الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وسقطت الأقنعة

محمد البوزيدي

2006 / 10 / 11
الادب والفن


ها أنا أقف على حقيقة طالما تجاهلتها من قبل،بعد أن سمعت أن صديقي تنكر لماضيه ولبلدته الصغيرة التي ترعرع فيها، فالحقيقة مثل المرآة يبدو فيها كل شيء واضحا مثل الزجاج الشفاف.
التقيته صدفة في الشارع بعد غياب عشر سنوات,فدعاني بحرارة إلى مكتبه الذي كان متوجها إليه في مقر عمله في البلدية .
وحين بدأنا الحديث لم نتطرق للحاضر بل عرجنا على الماضي وذكرياته الجميلة حيث كنا صغارا نلعب في الأزقة الضيقة ،نجمع بقايا الأثواب البالية و نضمها لصنع كرة تقليدية نتقاذفها طوال النهار إلى أن عطف علينا أحد السياح الذي ضحك طويلا من الاختراع العجيب لما صادفه فجأة في زيارته لقريتنا . أعطانا خمسة دراهم لشراء كرة جديدة.حينها جلسنا للمناقشة حول الدرهم المتبقي بعد شراء الكرة بأربعة دراهم.فكانت فكرة قسمته قسمة ضيزى وتوزيع المتبقي منه إلى سنتيمات لشراء حلوى للحبيبة المأمولة .و ببراءة الصغار كانت صديقتي تتناولها ،و أحرم منها بعد أن أوهمها أنني تناولت نصيبي في المنزل.بينما كانت صديقة صديقي تشترط عليه حلوى أخرى ثمنها درهم واحد وكان يعجز عن توفير الدرهم فتبتعد عنه ......
كنا نسترجع التاريخ للحديث عن قساوة ظروف العيش التي اشتركنا فيها ،فأبوانا كانا يسافران سنة كاملة إلى البيضاء لجمع ثمن لقمة خبز مفقود بقريتنا ، ويسامح في حقوقه الخاصة ليوفر ثمن التنقل ويبعث به إلينا لنتمتع على حساب حرمانه الشخصي المتعدد الأوجه. لكن ماباليد حيلة كما أجاب حين سألناه يوما ما بشغب طفولي برئ عن دواعي غيابه الطويل......
هي إذن طفولتنا واحدة ،قضيناها في تلك الفضاءات القاحلة التي أضافت لها الطبيعة فجائع عدة أهمها الجفاف والرياح ،أما جرائم البشر في حقها فحدث ولا حرج ، فسرقة الميزانيات المرصودة للتنمية كانت سلوكا عاديا لمن تعاقب على قيادة المنطقة أو رئاسة جماعتها التي تتشكل من أيدي المكتوون بالنار المتعددة الألسن، إنهم الناخبون الفقراء...الذين يحددون بتصويتهم من سيتفنن في إذلالهم وسرقة حقوقهم المشروعة في حياة كريمة....
وحين كنا قد تقدمنا قليلا في العمر، أقسمنا على رد الاعتبار للبلدة المحاصرة التي شربنا من مائها ورعتنا أرضها ،فقررنا العناية بالجيل الصاعد وتوعيته حتى لا يتكرر ماحدث منذ بزوغ الإستقلال .
كنا نسترد اللحظات الجميلة التي تعبر عن وعي استثنائي في القرية ،كان الجميع يخاف علينا من بطش القائد الذي أقسمنا على سبه إذا زار القرية مرة أخرى ،كنا قد ودعنا الخوف بعد تجارب سابقة في تأطير المظاهرات الطلابية بالمدينة الجامعية التي كنا ندرس فيها .
كنا نحدث السكان عن ضرورة الاحتجاج ضد الظلم و فضح الوضع ولو في الجريدة التي لاتصل إلى هناك، فلعل وعسى قد يخاف المسؤولون من أسيادهم في العاصمة فيبادروا إلى شيء تافه لذر الرماد في العيون وتمويه لجنة تحقيق قد تحل بين الفينة والأخرى ....
وحين كان يتناهى الخبر الى القائد ، كان يستدعي شيخ القرية فيهدده بإقالته من المنصب وسحب امتياز بيع الدقيق في حالة ما إذا تجرأ أحد على الكلام...يطمئنه الشيخ الشبح الذي يقضي مصالحه على حساب البؤساء أن الأمر تحت السيطرة .ولا داعي للخوف ،فشهر العطلة سيمر وسنرجع إلى معاقلنا في الجامعة حينها تهدئ القرية من شغبنا المعتاد كل صيف .
وحين يلح القائد للتأكد من الأمر يجيبه الشيخ : إننا في القرية لا نعطي قيمة لكلام العازب ،فالمواقف وردود الأفعال يصنعها الكبار وأصحاب العمائم و يمثلون 96 في المائة من الساكنة ،كن مطمئنا ياسيدي.
وحين كنا نواصل استرجاع فضاءاتنا التاريخية الخاصة وأمكنة مسامراتنا الليلية قرب النهر ،يسمع طرق من الباب ، يدخل الكاتب الخاص لصديقي يستأذنه :
+نعم اس أناس من بلادك يطلبون الدخول عليك .
+خذ أسماؤهم وقل لهم أن ينتظروا.
نواصل لذة الحديث، يزودنا الكاتب الخاص بكأس شاي منعنع في كؤوس أشاهدها لأول مرة ،لم أعتد الشرب فيها، يعطي لصديقي الأسماء الكاملة للمنتظرين، يتضجر منهم ويضطرب قائلا:
+هؤلاء لا يتقنون سوى التسول ،مرارا طلبت منهم الإعتماد على النفس لكن كل ثلاثة أشهر يأتون إلى هنا ......
يمزق الورقة التي تحتوي على أسمائهم ،يرن الهاتف ،كان القائد على الخط ..تنتهي المكالمة بعبارات غامضة خشية إفشاء سر أمامي توحي أن وجودي هنا غير مرغوب فيه هذه اللحظة .
+نعم اس أنا في اجتماع سأتصل بك لا حقا ........وانتهت المكالمة
مرت ساعة بعد ذلك ،يراودني إحساس أن صاحبنا يريد الابتعاد عن الحكايات التي سردتها دون ملل ،يحاول التخلص من ماضيه كتخلص أم عازبة من ولد طبيعي في ليلة باردة فهل هو التنكر للماضي أم ماذا.....؟هل يشكل لديه كابوسا...؟؟
في لحظة يسألني بدهشة:أريد الانصراف، هل هناك غرض لقضائه ؟
استغربت للسؤال فأجبت على الفور : زيارتك ورؤيتك غرض في حد ذاته .
ابتسم واعتذر بأن نواصل الحديث في الغذاء ، سيتصل بي بعد ساعة ليحملني بالسيارة أينما وجدت في المدينة.
حين وقف قلت له :
+ وأبناء البلد الذين ينتظرونك ؟
+معك حق ، سأرجع بسرعة وأقضي أغراضهم ،تفضل أنا سأنصرف من الباب الخلفي وداعا .
حين حاولت مغادرة المكتب المؤثث بأناقة ،اختلط علي الباب ،فأشياء انتبهت لها الآن وكأنها وضعت للتو ،صورة لزوجته كما قدمها لي في زي أوروبي وابنه الذي سماه عارف ، وأربعة هواتف كان يرن أحدها من قبل دون أن يجيب ، وبعض ربطات العنق الأنيقة وصورة خلفية لجنان السبيل بفاس ،بحثت عن صورة للبلاد التي نشأ فيها صديقي لكن لم أجدها ....
حين خرجت آملت أن أجد أبناء البلد الذين تحدثوا عنهم ،وما كاد الكاتب الخاص يدخل بنداء من صديقي لمكتبه حتى كان المساكين المنتظرون يتهافتون علي .....
+الله يجازيك بخير اطلب لينا السي مصطفى
+ ياك لاباس اش خصكم ، عندكم شي مشكل ؟
+ احنا عمال البلدية وقف لينا أجرتنا سبعة أشهر
+ سبعة شهور
+ نعم سبع شهور واحنا مزوجين وأصحاب وليدات
+ وعلاش
صمتوا فجأة ،لكن أحدهم امتلك جرأة استثنائية حيت همس قائلا :لقد توسط لنا القائد من أجل توظيفنا ،لكن مقابل أن ندفع له الدفعة الأولى من أجرتنا لسنة كاملة ،وحين أخذنا الأجرة التي طالما انتظرناها كانت الديون قد أرهقتنا خاصة الكراء ،وبما إننا موظفون هنا بالبلدية فقد أمره القايد بتعليق أجرتنا حتى إشعار آخر للضغط علينا والإيفاء باتاوات القائد المعلقة....
+ومصطفى دارها معاكم ، عجيب
أضاف الآخر :
+ واحنا زعما أولاد بلادو
+اش من بلاصة اش من دوار فالبلاد ؟
+ من فاس هو من صفرو واحنا من المنزل
ازداد اندهاشي فالرجل ابن تارودانت ،وأعرفه جيدا وأعرف أباه وأمه وإخوته وكنت صديقا له في الطفولة فكيف تحول في الرباط إلى ابن للشمال .
جلست كي لا أصاب من الغثيان ،وحين خرج كاتبه الخاص صمت الجميع، سألته إن كان مازال هناك، قال أنه خرج وسيعود، طلبت كوب ماء بارد لابتلاع ريق رفض الانسياب وسط حنجرة جفت بفعل الصدمة.
حين استعدت كافة وعيي ،وعدتهم بالتدخل في الأمر ،تفرق الآخرون من حولي ،كنت أدرك أنه بمجرد دخول الكاتب الخاص فقد انتهى الحديث المباح .
تهت في البلدية من كثرة السراديب ، إلى أن سألت أحدهم عن الباب الرئيسي ،دلني عليه بعدما قلت له أنني زرت الكاتب العام ،حينها اعتنى بي وخشية التيهان أعطاني ورقة عليها رقم هاتفه الخاص لكن باسم آخر هو مصطفى بنونة.
عدت لمذكرتي للتأكد من رقم الهاتف :الرقم مضبوط لكن أذكر أن الرجل اسمه مصطفى الغليمي فهل أصبح في الرباط مصطفى بنونة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
في الخارج جلست في باحة استراحة ،لتأمل الزمن الغادر ،وأسترد الفلاش باك مما رأيت ،فصديقي غير اسمه وتجرد من هوية كان يفتخر بها ،وأصبح مصاصا للدماء ،وخادما طيعا للقائد رغم أنه ليس رئيسه الإداري،غدر بابنة خاله الفقير ،كانت جميلة و هام بها ،وكان يطاردها يوميا وأصبح في زمن ما حبيبها المفضل ،رفضت الأسلوب في البداية لكن تدخلات أمها أقنعتها بعد ذلك بالاستجابة لرغباته بعد أن وضحت لها أن حب الطفولة يرسخ وينشئ حب الشباب ،لم تشعر المسكينة حتى افتضت بكارتها ،تداول مجلس العائلة الأمر فحسمت أم مصطفى الأمر بالإلتزام بخطبتها بعد سنتين...كانت مدة كافية ليفر صديقي بجلده للبحث عن آفاق أخرى.....
والسي مصطفى كان كما أذكر جريئا ،ثوريا أقسم على الثأر للبسطاء ضد الظلم والقمع ،فكيف به يقطع أرزاق الناس ويخرج من الباب الخلفي كمجرم آخر الليل ،يترك المواطنون في انتظاره للذهاب عند شخص يتقلد منصبا كان سببا في شقاء بلدته الجميلة في الجنوب.
كنت أحرك عيناي جيدا لأتأكد الحلم من الحقيقة، لكنه النهار وليس الليل وأنا في كامل قواي العقلية .
فجأة رن الهاتف كان صديقي في الخط الآخر
+ فين انتا دابا تجي السيارة تديك
تظاهرت بعدم معرفته قائلا :
+ شكون لي معايا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
+ مصطفى صديقك
استجمعت قواي وجرأتي لأرد عليه قائلا
+ مصطفى الغليمي أو مصطفى بنونة
كانت الرسالة واضحة جدا ،ساد صمت عميق قبل أن أقطع الخط وأنهي المكالمة
بكيت قليلا على صداقة مفقودة بفعل صاحبها، وغادرت المكان قائلا:اللهم خلينا ف صباغتنا........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل


.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة




.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ