من بين أَدوات الصراع الطبقي، حيثُ يَستخدمها الحُكَّام، والمُسْتَـغِلُّون الكبار، كَأَدَاة لِقَمْع الشعب، وَلِـإِخْضَاعِه بِالحِيلَة، وَإِنْ لَمْ تَنْـفَع الحِيلَة، فَـبِـالْـقُـوَّة.
وفي الوقت الذي تـعمل أحزاب اليسار في إطار «العَلَنِيَة»، وَتَمْتَـنِـعُ عن خَوض أيّ نَشَاط حزبي في «السِرِّيَة»، وَتَـعْتَادُ أحزاب اليسار على التَـقَيَّد بِكلّ القـوانين الـقَائمة، فإن هذه الرسالة تَـفْضَحُ أن أجهزة الدولة، وخاصّة منها وزارة الداخلية، والأجهزة القمعية، وَأجهزة مُرَاقَبَة التُرَاب الوطني، والمُخَابَرَات، الخ، تَتَدَخَّل في المَيَادِين السياسية، وَتَـعْمَل كَأَنها حِزْب سيّاسي سِرِّي، يُنَاصِر النظام السياسي الـقائم، وَيُـؤَيِّدُه في الـقَمع، والاستبداد، والفساد. وَلَا يَتَـقَـيَّد هذا الحزب السِرِّي بالدستور، وَلَا بالقـوانين القائمة. بل يَخْرُقُهَا كلّما دَعت الضرورة إلى ذلك، وَيَتَحَايِلُ بها، بهدف قَمع، واعتـقال، وسجن المُنْتَـقِدِين، والمُعارضين السياسيّين، والمناضلين الثوريّين. أَفَلَا يُصْبِحُ، في هذه الحَالة، جَائِزًا، وَمَشْرُوعًا، لِقِوَى اليسار، أن تَـقُوم، هي أَيْضًا، ببـعض أنشطتها الحزبية في «السِرِّيَة» ؟
الأِسْتِنْتَاج رقم 9 : تَتَعَامل الأجهزة الـقمعية مع «عُمَـلَائِهَا»، ومع «المُتَـعامِلِين معها»، بما فيهم «المُنْتَسِبِين»، أي المُتَسَرِّبِين داخل التَنْظِيمَات المُعَارِضَة، بِـقَسَاوَة لَا مُبَالِية. وحتّى «العُمَلَاء» الذين يَتَهَاوَنُون، وحتّى «المُتَـعَاوِنُون» الذين يَرْغَبُون في قَطْعِ علاقاتهم مع الأجهزة المُخابراتية، وَيُريدون إِنْهَاء «تَـعَاوُنِهم» معها، يَتَـعَرَّضُون لِلضَّغْط، وَلِلْـقَـمع، وَلِلْانْـتِـقَام، لكي يَسْتَمِرُّوا، رغم أنـفهم، في خدمة الأجهزة الـقمعية، أو المُخابراتية. حيث هَدَّدت الرسالة المُسَرَّبَة قائلةً : «كل تَهَاوُن في تَنْـفِيذ هذه التَـعْلِيمَات، في هذه المرحلة الحرجة، مِن قِبَل المُتَـعَاوِنِين، سَيُـعَاقَبُ وِفْـقًا لِلْجَارِي به العَمَل». ويظهر أن استـعمال هذه «العُـقُوبَات»، هو أسلوب مَـعْمُول به، وَمُـعْتَاد عَلًيْه، وَ«جَارٍ به العَمَل».
الأِسْتِنْتَاج رقم 10 : مِن الزَّاوِيَة النَظَرِيَة، فإن العلاقة بين الدولة والأحزاب السياسية (أو ما شَابَهَهَا، مثل الْلُّوبِيَّات [lobbies]، والتـنظيمات، والشبكات، الخ) ، تَتطوّر حسب طبيعة النظام السياسي القائم. وتَخْتَلِف علاقة الدولة بالأحزاب السياسية مِن نَمَط إِنْتَاج مُجتمعي إلى آخر. حيث لاحظنا في البلدان الرأسمالية، في المراكز الإمبريالية الأوروبية والأمريكية، أن الأحزاب السياسية، لَا تَتَحَكَّم في الدولة بشكل كُلِّي، وإنما تُؤَثِّرُ فيها إلى حَدِّ مُهِم. بينما في البلدان الرأسمالية في العالم الثالث، وخاصّة منها الأنظمة الاستبدادية (مثل المغرب)، نلاحظ أن الدولة هي التي تَتَحَكَّمُ في الأحزاب، أو تُؤَثِّرُ فيها إلى حَدٍّ هَام. أما في أنظمة الاتحاد السوفياتي، وفي الصِّين، أي في أَنْـظِمَة «اِشْتِرَاكية»، أو «في طَوْر التَحَوُّل إلى الاشتـراكية»، فإن الحزب الشيوعي الحَاكِم، هو الذي يَتَحَّم في الدولة، وَيُسَيِّرُهَا. ومن المُستبـعد أن يُوجد تَوَازُن دائم بين الدولة والأحزاب السياسية. فَإمّا أن تُصيطرَ الدولةُ على الأحزاب، وإمّا أن يُسيطر حزب أََغْلَبِي على الدولة. وفي كِلْتَا الجَالَتَين، يكون الشعب هو الضحية.

خُـلَاصَات وَأُطْـرُوحَـات سِـيَّـاسِـيَـة
1) هل يُمكن جَعْل أَجْهِزَة الدولة (المغربية)، عبر إصلاحات مُعيّنة، تَتَخَلَّـى كُلِيًا عن التـدخل في تنظيم الانـتخابات العامّة، وعن التأثير فيها، وعن مُرَاقَبَة تَطَوُّر الأفكار السياسية لجماهير الشعب، وعن مُحاولة تَكْيِيـف الأفكار السياسية لَدَى الشعب، وعن التَسَرُّب في الأحزاب والنـقابات والجمعيات المُـعَارِضَة، الخ ؟ لَا، هذا مُستحيل في إطار الرَّأْسَمَالِيَة. لأنه ما دام النظام السياسي الرَّأْسَمَالِي قائما، يَسْتَحِيل على المسؤولين الكبار والمتوسّطين في مختلـف أجهزة الدولة، الذين يجمعون بين السُّلْطَة والثَّرْوَة، وَيَغْتَنُون بشكل غير مشروع، يَسْتَحِيل عليهم أن يتـركوا تطوّر البلاد يَسِير في الاتجاه الذي يُهَدِّد مَصَالحهم الشخصية والفِئوِيَّة.
2) لـقد حَدَثـت صِرَاعات مُتَكَرِّرَة، وَخَفِيَة، داخل أجهزة الدولة، وَحُسِمَت دَائِمًا لِصَالح فِئَات مُوَظَّفِي الدولة العاملين في مُختلـف أجهزتها. وهكذا فُرِضً تَـقْلِيص مُتَكَرِّر، وَمُتَوَاصِل، في مِيزانِيّات التـعليم العُمُومِي، والمُسْتَشْـفَيَات العُمُومية، وَمِيزانيّات التَجْهِزَات وَالبِنْيَات التَحْتِيَة المُجتمعية، وَتَوَاصَلت الزِيَّادات في المِيزانيات المُخَصَّصَة لِأُجور وَامْتِيَّازَات مُختلـف مُوَظَّـفِي الدولة، وخاصّة منهم الموظّـفين في وزارة الداخلية، والإدارات، والأجهزة الـقمعية، والأجهزة المُخابراتية، والجيش، وقـوات التـدخّل السَّرِيع، والقـوّات الخَاصَّة والمُتَنَـوِّعَة، الخ. وهكذا، غَدَت الدولة، مُـعَبَّـئَـة، ليس لخدمة مصالح الشعب، وإنما لِقَمْع الشّعب، وَلِخِدْمَة مصالح الدولة كَدَوْلة (كَجِسْم مُسْتَـقِل عن الشعب). وَهكذا تَتَضَخًّم الدولة، وتتـقَـوَّى باستمرار، وَتَتَحَوَّل إلى وَحْش مُجْتَمَـعِي ضَخْم، مُسْتَـقِـل عن الشعب، بَلْ مُنَاقِض له. وَغَدَى أمن الدولة أهم من أمن الشعب. بَلْ أَصْبَح المسؤولون الكبار والمتوسّطون في أجهزة الدولة يَعْتَبِرُون أن أمن الشعب يَـتَـعَارَض، أو يُهَدِّد أمن الدَّوْلَة. ويعتبرون أن الدولة هي أَهَمّ وَأَوْلَى من الشعب. وهكذا اِنْتَـقَلْنَا من «مُبَرِّر وُجُود الدولة هو خِدْمَة الشعب»، إلى «مُبَرٍّر وُجُود الشعب هو خِدْمَة الدَّوْلَة». وَغَدَى المسؤولون الكبار والمتوسّطون في أجهزة الدولة يَـعْـتَبِرُون أن حِمَايَة أمن الدولة، يُبَرِّر شَرْعِيَة اِستـعمال الجَيش والأجهزة الـقمعية المُتَنَوِّعَة لِإِخْضَاع الشَّـعْب، أو لِسَحْـق الأشخاص والـفِئَات المُنْتَـقِـدة في الشعب، أو المُحْتَجَّة، أو الثَائِرَة.
3) تَـعمل مُختلـف مُؤَسَّـسَات الدولة، بما فيها الأجهزة الـقمعية، والمُخابراتية، وفي نـفس الآن، كَخَصْم وَكَحَكَم، في مُجمل الصراعات السياسية، والاقتصادية، الجارية في المُجتمع.
4) يَشْعر تِلْقَائِيًّا المسؤولون المُسَيِّرُون لِلأجهزة الـقَمعية والمُخابراتية، بِضَرُورة الوَلَاء والإخلاص، ليس لِمُؤسّـسات الدولة كَمُؤَسَّـسَات، أو لِلـقانون كَتَـعَاقُد مُجْتَمَعِي مُحَايِد، وَإِنَّمَا يَـعْمَلُون بِالوَلَاء والإخلاص لِلْأشخاص الحاكمين كَأَشْخَاص. وَيَتَمَيَّزُ هؤلاء الأشخاص الحَاكِمُون بِاحْتِـكَارِهِم، في نَفس الوَقت، لِلسُّلُطَات وَلِلثَّرَوَات. وَلَا يَـعْبَأُ هؤلاء الحَاكِمُون بِوُجُود هذا التَضَارُب الصَّارِخ في المَصَالِح (conflits d’intérêts). وَيُحِسُّ المَسْؤُولُون الكبار والمتوسطون، الذين يُسَيِّرُون الأجهزة الـقمعية والمُخابراتية، أنهم يَحْصُلُون على أُجور سَخِيَة، وعلى اِمتيّازات مُـعْتَبَرة، ليس من عند الدولة، أو من عند الشعب، وَإِنَّمَا مِن عند الأشخاص الحَاكِمِين الذين يُمَارِسُون السُّلطات السياسية. ومقابل ذلك، يُدَبِّرُ هؤلاء المسؤولون الأجهزةَ الـقمعيةَ والمُخابراتيةَ، بهدف حِمَايَة، وَتَـقْوِيَة، الأشخاص الحاكمين، ونظامهم السياسي الـقائم، وليس لخدمة مصالح الشعب. لأن مَسْؤُولي الأجهزة الـقمعية والمخابراتية، يشعرون تِلْقَائِيًّا، كَأَنَّهُم مُشَـغَّلُون، وَمَأْجُورُون، لدى الأشخاص الحاكمين، وليس لدى الدولة، أو لدى الشعب، أو لدى مُؤَسَّـسَات دَوْلَتِيَة غَيْر مُشَخْصَنَة. وهكذا، يُصبح مَصْدَر السِّيَادَة والسُّلْطَة، ليس هو الشعب، وإنّما هم الأشخاص الذين سَيْطَرُوا على السلطات السياسية، وعلى الثَرَوَات الاقتصادية.
5) في هذا الاطار، يَـغْدو تَطْبِيق مَبْدَأ «رَبْط المَسْؤُولية بِالمحاسبة» أَمْرًا مُسْتَحِيلًا. وَتُصبح مطالب مثل «بِنَاء الدولة الوطنية الديموقراطية الشّـعبية والحَدَاثِيَة»، وَ«إِقَامَة دِيمُوقْرَاطِيَة حَقِيقِيَّة»، وَ«الديموقراطية المُبَاشِرَة»، وَ«المَلَكِيَة البَرْلَمَانِيَة»، وَ«دَوْلَة الحَـقّ والقانون»، و«التَدَاوُل السِلْمِي على السُّلطة»، و«حُقـوق الإنسان»، وَ«إِنْجَاز نَمُوذَج تَنْمَِوِي اقتصادي حَقـيقـي»، و«الإِيكُولُوجِيَة الاشتراكية» (écosocialisme)(1)، الخ، تُصبح كُلُّ هذه المَفَاهِيم والأهداف، مُجَرَّد أَوْهَام سَاذَجة. لأنه يَسْتَحِيل إنجازها من داخل مؤسّـسات هذا النظام السياسي الـقائم، أو عبر قَوَانِينه القائمة.
6) كُلَّمَا تَكَرَّرَت، أو اِحْتَدَّت، أزمة الرّأسمالية، تَصَاعَد كلام بعض الشخصيّات عن «الدِّيمُوقْرَاطِيَة»، وعن «الحُرِّيَة»، وعن «الْلِّبِيرَالِية» (libéralisme)، وعن «النْيُولِيبِيرَالِيَة (néo-libéralisme)»، وعن «الدَّوْلَة الاِجْتِمَاعِيَة (L’État social)». لكن السُؤَال الذي يَـفْرِضُ نَـفْسَه هو : هَل يُمكن فِعْلًا لِلدَّولة، في إطار الرَّأْسَمَالِية، أن تَكُون «دِيمُوقْرَاطِيَة» حَقًّا، وَ«لِبِيرَالِيَة»، وَ«اجْتِمَاعِيَة» ؟ إِجَابات أنصار الرَّأْسَمَالية هي دَائِمًا «نَعَم». لكن التَجَارِب عبر مختلـف بُلدان العالم الرَّأْسَمَالِيَة، تُجِيب أن الدَّوْلة تَتَطَوَّرُ بشكل لَا يُـقَاوَم نَحو الدِيكْتَاتُورِية الخَـفِيَة لِطَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار، ونحو التَرْكِيز على خِدْمَة مَصَالِح الرأسماليِّين المُسْتَـغِلِّين الكبار، وذلك على حِسَاب خِدمَة مَصَالح الكَادِحِين المُسْتَـغَلِّين، والـفَلَّاحِين الصِّغَار، والمُهَمَّشِين، والمَحْرُومِين.
7) في الأصل، خُلِقَت الدولة لِتَحْـقِيـق مَصالح الشّعب، وَصِيَّانَة أمنه. لكن في إطار الرَّأْسَمَالِيَة (بِمَا فيها الرَّأْسَمَالية التَبَـعِيَة)، تَنْـقَـلِبُ الأُمُور بِسُرْعَة إلى عَكْسِهَا. فَيُصْبِح الشّعب مُسَخَّرًا لِخِدْمَة الدولة. وتُصبح الدولة مُسَخَّرَة لِخِدْمَة مَصَالح طَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين الكِبَار. وَتَـغْدُو صِيَّانَة أَمْن الدولة مُبَرِّرًا لِلتَضْحِيَّة بِأَمْن الشعب. ومن فتـرة لأخرى، يَنْـفَضِح أن أجهزة الدولة تـعمل كحزب سياسي سِرِّي وَمُتَحَيِّز. وتـعمل الأجهزة الـقمعية، والمخابراتبة، بشكل مُـعَاكِس للدستور، وللـقانون القائم. لكن العَـقْل السَّلِيم، يَنْتَبِه، وَيَنْتَـقِد، وَيُـعَارِض، وَيَرْفَضُ تَحَوُّل «الدفاع عن أمن الدولة» إلى مُبَرِّر لِخَرق حقـوق المواطنين، أو لِلْإِضْرَار بِأَمْن الشعب، وَبِمَصَالِحِه.
رحمان النوضة (16 ديسمبر 2022، الصيغة رقم 4).

الــــــهـــــــوامـــــــش :
(1) أذكر هنا بعض المراجع: كتاب فريدريش إنجلس (Friedrich Engels)، أصل العائلة، والملكية الخاصّة، والدولة. وكتاب فلاديمير لينين (V. Lénine)، الدولة والثورة. وكتب اـلْمُـفَـكِّر الماركسي نِكُوس بُولَانْتْزَاس (Nicos Poulantzas) الذي درس آليات اِشتـغال أجهزة الدولة، في عدّة مجالات، وفي عدّة كتب، منها : كتاب "نظرية مادية للدولة"، وكتاب "النظرية الماركسية والاستراتيجية السياسية"، وكتاب "الفاشية والدكتاتورية"، وكتاب "الطبقات المجتمعية في الرَّأْسَمَالِية اليوم"، الخ. كما أن لْؤِيس أَلْتُوسَر (Louis Althusser) نشر كُتَيِّبًا حول الأجهزة الأَيْدِيُولُوجية للدولة.
(2) هذه الأهداف والمطالب وَرَدَت مثلًا في «الأرضية السياسية» التي نشرها "حزب فيديرالية اليسار الديموقراطي"، الذي تَأَسّـس في شهر ديسمبر 2022 في المغرب. وقالت الأرضية عن هذه المطالب : «هي معركة لن تـكون عَسِيرَة» ! وَيَتَبَنَّى "الحزب الاشتـراكي المُوَحَّد" نَـفس الأهداف.
مُـــــــلْــــــــحَـــــــــق :
صورة الرّسالة المُسَرَّبَة :








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية
مغربي حر ( 2023 / 1 / 10 - 07:35 )
تحية عالية لهذا المناضل الرائع
لك كل الحب و التقدير و ان كنا نختلف في بعض الاشياء التي يمكن أن نذكر منهاعلى سبيل المثال لا الحصر:مسألة الدولة هل هي وجدت لخدمة الشعب أم الطبقة الحاكمة؟
الدولة أصلا ليست محايدة و بالرغم من أنها نشأت لمنع التناحرات الطبقية من التهام المجتمع في حرب الكل ضد الكل مما يمنحها(الدولة) بعض الاستقلال إلا أنها تظل دوما دولة طبقية
على أي حال أحييك مجددا و أشيد بحسك النقدي الابداعي الذي يتخطى الجمود السائد عند العديد من اليساريين الذين يكتفون بترديد العبارات المقتطعة على غرار الطوائف الدينية

اخر الافلام

.. -عمرنا شفنا دول بتحارب في الصغار-.. صراخ سيدة من غزة بعد قصف


.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تناقش سيناريوهات الهجمات الإيرانية




.. وسط غضب متفاقم من الحكومة.. مشهد فوضوي في البرلمان البوليفي


.. مسؤول أمريكي كبير: قطر أبلغت قادة حماس بأن وجودهم غير مرحب ب




.. بعد توقيف وزير ورجل أعمال بسبب إهمالها، ماهي الأراضي الدولية