الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطرة مطر // قصّة قصيرة

ريتا عودة

2023 / 1 / 1
الادب والفن


نظرتُ إلى الأرضِ أبحثُ عن مكانٍ أهطلُ فيه، فقد قررتُ أن أكونَ متفرّدةً في هطولي كي لا أتبدّد عبثًا.
أبصرتُ مجموعةً من الأطفالِ يتقافزونَ حُفاةً فوقَ بِرَكِ ماءٍ، يطاردون كرةً، ويُردّدُونَ بفرح:
"طاح المطر على الطين- الله يسلّم فلسطين".
ثمّ أبصرتُ كهلاً يجلسُ القرفصاءَ قريبًا منهم يراقبُ الطيورَ الصغيرةَ البعيدة في السَّماءِ وهو يقولُ في سرّه: "متى تتلوّنُ أحلامُ البؤساءِ؟"
استقرّتْ الكرةُ فوقَ أنفِهِ، فصحا على أطفال ٍهرعوا يقطفونَ عن وجنتيْهِ ثمارَ الصَّباحِ.
عبرتُ بين الأزقةِ المُوْحِلة، وتسمرتُ قربَ غرفةِ طبيبٍ نحيلٍ. نظرَ من النافذة ليراقبَ العصافيرَ الصغيرة البعيدة وهو يحلمُ أن تحطَّ ذاتَ أملٍ على كتفِهِ.
عادَ من تيهِهِ إلى المرأة العجوز التي انتهى لتوِّهِ مِنَ الكشفِ عنْ سبب أوجاع صدرها. راقبَ يديها بتوجّسٍ وهي تحاولُ فكَّ صرّةِ قماشٍ حفنتْ منها ملءَ راحتها قطعًا نقديَّةً نحاسيّةً صغيرة، بعثرَتْها أمامَهُ على المنضدة وعيناها تتوسلانِ أن يرضى بهذه القطعِ مِنَ النقود. تنهّدَ الشَّابُ وقالَ وقد تحشرجَ صوتُهُ في حلقِهِ: "ضُبّي نقودك يمّا، الدنيا لسَّه بخير."
تدفقتْ أنهارٌ من الحَنانِ في عُروق المَرأة. اقتربتْ من الشَّابِ وحضنَتْهُ. لفّتْ كتفيهِ بثوبِها الخمريّ المزيّنِ بالقُطَبِ الفلسطينيَّةِ الكالحة، فأزهرَ اللوزُ على أشجارِ القلبِ.
رحتُ أواصلُ رحلتي كأنني فَرَاشَة خرجتْ للتوِّ من شَرْنَقَة.
اقتربتْ فتاةٌ لتفتحَ نافذةً، فاقتربتُ منها، وسرعانَ ما عادتْ إلى الداخل وهي تسيرُ بخطواتٍ بطيئة، فأدركتُ أنّها كفيفة. جلستْ قُربَ المرأة المُسنّة تقول: "يمّا، أشتهي اليوم طبخة فريكة."
تحسّستْ العجوزُ جيبَ معطفِهَا. لم تعثرْ إلاّ على بضعِ ورقاتٍ نقديَّة والشهر ما زال في أوّله. لم تتأففْ. ابتهلتْ: "إلهي، أعطنا خبزنا كفاف يومنا". هتفتْ بحنوّ لـ(سَعْدَة): "تعالي نحصل على قسطٍ من الرَّاحة، وحين نستفيقُ ربّك رح يفرجها".
عندما استيقظتْ من نومها عثرتْ على دجاجةٍ في المطبخ، فلم تشغلْ بالها بمصدرِ رزقها، بل شرعتْ في إعداد الفريكة. وهي منهمكة في عملها وصلَ ابنها، فأخبرها أن أحدَ الرِّجال زارَ المستشفى، وفي يده بعض الدجاجات أتى بها للطبيب الذي استأصلَ الرَّصاصةَ من أحشائِهِ دونَ أن يتوفَّرَ له ثمنُ العلاجِ. حينَ رأى (سعدًا) في الرّواق، رقَّ قلبُهُ وأعطاه دجاجةً.
حدّقتْ الأمُ في السماءِ البعيدة. رأتْ عصافيرَ كثيرة. احتضنتْ ابنها. أحاطتْ عنقه بضفيرة شعرها الشائبة، فحطّ كروانٌ على سطح أحلامها.
أخذتُ أتقافز بفرحٍ كما العصافير الصغيرة في بيادرِ قمحٍ، إلى أن رأيتُ امرأة عجوزًا تكاد بشرتُهُا تكونُ كقشرةِ برتقالةٍ جافة. كانت تقرفصُ بسكُونٍ فوق الأرض. علتِ الهتافاتُ من حولها، كلٌّ يستنكرُ هدمَ منزلها، أما هي فقد كانت تراقبُ الغبارَ الذي تراكمَ فوقَ شجرةِ الصَّبَّارِ الشَّاهدة على هدمِ مأواها، عشّ أحلامها.
دفنتْ أوجاعها في الرِّمال.
تنهدتْ بحسرة وهي تتمنى ولو دمعةً واحدة تخفِّفُ من حُرقةِ قلبها. نظرتْ إلى فوق، تستجدي العونَ منَ السماءِ، فلمحتْ عصافيرَ كثيرة، بعيدة، بعيدة.
تنهدتْ بحُرقة وراحتْ تناجي نفسها:
" آآآخ خ خ....
التقتْ نظراتنا.
رقّ قلبي لحالِ هذي المرأة الشامخة كنخلة، الصامدة كشجرة زيتون في تربة خصبة.
قررتُ أن أهبطَ إليها لأخففّ عنها خَلَّ تلك اللحظة الدّامية.
قفزتُ داخلَ مآقي عينيها، وهناك بدأتُ أتضاعفُ برويّة.
فجأة...
أجهشتِ المرأةُ في البكاء.

(2004)
"أنا جنونك"، ريتا عودة، 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في