الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مي زيادة بدون جبران

محمود الباتع

2006 / 10 / 11
الادب والفن


لا يعزى سر تميز الراحلة مي زيادة بين عمالقة عصرها إلى كونها امرأة فقط، ولكن إلى جرأتها الغير معهودة آنذاك في كسر قيود وأغلال المجتمع الشرقي في نظرته إلى المرأة، وأقدمت بجرأة على اختراق ذلك الجدار الاجتماعي والثقافي من خلال عملها في جريدة المحروسة التي أنشأها والدها في القاهرة، ومن ثم إقامتها لصالونها الأدبي الشهير، والذي اعتاد أن يقيم مساء الثلاثاء من كل أسبوع لقاء لرجال الأدب والثقافة والفكر، في عصر لم تكن تجرؤ المرأة فيه على الخروج من منزلها.
لم يقتصر تحدي مي على الانعتاق من أغلال المجتمع، وإنما تعداه إلى تحطيم قيود الذات، من خلال التعبير عن ذاتها الشخصية الحميمة من خلال الأدب. فلم يكن في حسباني ثمة مثقفة في ذلك الوقت تملك الجرأة على الكشف عن مكنون الأنا القابع في وجدانها، الأمر الذي أقدمت عليه مي بجرأة شديدة، فقد أتيح لقارئ مي أن يعيش في أعماقها وأن يتلس كل ما يعتلج فيها من أحلام وآلام ومعاناة.
الأمر الأشهر في مسيرة حياة مي المتميزة كان علاقتها المثيرة بجبران خليل جبران، الذي عشقته بكل أحاسيسها وكيانها، بالرغم من أنها لم تلتق به ولا حتى مرة واحدة في حياتها، وكان حبها له حباً مع وقف التنفيذ، لم يغادر الورق أبداً، واستمر إلى النهاية من خلال الرسائل لا أكثر، ومع ذلك فقد تجرأت مي صارحت جبران بحبها بعد مرور اثنتي عشرة سنة من المراسلة، وحافظت على جذوة حبها متقدة لمدة ثلاثة عشر عاماً بعدها، إلى أن لبستت ثياب الحداد عليه بعد وفاته، كأي أرملة ترتدي السواد على زوجها!
كان جبران لمي بمثابة المعلم الفكري والأدبي، لكنه مالبث أن تحول إلى الملك الأوحد المتوج على عرش قلبها، وربما كان الملهم الأول لكل لواعجها وأحزانها. لقد شاءت الأقدار أن تكون قاسية مع الآنسة مي، فحرمتها من كل ما تحلم به الفتيات في كل زمن، الزوج والبيت والأطفال، فكان غياب هذه الأمور عنها، دافعا ربماً إلى التسلي بالأدب، وامتشاق الكلمة والسفر بها ومعها إلى العالم المدهشة التي كانت تقودها إليها، مما أسهم في إثراء الحياة الأدبية والفكرية إلى أبعد حد، حيث كانت تجد في كلمات الحب ملاذاً عاطفياً لها، واستبدلت أحلام العذارى بحب أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
قابل جبران تلك العاطفة الجياشة من مي بشيء من النذالة، فقد كان وبينما تدلهت مي في حبه سنين طوال، كان يخونها مع عشيقته في نيويورك ميري هاسكل، والتي كان يخونها هي الأخرى مع أية عابرة أميركية أو عربية على السواء. كان جبران يقول لمي في رسائله أنه موزع بين امرأتين، امرأة الحلم وامرأة الواقع، والظاهر أنه كان يعيش مي في الحلم ويعايش ميري في الواقع، ويمارس شهرياريته بذبح كلتا الحبيبتين بسكين الخيانة مع كل أنثى تطرق بابه.
رحلت مي رحمها الله كسيرة البال بعد أن نازعها أقاربها على ميراثها من والدها بعد وفاته، وانتهى بها الأمر إلى أن أودعت ظلماً في مستشفى المجانين. كانت مي مجنونة فعلاً، وكان جنونها الحقيقي هو ارتباطها الوهمي بجبران، الذي كان يطير بها في سماء الأحلام تارة ويهوي بها على صخور الواقع تارة أخرى، ليحرمها من ممارسة حياتها بشكل طبيعي كأي إنسانة في الكون. لقد حكمت تلك العلاقة على مي بالعيش كراهبة فيستالية، كرست حياتها في خدمة موقد الإله فيستا، في سبيل إبقاء ناره متوقدة.
لا تزال مي زيادة هي النموذج الذي تتمثله كثيرات من أديبات اليوم، حيث تدرك العديدات من المثقفات أن سر تميز مي زيادة كان تمردها على قيودها الشخصية وأغلال الذات وتعريتها لبعض مكنونات نفسها، ما يحدو بالكثيرات منهن أن يحذين حذوها في هذا المسار، إثراءً لحركة الفكر وتدفق الكلمة، وهذا أمرٌ محمود ثقافياً وتجب تحيتهن عليه.
وهكذا فإن كل من ترى في نفسها ما كان لمي من الأدب والموهبة والجمال والشباب، تبدأ في اعتبار نفسها كراهبة فيستال مثل مي زيادة. وبما أن حلاوة مي لا تكتمل إلا بنار جبران، فإنها تجد في البحث عن جبرانها حتى تكمل به الصورة السريالية التي تريد أن تتقدم إلى جمهورها بها. سليلة أدبية وفكرية للراحلة مي زيادة، ووريثة شرعية لها. أما عندما يعز جبران، فإنها تلبس قناعه لأي رجل أو لكل رجل، لتنهال جلداً على ظهور الرجال جميعاً بدون تمييز، انتقاماً لمي من جبران، وعقاباً لجبرانها الذي لم ربما تجد، ولعنة منها على فيستا الخاص بها.
لا أدري سر ولع بعض الأديبات في استعراض مفاتنهن الثقافية على الملأ، في محاولة إغواء مكشوفة واستفزازات مستميتة لجر الشكل مع جنس بأكمله بسبب أو بدون سبب. ربما كان مفهوما أن يلعن جاهل جنس التساء، أو أن تحقد أنثى أمية على جنس الرجال، أما أن تنبري من يفترض أنها مثقفة أو شاعرة لعقد محاكمات لا طائل من ورائها لجنس لا يكتمل حلم إحداهن إلا بأحد منتسبيه، فهذا هو الغير مفهوم.
الحقيقة أني لا أحب التخاطب بمثل هذه اللغة، ولكن الأمر فاق الحد المعقول. فما إن تتصفح كتاباً أو مطبوعة، إلا لتجد وجه حسناء تشهر أصابع الاتهام في وجهك. فهذه التي تحملك وزر ثقافة المجتمع الذكورية، وتلك التي تتساءل عن جدوى وجود الرجال، وأخرى تذكرك بأمومتها وبأنها سبب وجودك في الحياة إلى ما هنالك من طروحات وأفكار لا طائل من ورائها، وقضايا ليس لها من قضية سوى أنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
صحيح أن حظ مي زيادة العاثر قد أوقعها في طريق جبران خليل، ولكن من يدري فلربما كانت هذه رحمة الله بها. من يضمن لها وهي من هي رقة ونبوغاً ووفاء، لو أنها تزوجت أن لا يكون زوجها سي السيد الكريه، الذي كان العالم العربي آنذاك يعج به، وما يزال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??