الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )

علي فضيل العربي

2023 / 1 / 2
الادب والفن


قال صديقي المعلّم ( ج ) : ما أجمل الريف لولا الأميّة . الريف مدرسة بلا أقسام و لا أسوار و لا معلّمين و لا كتب . في أحضانه يتلقّى المرء ، منذ نعومة أظافره ، دروس الشجاعة و الحزم و القوّة و الاندفاع .. فيه يخشوشن جلد المرء و ظفره . يتعلم ركوب الحمير و البغال و الأحصنة و الأشجار و قمم الجبال ، كما يعوّدون أنفسهم على الترجّل بين الفجاج و الجبال و الحقول ، فتنمو عضلاتهم و تشتدّ أزنادهم ، و تسلم عقولهم و قلوبهم من أدواء المدينة ، الشائعة في عصرنا التكنولوجي ، كالجنون و القلق و الاكتئاب والعقوق والطلاق و الانتحار و هلّم جرا .. لهذا يخشى المحتل الأجنبي من أهل الريف ، لأنّهم لا يهابون الموت ، و لا يعبأون به ، و لا يقبلون الضيم ، و لا يتحّملون العبوديّة ، فهم أناس ولدوا في فضاء رحب ، و ترعرعوا و شبّوا و عاشوا في بيئة لا تقيّدها قيود المكان .. كما هو شأن أهل الحضر .. يأكلون ممّا تزرع أيديهم ، و تحرث حيواناتهم . حليبهم و أجبانهم من ضروع أبقارهم و ماعزهم و غنمهم ، و فراشهم و غطاؤه و ( كشاشيبهم ) و ( حنابلهم ) و ( زرابهم ) ممّا يستخلصونه من صوف حيواناتهم ، و ممّا تنسجه و تحيكه أنامل نسائهم ، و بيوتهم من طين أرضهم و خشبها و قصبها و ( ديسها ) .. لا كما هو حال أهل المدينة ، فأغلب ما يأكلونه و يلبسونه و يستهلكونه ، اصطناعيّ ، و أكثره قادم من وراء البحر ...
و أردف صديقي المعلّم ( ج ) ، يروي لي أحداث يومه الأول عند بلوغه المدرسة في الدوار ، قائلا :
ركنت دراجتي الهوائيّة عند الحارس .. شعرت براحة نفسيّة ، و أنا ادلف إلى المدرسة .. زال عنّي تعب الطريق ، و انقشعت عن ذهني هواجس التفكير ممّا كنت أخشاه من القادم المجهول .. كان ذلك الحارس رجلا لطيفا ، بشوشا . استقبلني برحابة صدر . أحسست أنّه ابتهج لقدومي أيّما ابتهاج ، بل شعرت أنّه يستكثر عليّ السير ، و كان يودّ حملي بين ذراعيه ، كما يفعل أهل العريس في الريف ، فهم يكلّفون رجلا من المحارم ( و غالبا ما يكون خالها أو عمّها ) لحمل العروس - و هي حافيّة القدمين المخضبتين بالحنّاء - من بيت أبيها إلى ظهر البغلة أو الفرس ، ثم يحملونها ، عند بلوغها بيت زوجها و شيخها ( والد زوجها ) و عجوزتها ( والدة زوجها ) ، من على ظهر البغلة أو الفرس إلى كوخ الزوجيّة ، و لا يدعونها تترجّل حافيّة القدمين ، تكريما لها و إعزازا لمقامها ..
كان ذلك أول يوم شعرت فيه أنّني أصبحت أنتمي إلى ذاك الدوار ( ضيعة ريفيّة ) ، بغير إرادتي . فلو المدرسة ما كنت أكتشف وجوده - أصلا - على وجه الأرض . و لكن ربّ ضارة نافعة ، و ربّ صدفة خير من الف ميعاد . و زمام الحياة – نحن البشر - ليس دائما في أيدينا ، و عسى أن نكره شيئا و هو خير لنا ، أو نحبّه و هو شرّ لنا .
رحّب بي مدير المدرسة ، ، ترحيب المضيف الكريم للضيف ، و قد أشرق محيّاه بشاشة و سرورا ، و علمت - فيما بعد – أنّه معلّم قديم ، قد أشرف على التقاعد ، كُلّف بإدارة المدرسة ، و تدريس التلاميذ اللغة الفرنسيّة .
بادرني قائلا :
- كنت في انتظارك .. و الله لقد أسعدني قدومك . المدرسة في حاجة إلى معلّم .. كلّ سنة يأتي معلّم ، ثم يذهب في منتصف السنة الدراسيّة أو في نهايتها دون عودة .. أتمنى أن يطول مكوثك معنا أطول فترة ممكنة .. كلّ المعلّمين يفضّلون التدريس في المدن أو القرى ، و لكنّهم يرفضون التدريس في الدواوير ، كدوارنا هذا ..
و وقعت كلماته تلك على قلبي موقع البلسم على الجرح .. تراءى لي صدق الرجل المدير و وطنيّته ماثلين في مقلتيه ، لأول وهلة . و لم يخطيء فيه حدسي ، فقد كان نعم الصديق الوفيّ و الأخ السخيّ و الأب الناصح خلال السنوات الدراسيّة التي قضيناها معا في مدرسة الدوار ..
قلت له ، و قد انحلّت عقدة من لساني :
- اعتبرني من اليوم فصاعدا ، واحدا منكم و من أهل الدوار .. كلّما كانت الظلمة حالكة ، كلّما احتاجت إلى نور أكثر .. أنا هنا ، لست معلما من أجل تقاضي أجر الدنيا ، بل أنا رسول علم ، أبغي من وراء رسالتي التعليميّة أجر الآخرة .. ما أحوج هذا الدوار إلى نور العقول و شمس القلوب ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل