الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فصول نحوية

فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)

2022 / 12 / 31
الادب والفن


الأفعال:
يعرف الفعل بقد والسّين وسوف وتاء التأنيث...
كلّ ما ثمّ تسويف، ونحن نحلم ولا نفعل شيئا، لم نحرّك ساكنا، نسير في شوارع أخطبوطيّة متمطّطة عرجاء، نمضي ثمّ نستدرك فتنحسر خطانا، إلى أن نبقى نراوح في أماكننا، نقبع في مستنقعات آسنة، تبدّلت أعراضها ولم نتبدّل، حتّى أصبح القفز ضرورة يحتّمها الواجب، والرفض واجب...
جرى، فعل ماض مفتوح الآخر أبدا...
كان لا بدّ من التجاوز لتحقيق المستحيل وإلغاء الرّكود ونتف ثوابت الأشياء، دليل التّحوّل هذا، الذي يسري في نفوسنا وميولاتنا ويصّعّد بأنظارنا إلى أعلى، يسربل رغائبنا بين الحقيقة والخيال، يدفعها إلى التّوزّع في شرايين الحياة، فتتكسّر الثلوج الوهميّة البيضاء، وتتفتّح للشوارع عدّة أبواب نمرّ عبرها، ومن خلالها تنفذ أشعّة الشّمس فتحلّ عقدنا، وتمسح دموعا مستفيضة...
أنيت، زوائدة أربع تحيل الماضي إلى مضارع، تصير فيه الأفعال مرفوعة أبدا، متجرّدة من عوامل النصب والخفض...
نتعثّر، نسقط، لكنّنا نقوم ونواصل ما بدأناه. رؤانا المتمرّدة الرافضة غريبة على أرض مليئة بالشّوك "الرومي" والخشائش ونبتة "البكّ" وحشائش أخرى تأبى أن تأتي إلى الذّاكرة. أفكار تجاوزيّة مقيّدة، وأجسام محاصرة تروم الانفلات والعتق، فتدوّي صفّارات الإنذار، وتبدأ المطاردة...
فِرْ، لا مفرّ، الأمر مجزوم أبدا، وعلينا أن نسير بحذر...
الفاعل:
ضمير مستتر، تقديره نحن، نمشي ونتخفّى كجرذان تخشى الملاحقة. لمدّة شهر كامل ونحن لم نغيّر ملابسنا. لمدّة شهر كامل ونحن لم نخرج من الوكر الذي اتّخذناه مخبأ لنا. لمدّة شهر كامل وأنا أتأفّف إذْ أكاد أختنق في هذه المساحة المحدودة التي كنت مجبرا على عدم تخطّيها، وتضيق نفسي وتنسدّ كأنّني أصعد إلى السّماء، وصاحبي قد تلبّسه الرعب فلا يحكي إلّا عن مطاردة البوليس لنا، أضناه القلق والخوف من أن يتمّ اكتشاف مكاننا فيحاذر بصورة مبالغ فيها كي لا يصدر صوتا، ولا يشعل فانوسا، ولا يفتح بابا، ولا يطرق حديدة، ولا يسكب ماء، خشية كشف سترنا وفضح أمرنا...
لمدّة شهر كامل ونحن لا ندري ما يخبّئه لنا المستقبل بين طيّاته، والاعتقال أكثر الأمور توقّعا، ننتظره في كلّ ليلة، بل في كلّ حين. انزعاجنا يثير الشفقة!
لمدّة شهر كامل وصاحبي بسبب وبدونه يذكّرني بما نحن فيه، يلفّ أمامي كالذّبابة جيئة وذهابا دون هودة وأثر الصدمة القويّة على نفسه قد غيّرت من طباعه كثيرا، فأصبح شخصا غريبا سريع الغضب، يحدّ من تصرّفاتي إلى درجة لا تطاق.
ثرت في وجهه عديد المرّات:
- أعصابي لم تعد تحتمل تصرّفاتك هذه، من المستحيل أن نبقى معا طويلا. كن طبيعيا فالحذر لن ينفع مع القدر!
فكان يجيبني بقسوة:
- بتصرّفاتك أنت ستكتشف الشرطة مخبأنا، أنا لا أقوى على الصمود تحت تعذيبهم، أكره أن أهان.
- وهل تتصوّر أنّي أنا أعشق الإهانة!
لمدّة شهر كامل وأنا أفيق مذعورا على حركة خفيفة على البلاط، فأنسلّ من فراشي حذرا متوقّعا خطرا ما، فإذا هو صاحبي يتطلّع إلى الخارج من ثقب الباب، يتنصّت بكلّ جوارحه وحواسّه، حتّى إنّه ليسمع أصواتا غير مسموعة، ويرى خيالات غير مرئيّة، فأغضب وأصرخ فيه محذّرا:
- اهدأ! وكفاك ارتيابا، بحركات هذه توتّر أعصابي!
- صمتا! ألم تسمع؟
- أسمع ماذا؟
- كأنّي سمعت صوت سيّارة قد توقّفت أمام الباب.
وأفتح الباب بحذر شديد لأسترق النظر، أخرج حافيا أسير على أطراف أصابع القدمين، أنظر في كلّ الاتّجاهات أستطلع الأمر فلا أجد شيئا، أعود إليه وأنا ألعن عواطف القلق والخوف، وأحتقر مظاهر الضعف التي لا تليق بالرجال...
لمدّة شهر كامل وأنا ألمس اتّساع عينيه وذوبان قدراته الإراديّة للسيطرة على أعصابه، وكثرة أسئلته الحارقة الموجّهة لي، والتي لم يكن ليحفل بأجوبتي إذا ما أجبته عنها بما لا تهواه نفسه المهزوزة...
- لقد مضى ما يزيد عن الشهر ونحن هنا، أتظنّ أنّ المطاردة قد خفّت خلال هذه الأيّام؟
- لا أعتقد ذلك، فالقضيّة ساخنة ما تزال تتصدّر نشرات الأخبار.
لمدّة شهر كامل وأنا أتلقّى من خلال حديثه عن أبنائه والحنين إليهم اتّهاماته التي لم يصارحني بها يحمّلني فيها مسؤوليّة تورّطه معي...
- أتراهم قد عادوا لتفتيش بيوتنا مرّة أخرى؟
- لا يمكن أن يحدث ذلك إنّهم يراقبونها فقط. حسب ما وصلني من أخبار هناك سيّارة مرسيدس خضراء ترابط في الحي.
فيتبسّم ابتسامة مريرة ويقول:
- يريدون حملنا إلى السجن على ظهر مرسيدس إذن!
فأضحك ضحكة لا أنهيها، إذ أنّ صاحبي ينهرني لأخفت صوتي ويعود إلى سواده وألمه الشديد، ويقول حزينا:
- تصوّر أنّ صورة ابنتي الصغرى قد مُسحت من ذاكرتي!
في الحقيقة، رغم عزلتي في هذا المكان إلّا أنّ الأخبار لا تنقطع عنّي، تأتينا أوّلا بأوّل وكذلك الأكل، لمّا وقع الشكّ في تحرّكي وخفت المداهمة ليلا فررت إلى هنا بتوجيه من القيادة وتأمينها، وفي الغدّ جاءني من يعلمني بأنّ بيتي قدّ تعرّض للتفتيش وأنّي ملاحق من الأمن، وبعد يومين جيء بصاحبي إلى الوكر ذاته، وصاحبي لم تكن لي به معرفة من قبل ولا هو يعرفني، عندما قدّمت له الطعام أوّل مرّة كانت شهيّته مسدودة، فلم يتناول منه شيئا، بقي في الفراش الذي خصّصته له لا يبتعد عنه إلّا لفتح التلفاز، يتابع نشرات الأخبار من جميع القنوات وبجميع اللغات المعروضة، بحثا عن حدث يشير إلى تغيّر العالم في اتّجاه أحد المنحنيات المعاكسة، وكنت محتارا أحاول التخفيف من روعه وتحفيف شطط تأويلاته وجنوحها فلا أفلح...
لمدّة شهر كامل وأنا أهدّده بتركي إيّاه وحده في هذا المخبأ دون أن أمرّ إلى الفعل...
- لقد بدأت تدفعني إلى التفكير بجدّية في العودة إلى بيتي، رغم ما في رجوعي من مخاطر.
فيستعطفني ذليلا:
- تحمّلني قليلا أرجوك فلست متعوّدا على هذه الأجواء.
لا أظنّه يخشى البقاء وحده، وإنّما هو خائف من وقوعي أعين الشرطة عليّ عند مغادرتي المخبأ أو بعد ذلك، فيطالونني ويطالونه...
هذه المرّة، انتقلت من التهديد إلى الفعل، لقد فاق الأمر حدّه، ولم أعد أطيق الحبس في هذا الحيز الضيّق مع هذا الصاحب الـ...، مللت التفرّج على الصور التي تعاد أمام ناظري بصورة مسترسلة، مللت الاحتكاك بالأغطية والتّقلّب فوق السرير... مللت الانتظار والنظر في وجه صاحبي... وصلت إلى عتبة الجنون، صرت عصبيّ المزاج، نافد الصبر، أفحّ كالثعبان من غير بيان.
كسّرت أخيرا الطوق الذي يكبّلني، وجدت السبب في مشادّة كلاميّة بيني وبينه لأخرج غاضبا كما المارد من القمقم. اتّبعت سببا فتنصّلت من قيود الخوف وخرجت أتلطّف، أحاذر كي لا يشعر أحد، وفوجئت، وأنا أسير في اتّجاه مجهول، بأنّ الزمن راكد لم يتحرّك على عكس ما كنت أشاهده في التلفاز، والحرارة لم تهبط على الدرجة التي تركتها فيها، والبياض اسودّ على الحيطان عكس ما كنت أنتظر أن يكون، والشوارع لحمة حيّة تتأثّر تحت ضغط أنفاس المارّة فتهتزّ وتتقعّر، وعناصر الهواء مرئيّة يمكن تلمّسها إذا شئت حين أثبت في مكاني ولا أتحرّك. خرجت ولم تلمع عيناي قطّ، يعشى الهواء المضغوط الذي كان يلامس أجفاني بوقاحة عينيّ التي كنت أشاهد بهما وجه صاحبي وبرامج التلفاز. في الخارج الوقت لا يمرّ، والإحداثيات التي كانت تميّز المدينة اندثرت. فكّرت أنّ الأرض التي أحببت المشي عليها هي زنزانة كبرى تحاصرنا، وأنّ البيت الذي وجدت فيه هو أفسح وأرحب رغم ضيقي به، ووجه صاحبي أفضل من الجثث التي لا شكل يفسّرها، وتفرح بوجودها على قيد الحياة.
عزمت فتوكّلت وعدت أدراجي إلى البيت وفي فؤادي زاد من الصبر يمكّنني من البقاء فترة أطول في المخبأ. قدمت على صاحبي فوجدته يرتعش خوفا بشكل يكاد يخيّل لي أنّ عظامه قد انتزعت من مكانها، الوجه شديد الامتقاع، والعينان تقفزان في محجريهما، والشفتان مبيضّتان، حين لمحني واقفا أمامه فغر فاه وأجال نظراته في مساحة خلفي لي ليتحقّق من عدم وجود أحد ورائي، فقد اعتقد أنّي لن أعود إلا والشرطة معي، بقي باهتا مندهشا لبرهة ثمّ قام يعانقني ويشتمني...
- لقد خفت عليك، خفت كثيرا أيّها الـ...
فتبسّمت، وأنا أتلقّى شتيمته، وتبسّمت ثانية وأنا أراه بعد ساعة يهمّ بالخروج من المخبأ يريد تكسير الحواجز...
المبتدأ والخبر:
المبتدأ هو صاحبي العاري من عوامل الحماية، والواقع تحت المراقبة... والخبر هو المخبر المسند إليه، والمتابع لتحرّكاته... والمبتدأ ظاهر ومضمر، وصاحبي كثير الاختباء، وإذا ما ظهر يكون عرضة للملاحقة والتّتبّع... والخبر مفرد وغير مفرد، ولحسن حظّ صاحبي فإنّ المخبر مفرد، سريع الحركة، دقيق الملاحظة، ينتظر الدعم. غير أنّ إمكانية سقوطه في كمائن واردة جدّا...
المبتدأ، صاحبي، الذي خرج ليصيب من دفء الحياة، فطن للغاية، فهو إنسان لم يخلق في مستنقع مغلق، إنسان يريد أن يداعب بعينيه ريش الطيور ويستمع لأغان جميلة، ويضمّ المدينة تحت جفنيه، ليس بينه وبينها سوى حذره والحنين الذي يدفعه إلى التهلكة... والخبر وجه مستتر بألوف الأقنعة، يلبس جلد الضفدعة ويسير من شارع إلى شارع، ومن واقية إلى واقية، يتبع المبتدأ في رفعه وسكونه، في جلوسه ووقوفه، في حركاته كلّها، بحثا عن نواقصه وعوراته... والخبر المخبر يحتاج ضرورة إلى مبتدأ، وإلّا فلن تكون له وظيفة بسعد بها، وهو جشع يروم إتمام المعنى، والمعنى هنا مخبأ صاحبي وما ضمّ...
وتخيّل أنّ لو كلّ مبتدأ لا يتفطّن إلى خبره فما الذي يحدث عندئذ؟ ولكنّ المبتدأ، صاحبي، ليس غبيّا إلى هذه الدرجة، فقد تفطّن إلى ملاحقة المخبر له فغيّر علاماته وبدّل أشكاله، وامتطى سيّارة أجرة، وحين سأله السائق إلى أين يأخذه، أجابه فورا: "سر في هذا الاتّجاه ولا تتوقّف."
في البدء، كان أمرا عاديا أن يتقبّل السائق أوامر مثل در يمينا، انعطف شمالا، اتّجه رأسا، ولكن بمرور الزمن فات الأمر حدّه، فقد ابتعد عن العمران ودخل في مسالك فلاحيّة نائية، ولم تعد السيّارة تتحمّل رجرجة الطريق، والمبتدأ، صاحبي، لا يحفل بذلك، ولا يعبأ بنظرات السّائق القلقة، فقد كان يتابع عبر المرآة الجانبيّة سيّارة أجرة خلفه تتبعه، ولم تقدر كثرة المنعطفات على فقدان أثره.
ماذا يصنع سائق سيّارة أجرة لمّا يوقعه سوء حظّه بين مبتدأ وخبره سوى أن يسرّ لعناته وغضبه في نفسه، ويتعمّد تخفيض السرعة متشهّيا إعلان الزبون عن رغبته في النّزول، وكان ذلك أقصى ما كان يرجون السّائق في تلك اللحظة، رغم وجوده في مكان خال يضعف رجاءه، ويوهن أمله...
- قف هنا من فضلك!
انصاع السائق للطلب فورا، لم يتعب نفسه بالتفكير في سبب نزول صاحبي في هذا الخلاء المخلي، ولا عن سبب توقّف سيّارة الأجرة التي تتبعهم خلفهم، كان كلّ همّه التخلّص من هذا الرّاكب والعودة سريعا إلى مواطن العمران والحركة، فما إن نقده الزبون أجرته حتّى غادر البقعة الخلاء مسابقا الرّيح، تاركا المبتدأ، صاحبي، يبحلق في أواخر المساحات البنّية، محوّلا الصمت إلى دوائر مفرغة، معيدا ترتيب كلّ شيء أمامه من جديد، كانت نهاية الملاحقة محتومة والمواجهة صريحة بين المبتدأ، صاحبي، وخبره النازل توّا من السيّارة شاحنا نظراته باللامبالاة المصطنعة، يحاول أن يتجنّب صاحبي إلى حين وصول الدعم، فجأة، اعترض المبتدأ، صاحبي، سيّارة الأجرة التي جاءت بالخبر، المخبر، قفز إليها في لحظة استدارتها، أوقفها وارتمى داخلها ثمّ طلب من سائقها التوجّه مباشرة إلى حيث كان...
منظر رائع ومدهش خلّفه المبتدأ وراءه يدعو للفرجة والتشفّي! غير أنّ صاحبي يفكّر في أشياء أخرى، أشياء تتعدّى رغبته في الالتفات خلفه بعد أن سقط الخبر منفصلا عن المبتدأ، الذي هو صاحبي، وظلّ المعنى تاما!!
لا أدري لماذا لم ينقص المعنى بسقوط الخبر وبقي تامّا؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه