الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )

علي فضيل العربي

2022 / 12 / 30
الادب والفن


قال لي صديقي ( ج ) ، و هو يحاول رسم يومياته الريقيّة ، بكل ما فيها من كليّات و جزئيّات و ألوان :
- لم يكن القبول بذلك التعيين في تلك المدرسة الريفيّة هيّنا عليّ و على أمّي . فقد رفضت هذه الأخيرة ذهابي إلى الريف ، و أنا لا عهد لي بالعيش فيه . و ترجّت أبي أن يسعى لي عند أهل العقد و الحل في الأكاديميّة ( مديرية التربيّة لاحقا ) ، و يستغل كلّ معارفه ، كي يعيّنوني في إحدى المدارس الابتدائية بمدينتي ( س ) .
لكنّ أبي لم يحرّك ساكنا ، بل شجّعني على الالتحاق بتلك المدرسة ، قائلا لي :
- لا تستسلم لعواطف أمّك ، هناك يا ولدي ، في الريف ، ستجد أناسا طيبين ، و على الفطرة البيضاء ، و أهل كرم و جود . سيحبونك مثل أبنائهم ، و ستحبهم أكثر . و لا تنس أنك رسول علم ، ذاهب لمصارعة ظلام الجهل . ستصبح نبيّهم الذي انتشلهم من الظلام إلى النور ، و سيجازيك الله أجرا مضاعف ، لأنّك ستتحمّل مشقّة السفر و البرد و الصقيع ..
و أردف صديقي ( ج ) قائلا : عندها هدأ روعي . كانت كلمات أبي و نصائحه بردا و سلاما على قلبي . و شعرت بها كشعور الأرض العطشى عند سقوط الغيث . توكلت على الله ، و رجوت من أمي الدعاء ، بعدما أقنعتها بأنّ ما سأقوم به من عمل ليس مجرّد وظيفة أبغي من ورائها كسب أجر من المال ، بلّ هو رسالة إنسانيّة و حضاريّة و دينيّة . و أنّ أهل الريف أولى بالتعليم من أهل المدن ، لأنّ الأميّة ضاربة بأطنابها بينهم حتى النخاع ، بعدما حرمهم المحتل الفرنسي من العلم ، و فرض عليهم حياة العبوديّة عشرات السنين ، كي يسود ..
و لم تكن رحلتي الأولى إلى تلك المدرسة الريفيّة النائيّة سهلة . كأنّني انتقلت – فجأة – من قارة إلى أخرى ، و عبرت بدراجتي الهوائيّة الطريق الترابيّة الممتدّ في بطن الفج ، و الصاعد بين جبلين مكسوين بأدغال من أشجار الصنوبر و العرعار و السرو و الكاليتوس و الصفصاف . و لا أكتمك سرا – قال صديقي ( ج ) – إذا بحت لك بتلك التي انتابتني و أنا أعبر الفجّ . فقد شعرت بالخوف أول مرّة ، و كاد يتحوّل إلى فزع و رهبة . و سرح بي الخيال إلى عوالم من الرعب . كنت ، و أنا ، ادفع دراجتي الهوائية بكل قواي الجسديّة و النفسيّة ، أتخيّل جسدي لقمة سائغة بين أنياب ذئب جائع ، أو فريسة لخنزير بريّ هائج . كنت اترقّب ظهور جنّ ، او كائن خرافيّ ، كالغولة مثلا ، ليلتهمني ، على حين غرّة . كان جبيني ينضح عرقا باردا حين أكتشف أنّني وحيد في درب أجهل معالمه و نهايته ..
عندما أشرفت على الدوار أول مرّة ، كانت الساعة التاسعة من نهار يوم خريفيّ ، و كانت شمسه تظهر تارة ، و تتوارى خلف سحائب دكناء اللون تنبئ بقدوم غيث خريفيّ ، يهزّ الأرض ، و يخرج بذورها من سبات صيف قائظ . صادفت كهلا على عتبة الشيخوخة ، و هو يغادر الدوار . كان ممتطيا أتانا رماديّة اللون ، تبدو عليها آيات الهرم و تعب السنين . و يحثّها على السير بإلكاد و جهد . استوقفته ، و حييته ، و سألته عن مكان الدوار ، فقال لي مبتسما ، و هو يشير بعصاه إلى بيوت الدوار المتناثرة على التلال و سفوح الجبال :
- هذا هو دوارنا ، يا بنيّ .
ثم أردف قائلا :
- يبدو أنّك غريب عن الدوار ، يا بنيّ .
- أي ، نعم ، يا عم . أنا من مدينة ( س ) .
- إذن ، عمّن تبحث ؟
- أبحث عن المدرسة ، عيّنوني معلّما جديدا بالدوار .
- مرحبا بك يا بنيّ .
ثم أضاف :
- لو لم أكن مشغولا لأوصلتك إلى باب المدرسة ( و نطق الدال مفتوحة ) . لكن ، لا عليك ، ستجد من يقودك إليها . اتبع هذه الطريق ، ثم در يمينا ، ستقابلك المدرسة ( و نطق الدال مفتوحة ) ، ثم همّ بالانصراف ، و ودّعني و ودّعته و شكرته بعدما أشعرني بالأمان و الألفة .
و بدت لي بيوت الدوار ملتصقة بالأرض ، كأنّها جزء ناتئ منها ، أو كأنّها كائنات زاحفة على بطونها ادركها السبات فجأة ، فركنت حيث هي ، لا تكاد تبصرها العين المجرّدة . فهي مجرّد أكواخ من الطوب الطينيّ ، مسقّفة بأعمدة من خشب الكاليتوس . تتكوّن من أعمدة صلبة ، يسميها أهل الريف ( الركيزة ) ، و من عمود خشبيّ يمتدّ بشكل مستطيل من طرف إلى طرف يسمّى ( الساتور ) ، و عليه توضع و على الحائط الترابي مجموعة من الأخشاب المتوسطة الحجم تسمّى ( الحنايا ) ، ثم تصفّف فوقها أعواد القصب ، و اخيرا توضع فوق القصب رزما من فسائل ( الديس) ، و تغطّى بنوع من الطين المخلوط بالتبن ..
و أردف صديقي ( ج ) قائلا :
و سرت في الطريق ، كما أرشدني ذلك الكهل – جزاه الله خيرا – أقدّم رجلا و أؤخّر أخرى ، حتى ظهر لي من مسافة غير بعيدة ، بناء أبيض الجدران ، مسقوف بقرميد أحمر ، فحدست أنّها مدرسة الدوار ... ( يتبع )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة