الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان فتى من كوكب نيبيرو

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 1 / 3
الادب والفن


رواية للفتيان










فتى من كوكب نيبيرو







طلال حسن




" 1 "
ـــــــــــــــــــ
عند الصباح ، أشرقت الشمس .
وخرجت مبللة من أعماق الهور ، مليئة بالحياة ، رغم أن مياهه كانت شحيحة ، عن مياهه في سني عمره الأولى ، الموغلة في القدم .
وعندها حلقت الطيور المختلفة من أعشاشها ، وراح البط البري بأنواعه المختلفة ، يسبح في المياه الضحلة ، بحثاً عما يأكله .
وبدأت أولى الجواميس ، التي أطلقت من حظائرها ، تنحدر نحو مياه الهور ، رغم شحته ، وتحاول أن تغطس فيه حتى الأعناق .
ومن بيوت القرية الصغيرة ، المصنوعة في معظمها من القصب ، والتي بنيت متباعدة على جزر صغيرة اصطناعية ، خرج رجال ونساء ، وراحوا يسعون ، كلّ بطريقته ، طلباً للرزق .
ومن أحد البيوت ، القريب من حافة الهور ، ارتفع صوت امرأة ، تصيح : حسنة .
وجاءه ، على ما يبدو ، صوت حسنة محتجة : حسنة .. حسنة .. نادِ علي .
وارتفع صوت المرأة ثانية : علي وابن عمكِ حيدر ، ذهبا يصطادان السمك .
وصمتت لحظة ، ثم أضافت : خذي الأغنام إلى المرعى ، يا بنيتي .
وصاحت حسن غاضبة : فليأخذ الله هذه الأغنام ، ويخلصني منها .
وجاء صوت المرأة ، موشى بالضحك ، وهي تقول : وعندئذ لن تشربي قطرة حليب واحدة ، أو تأكلي شيئاً من اللبن الخاثر اللذيذ .
ومن باب زريبة قريبة من البيت ، خرجت حسنة ، وهي تهشّ على نعجتين وخروف وحملين ، وهي تصيح : هيا ، اخرجوا ، الحاجة تهتم بإطعامكم أكثر مما تهتم بإطعامي أنا ابنتها .
وخرجت الأم الحاجة ، ووقفت بباب البيت ، وقالت لحسنة : عودي بعد الظهر ، لا تتأخري .
ودمدمت حسن متذمرة : لو خلقني الله نعجة ، نعجة ثولاء لكان أفضل لي .
ويبدو أن الأم قد سمعتها ، فضحكت قائلة : على الأقل كنا استفدنا منك بعض الحليب .
وبعد منتصف النهار ، عادت حسنة بأغنامها ، ووضعتها في الزريبة ، وأغلقت عليها الباب ، ومضت متعبة إلى البيت .
وما إن رأتها أمها الحاجة ، حتى قالت لها : عدت مبكرة اليوم ، يا حسنة .
فقالت حسن باقتضاب : شبعت الأغنام .
وتساءلت الأم : وكيف عرفتِ ؟
فردت حسنة مغتاظة : هي أخرتني .
وابتسمت الأم الحاجة ، وقالت : مهما يكن ، احلبي النعجتين قبل المساء ، لنعد اللبن .
وانتظرت الأم أن تردّ حسنة ، لكن كالعادة ، ولأن الكلام لم يعجبها ، فلم ولن تردّ عليه .
وعاد علي وحيدر ، عند العصر ، من الهور ، وكلّ منهما يحمل سمكتين متوسطتي الحجم ، ودخل علي إلى البيت ، ومضى حيدر إلى بيتهم القريب .
وطوال ساعات النهار ، كان هناك فتى غريب ، أبيض البشرة ، أصفر الشعر ، أزرق العينين ، يقف متكئاً إلى شجرة نخلة تنتصب واقفة ، أماما بيت حسنة ، يتطلع إلى المارة ، الذاهبين والآيبين ، لكن لسبب ما ، لم ينتبه إليه أحد من سكان تلك القرية .

" 2 "
ــــــــــــــــــــ
عند اقتراب المساء ، والشمس المتعبة من رحلة النهار ، تلامس مياه الهور ، تناهى إلى حسنة ، وهي تحلب إحدى النعجتين ، ما يشبه الطرق على باب الزريبة ، فرفعت رأسها المكلل بشعر أسود كثيف ، وصاحت دون أن تلتفت : من ؟
وبدل أن يأتيها ردّ الطارق ، أتاها الطرق ثانية ، وهذه المرة كان أكثر وضوحاً ، وفكرت حسنة .. أهو مزاح من إخيها علي ، أم من ابن عمها حيدر ، أم .. وصاحت ثانية : من بالباب ؟
ومرة أخرى أتاها الردّ بالطرق على الباب ، فنهضت مبتسمة ، لابدّ أنه ابن عمها حيدر ، الذي يكبرها بثلاث سنوات ، واتجهت نحو الباب ، وهي تمسح يديها بثوبها الغامق ، وما إن فتحت الباب ، حتى وقفت مذهولة ، وهي تتمتم : من ! من أنت ؟
لم يكن الطارق أخاها علي ، أو ابن عمها حيدر ، وإنما .. وحدقت فيه ، إنه فتى في عمر أخيها علي تقريباً ، لا بل ربما بعمر إبن عمها حيدر ، لكنه لا يشبه أيّ منهما ، بل لا يشبه أحداً ، في هذا الطرف من الهور .
وابتسم الفتى الغريب ، وقال بصوت غير مألوف : أنا من ترين ، يا حسنة .
وحدقت حسنة فيه مذهولة ، وقالت :أنا أرى شاباً غريباً ، لا يبدو أنك من هنا ، ولا من أي مكان أعرفه ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أنت تعرف اسمي ..
وابتسم الفتى ثانية ، ومال عليها ، وقال : أعرفه ، كما أعرفكِ جيداً .

وتحيرت حسنة ماذا تقول ، أو ماذا تفعل ، أو كيف تتصرف معه ، فتلفتت حولها حائرة ، ثم قالت : حسناً ، أخبرني ، ماذا تريد ؟
فردّ الفتى قائلاً : جرعة ماء .
وأمسكت حسنة بظلفة الباب ، وهمت بغلقه ، وهي تقول : الهور أمامك ، اذهب واشر الماء منه .
وأقبلت أمها من البيت ، وهي تقول : لا ترفعي صوتك ، البنت لا تتحدث هكذا .
وتوقفت الأم على مقربة منها ، وتلفتت حولها حائرة ، ثم قالت : سمعتك تتحدثين ، وترفعين صوتك ، وأنا لا أرى أحداً هنا .
والتفتت حسن إلى أمها ، وهي تشير بيدها ، وقالت : إنني أتحدث مع هذا ..
وقاطعتها أمها مذهولة : ماذا تقولين ؟ إنني لا أرى أحداً معكِ معكٍ هنا ، يا حسنة .
وصاحت حسنة منفعلة : لستُ مجنونة ، انظري ..
والتفتت مشيرة إلى الفتى الغريب ، لكنها لم تجد أي أثر له ، فنظرت الأم إليها ، وقالت : اذهبي إلى الداخل ، وارتاحي قليلاً ، أنا سأحلب النعجتين .
وتلفتت حسنة مذهولة حائرة ، وقالت كأنما تحدث نفسها : هنا ، كان معي ، فتى أشقر غريب ..
وربتت أمها على كتفها بحنان ، وقالت : لا بأس ، يا عزيزتي ، اذهبي الأن ، وارتاحي .
وبدل أن تذهب حسنة إلى الداخل ، كما أرادت أمها ، ، وترتاح بعض الوقت ، عادت إلى النعجة ، وراحت تحلبها بعنف ، وهي تدمدم غاضبة .

" 3 "
ـــــــــــــــــــ
من مكان منعزل ، بعيد عن الأنظار ، مياهه صافية ورقراقة ، قطفت حسنة ما يمكنها حمله من القصب ، وسارت به نحو البيت .
ومرّ في ذهنها ، وهي تسير ، أخوها علي ، وابن عمها حيدر .. آه ، وأمها الحاجة ، و .. وتوقف ذهنها عند الفتى الغريب الأشقر ، الذي طرق عليها باب الزريبة ، وسبب لها حرجاً شديداً .
وفكرت حسنة ، مرة أخرى ، متسائلة عن حقيقة ما جرى لها ، لعله كما قالت أمها ، مجرد وهم ، أو وسوسة شيطان ، أو ..
وتوقفت حسنة مذهولة ، وقد اتسعت عيناها السوداوان ، وكادت حزمة القصب تسقط عن رأسها ، فقد رأت الفتى الغريب نفسه ، يقف قرب نخلة في طرف الطريق ، وسمعته يقول لها بصوته غير المألوف : صباح الخير والجمال ، أيتها السومرية .
وتمتمت حسنة مذهولة : أنت !
وتقدم الفتى الغريب خطوات منها ، وقال مبتسماً : رأيتكك في الجوار ، في هذا اليوم الدافىء الجميل ، فأردت أن أتحدث إليك .
واتسعت عينا حسنة حرجاً وغضباً ، ثم استدارت ، ونظرت إلى المكان الذي جاءت منه ، وقالت : أتعني أنك رأيتني هناك ؟ أيها ال ..، كنت أستحم ..
وضحك الفتى الغريب ، وقال : اطمئني ، إنني مثل جدي الأول ، أحترم عاداتكم وتقاليدكم الخاصة .
وشدت حسنة حزمة القصب على رأسها ، وهمت أن تستأنف سيرها ، فاقترب الفتى الغريب منها ، وهمس لها بصوته غير المألوف : حسنة ..
وزجرته حسنة بنظرة محذرة ، وقالت : ابتعد عني .
لكن الفتى الغريب لم يبتعد ، وإنما قال : لم تسأليني ، أين كنتُ في اليوميين الماضيين .
وقاطعته حسنة قائلة : لا يهمني أين كنت .
وتابع الفتى الغريب قائلاً بصوته غير المألوف : كنت أطوف في أرجاء سومر القديمة ، فزرت أور وأوروك ونيبور وأريدو وايسن ولارسا و..
وقاطعته حسنة ثانية : قلت لك ، هذا لا يهمني ، وأنا في الأساس لا أعرف ، ولا أريد أن أعرف ، عن هذه المدن أي شضيء .
ولاذ الفتى الغريب برهة ، وهو يحدق فيها ، ثم مال عليها ، وتساءل قائلاً : أين مشحوفك ؟
وتراجعت حسنة خطوات ، محدقت فيه مندهشة ، ثم قالت : عند حافة الهور ، قرب البيت ، لماذا ؟
وابتسم الفتى الغريب ، وقال : أريد أن تأخذيني في جولة ، في هذا الطرف من الهور .
وشهقت حسنة مستنكرة ، وقالت : لابدّ أنك مجنون ..
وهنا صمتت خائفة ، وابتعدت عنه ، وهي تقول : ابتعد ، أخي علي قادم .
والتفت الفتى الغريب ، ونظر إلى عليّ ، الذي كان في عمره تقريباً ، وقال : لا تخافي ، إنه لا يراني .
وحدقت حسنة فيه مندهشة ، وقالت : ماذا !
فردّ الفتى الغريب قائلاً : اطمئني ، يا حسنة ، أنتِ وحدكِ تريني الآن .
وهمت حسنة أن تسير ، وهي تشدّ حزمة القصب على رأسها ، فاقترب علي منها ، وقال بحدة : سمعتك تتكلمين ، لا أدري مع من ..
وردت حسنة بشيء من الانزعاج : أتحدث مع شيطاني ، يا أخي .
وتلفت علي حوله ، لعله يرى من كانت تتحدث معه حسنة فعلاً ، ثم نظر إليها ، وقال : قالت أمي أنك تتحدثين مع نفسك أحياناً ، لكني لم أصدق ذلك .
ودفعت حسنة حزمة القصب إليه ، وقالت : خذ حزمة القصب هذه ، واحملها عني .
وأمسك علي حزمة القصب ، وقال : لست حمارك لأحمل عنك حزمة القصب هذه .
وسارت حسنة مبتسمة ، وقالت : أنت أخي علي .
ولحق علي بها ، وهو يحمل حزمة القصب ، وأشار إلى خنجره ، وقال : انظري إلى هذا الخنجر .
وواصلت حسنة سيرها ، وقالت : رأيته .
وتابع علي قائلاً ، وهو يسير إلى جانبها : أنتِ تعرفين ، نحن نذبح البنت ، إذا..
وضحكت حسنة ، وقالت : علي ، أنا حسنة ، أختك .
واقترب علي منها ، وقال ، وهو يحمل القصب : سأحملك ، وأحمل قصبك أيضاً .
وضحكت حسنة ثانية ، وقالت : هيا ، الحاجة تنتظرنا الآن ، وقد أعدت الغداء .
والتفتت حسنة إلى الوراء ، ورأت الفتى الغريب ، يقف في مكانه قرب النخلة ، وخيل إليها أنه يبتسم لها ، فأشاحت عنه بنظرها ، وقالت : هيا يا علي ، هيا ، لقد تأخرنا ، فلنسرع .

" 3 "
ــــــــــــــــــ
صارت حسنة ، ترى الفتى الغريب ، حيثما ذهبت ، حتى أنها قررت ، بينها وبين نفسها ، أن لا تخرج من البيت ، إلا عند الضرورة .
وفي اليوم التالي ، عند منتصف النهار ، مرّ ابن عمها حيدر ، ووقف بباب البيت ، وسمعته حسنة ، وهي في غرفتها ، يصح بصوت مرتفع : علي .
وعلى الفور ، جاءها صوت علي يجيبه بنفس الصوت المرتفع : حيدر ، ادخل لحظة .
وخرج علي إلى الفناء ، وأطلت حسنة من غرفتها ، وكانت الأم الحاجة تعمل في الفناء ، ودخل حيدر ، وقال لعلي : تعال نذهب ، وتصطد سمكاً .
وخرجت حسنة من الغرفة ، وقالت لأمها : أمي ، لا تصدقيهما ، لن يذهبا لصيد السمك .
ورفعت الأم رأسها ، وقالت : إياكما أن تذهبا إلى الأحراش ، فهناك خنزير خطر .
والتفتت حسنة إلى أمها ، وقالت : بل سيذهبان ، رغم تحذيراتك ، إنهما يبحثان عن مغامرة ، ومثل هذه المغامرة تكلف غالياً .
وضحك حيدر ، وهو يهزّ رأسه ، فقال عليّ : أهذه بنت ، يا حجية .
وضحكت الأم ، وقالت : حسنة ، أسكتي أنتِ .
وأمسك عليّ بيد حيدر ، وقال : هيا .
وقالت حسنة : إنني أخاف عليهما .
فقال علي ضاحكاً : قولي إنك خائفة على حيدر .
وخرج علي وحيدر ، فأسرعت حسنة ،ووقفت بالباب ، وصاحت بها أمها ، وهي تكتم ضحكتها : حسنة ، تعالي ، إنهما رجلان الآن .
وجمدت حسنة ، وراح قلبها يخفق بشدة ، حين رأت الفتى الغريب يقف جانباً قرب الباب ، وتمتمت بصوت مختنق : أنت ؟ أنت مرة أخرى !
وابتسم الفتى الغريب ، وقال : لا تخافي ، يا حسنائي السومرية ، إن أحداً غيركِ لا يراني .
ومدت حسنة يدها غاضبة ، وأطبقت الباب بشدة ، وهي تقول : وأنا أيضاً لا أريد أن أراكّ .
وما إن دخلت ، حتى رأت الفتى الغريب يقف إلى جانبها والابتسامة على وجهه المشرق ، وأمها الحاجة تنظر إليها ، وهي تقف وسط الفناء ، فدمدمت غاضبة ، ومضت مسرعة إلى غرفتها .
وتلفتت الأم حولها ، وتابعت حسنة ، وهي تدخل غرفتها غاضبة ، وقالت متسائلة : ترى مع من كانت تتحدث ؟ إنني لا أرى أحداً ، كم أخشى أن يكون قد تلبسها الجن ، ربما عليّ أن آخذها إلى السيد عباس .
وجلست حسنة على سريرها ، وقد أغلقت الباب والشباك ، وتلفتت حولها ، وقلبها يخفق توجساً ، ثم قالت : هذا الفتى الغريب ، سيصيبني بالجنون .
واتسعت عينا حسنى ، وخفق قلبها بشدة وغضب ، حين سمعت الفتى الغريب يقول بصوته غير المألوف : هذا ما لا أريده ، يا ساحرتي السومرية .
والتفتت إلى مصدر الصوت ، وإذا الفتى الغريب ، يقف في زاوية الغرفة ، فقالت من بين أسنانها : اسمع أيها الفتى الغريب ، لعل أخي علي ، وأمي الحاجة ، وربما ابن عمي حيدر ، وربما آخرون أيضاً ، يظنون أنني مجنونة ، وكلّ هذا بسببك .
واقترب الفتى الغريب منها ، وقال : صدقيني ، يا حسنة ، إنني أكنّ لك كل المحبة والاحترام ، ولا أريد لكِ إلا الخير والسعادة .
وزمت حسنة شفتيها ، وقالت : أي خير هذا ، وأنا أراك حيثما أذهب ، ولا أعرف ما تريد مني .
ولاذ الفتى الغريب بالصمت ، ثم تقدم بهدوء ، وجلس إلى جانبها ، وقال بصوته غير المألوف : اسمعي ، يا حسنة ، قرأت مذكرات جدي الأول ، الذي زار هذا الطرف من العالم ، وكان قد جاء من كوكب نيبيرو ، قبل " 3600 " سنة .
ونظرت حسنة إليه مندهشة ، وقالت : يبدو أنك لا تظن ، أنني عاقلة .
ونهض الفتى الغريب ، وقال : حسنة .
ردت حسنة : نعم .
فقال الفتى الغريب : خذيني بمشحوفك في جولة وسط الهور ، وسأروي لك كلّ شيء .
وقالت حسنة : انتظر حتى أجن .
وهنا جاءها صوت أمها من الفناء : حسنة ..
ونظرت حسنة إلى الفتى الغريب ، وقالت : أنظر ما فعلته .
ونهض الفتى الغريب ، وقد برق عيناه ، وقال : فلأذهب ، لعل حيدر وعلي بحاجة إلي الآن .
وفتحت الأم الباب ، وأطلت برأسها على حسنة ، وتلفتت حولها ، ثم نظرت إلى حسنة ، وقالت : حسنة ، سمعتك تتحدثين بصوت منفعل .
فقالت حسنة : أنتِ واهمة ، يا أمي ، كنت أغني .
وهمهمت الأم ، ثم إنسابت من فتحة الباب ، وهي تقول في نفسها : لابدّ أن آخذها ، في أسرع وقت ، إلى السيد عباس ، فهو سيد ، وجده رسول الله .

" 4 "
ـــــــــــــــــــ
بعد أن اصطادا سمكتين ، متوسطتي الحجم ، من منطقة ماؤها عميق بعض الشيء ، توقف عليّ وحيدر عن الصيد ، وقد انتصف النهار تقريباً .
وسحب عليّ الشبكة من الماء ، وألقاها في طرف المشحوف ، ونظر إلى حيدر ، وقال : يبدو أن السمك مازال قليلاً في الهور .
وألقى حيدر نظرة إلى السمكتين المتوسطتي الحجم ، وقال : لا بأس ، هذا ما سمح لنا به الهور ، اعطانا سمكتين ، واحدة لي ، وواحدة لك .
وابتسم علي ، وقال مازحاً : ستشمت حسنة بنا ، أنا وأنت ، وستقول ، زلمتان ولم تصطادا بعد ساعات ، غير هاتين السمكتين .
وضحك حيدر ، وقال : دعك منها ، لن يخلص أحد من لسانها اللاذع .
ونظر علي إليه ، وقال : حيدر ، لنخرج إلى الحرج ، فيه أرانب كثيرة ، لنصطد أرنبة .
وردّ حيدر قائلاً : لا يا علي ، الحجية أمك حذرتنا من النزول من المشحوف ، والتجول في الحرج .
ودفع علي المشحوف بالمردي نحو الشاطىء ، وهو يقول مازحاً : لا تخف ، يا حيدر ، لن تعرف أمي بالأمر ، إنها في البيت الآن مع حسنة .
وتوقف المشحوف عند الشاطىء ، فنزلا إلى اليابسة ، وقال حيدر : فلآخذ مكواري معي .
وردّ حيدر قائلاً : لا داعي للمكوار ، نحن سنصيد الأرانب ، وليس الأسود .
وابتسم حيدر ، وقال : من يدري ، قد نحتاجه .
وتوغلا في الحرج ، بعيداً عن شاطىء الهور ، يشقان طريقهما وسط الأسل الكثيف والقصب ، لكنهما لم يعثرا على أي أثر للأرانب ، وتوقفا ، وقد ارتفعت الشمس في السماء ، والتفت حيدر إلى عليّ ، وقال : علي ، الأفضل أن نعود إلى المشحوف .
وقبل أن يردّ عليّ بشيء ، اندفع من بين القصب خنزير ضخم ، وانقض هائجاً عليهما ، فصاح حيدر ، وهو يشّ على مكواره : اهرب ، يا علي .
واستدار عليّ ليهرب ، لكنه تعثر ، وتهاوى على الأرض ، وبدل أن يهرب حيدر ، وهو يرى ابن عمه علي منطرحاً فوق الأرض ، وقف متصدياً للخنزير الضخم ، وقد رفع يده بالمكوار .
وكاد الخنزير الضخم يصل إلى حيدر ، وناباه البارزان يتقدمانه كخنجرين قاتلين ، وفجأة .. ومن مكان لا يعرفان موقعه ، وحقيقته ، برز فتى غريب ، أبيض اللون ، شعره أصفر كالذهب ، وعيناه زرقاوان ، وفي يده ما يشبه المسدس ، انطلق منه شعاع غريب نحو الخنزير الضخم ، صعقه بقوة شديدة ، وألقاه على الأرض جثة هامدة ، لا حياة فيها .
وكما ظهر الفتى الغريب ، اختفى دون أن يترك أثراً يدل على وجوده ، ونهض علي مذهولاً ، ونظر إلى حيدر ، وقال بصوت مضطرب : من سيصدقنا ، إذا روينا ما حدث لنا لأحد ، يا حيدر .
فقال حيدر ، ومكواره في يده : المهم ، يا علي ، إننا سالمان الآن .
وألقيا نظرة على الخنزير الضخم ، الذي كان جثة هامدة على الأرض ، وقال عليّ : انظر ، يا حيدر ، ما أضخم هذا الخنزير المتوحش .
وأشاح حيدر بنظره عن الخنزير الضخم ، وقال : هذا القذر ، كاد أن يفتك بنا .
ونظر أحدهما إلى الآخر ، ثم لاذا بالصمت ، وسرعان ما سارا متجهين نحو المشحوف .




" 5 "
ــــــــــــــــــ
دخل عليّ وحيدر إلى البيت ، وكلّ منهما يحمل سمكة متوسطة الحجم ، وما إن رأتهما حسنة ، وكانت تعمل مع أمها في فناء البيت ، حتى ضحكت ، وقالت : أمي ، هلهلي للزلم الخشنة .
وكتمت الأم ضحكتها ، ونظر عليّ إلى حيدر ، وقال : هذا ما قلته لك ، يا حيدر .
ونظر حيدر إلى حسنة ، وقال : هذا بدل أن تقولي لنا ، حمداً لله على السلامة .
وكفت حسنة عن الضحك ، ورفعت الأم رأسها ، وقالت : كم أخشى أن تكونا ، قد تركتما المشحوف ، وتوغلتما في الإحراج .
وحدقت حسنة فيهما ، وقالت : يبدو أن هذا ما فعلاه ، يا أمي ، رغم تحذيركِ لهما .
وقدم عليّ السمكة لحسنة ، وقال لها : أردنا أن نصطاد لكِ أرنباً ، يا حسنة .
وسكت علي ، فأطرق حيدر رأسه ، وقال : توغلنا في الحرج ، بحثاً عن أرنب نصطاده ، فهاجمنا خنزير ضخم متوحش ، وكاد أن ..
ووضعت الأم يدها على صدرها ، وتمتمت : يا ويلي ، هذا ما خشيته .
وهمت حسنة أن تتكلم ، لكنها أطبقت شفتيها ، ولاذت بالصمت محرجة ، إذا ظهر الفتى الغريب إلى جانبها فجأة ، ومال عليها ، وقال : اطمئني ، لن يراني أو يسمعني أحد غيركِ أنتِ ، تكلمي .
ووسط دهشة علي وحيد لاضطرابها ، التفتت حسنة إليهما ، وقالت : ماذا جرى في الحرج ؟ ماذا جرى ؟ تكلما ..
ونظر حيدر إلى علي ، ثم قال : برز من بين القصب خنزير ضخم ، وانقض علينا كالمجنون ..
وقال عليّ ، وكأنه يكمل ما قاله حيدر : أردت أن أهرب ، لكني تعثرت ، وسقطت على الأرض ..
واستأنف حيدر كلامه ، وقال : فوقفت متصدياً للخنزير الضخم ، ورفعت مكواري لأضربه به ، دفاعاً عن نفسي وعن علي ، واقترب الخنزير منا ، وكاد يفتك بنا ، وفجأة .. ظهر فتى غريب ، أشقر ..
والتفتت حسنة إلى الفتى الغريب ، فابتسم لها ، وقال : اسمعي ، اسمعي يا حسنة ما حدث .
والتفتت حسنة إلى عليّ وحيدر ، اللذين كانا ينظران إليها مندهشين ، فقالت لهما بشيء من الحرارة ، لتغطي على اندهاشهما : تكلما ، ماذا حدث بعد ذلك ؟
فردّ حيدر قائلاً : أطلق الفتى ، مما يشبه المسدس ، كان في يده ، إشعاعاً مضيئاً ساطعاً نافذا ، صعق الخنزير الضخم ، وألقاه على الأرض جثة هامدة .
وتمتمت الأم قائلة : حمداً لله .
والتفتت حسنة إلى الفتى الغريب ، وهمست له : أشكرك ، أشكرك جداً أيها الفتى .
ونظر علي وحيدر أحدهما إلى الآخر مندهشين ، لكنهما لاذا بالصمت ، ولم يتفوها كلمة واحدة ، فمدت حسنة يدها ، وأخذت سمكة حيدر ، وقالت : سأنظفهما معاً ، وأقليهما ، تغدَ معنا اليوم ، يا حيدر .
وضحكت الأم ، وقالت : تغدَّ من لحم ثورك ، يا ابني حيدر .

" 6 "
ـــــــــــــــــــ
صعدت حسنة إلى المشحوف ، بعد أن دفعته عن الشاطىء قليلاً ، وأمسكت بالمردي ، وهو العمود الخشبي الطويل ، وراحت تدفعه به ، مرة من اليمين ، ومرة من اليسار .
ووقفت أمها الحاجة ، على مقربة من باب البيت ، وهتفت بها بصوت مرتفع : حسنة ، بنيتي ، لا تتأخري في الهور .
ونظرت حسنة إليها ، وهي تدفع المشحوف بالمردي بقوة ، فيندفع فوق سطح الماء : اطمئني ، يا حاجة ، بعد الظهر سأكون عندك في البيت .
وأقبل على من الداخل ، ونظر بحدة إلى حسنة ، وهي تدفع المشحوف ، وتبتعد به ، وتساءل : هذه المجنونة ، إلى أين ستذهب ؟
واستدارت الأم ، عائدة إلى داخل البيت ، وهي تقول ، دون أن تلتفت إليه : لم تعد حسنة صغيرة ، ستذهب وتجلب لنا بعض القصب .
ولحق عليّ بها إلى داخل البيت ، وقال يعاتبها محتجاً : حاجة ، أنت تدللينها ، إنها بنت ، وليس لها أن تذهب وحدها هكذا إلى أعماق الهور .
والتفتت الأم إلى عليّ ، وقالت تطمئنه : بنيّ ، أختك لا يُخاف عليها ، إنها قوية وشجاعة ، وهي لن تبتعد كثيراً ، وستعود بعد الظهر .
وحدق علي في أمه مازحاً ، وقال : آه منكِ ، يا حاجة ، أنت تحبينها لأنها تشبهكِ .
وتوغلت حسنة بالمشحوف في الهور، بعيداً عن القرية ، ببيوتها القصبية المتباعدة ، وكانت تنظر بين فينة وأخرى إلى مقدمة المشحوف ، وأخيراً قالت بصوت خافت : أأنتَ هنا حقاً ؟
وجاءها رده : نعم .
فقالت حسنة : إنني لا أراك .
وجاء الصوت ثانية : أنا أراكِ .
وقالت حسنة بنبرة تدلل : آه ، اظهر ، دعني أراكَ .
وقال الفتى الغريب ، بصوته غير المألوف ، وهو يظهر جالساً في مقدمة المشحوف : ها أنا ، يا ساحرتي السومرية الجميلة .
ونظرت حسنة إليه مبتسمة ، وقالت ، وهي تدفع المشحوف بالمردي : لقد وعدتك أن أطوف بك في الهور ، وها أنا أفي بوعدي لك .
وقال الفتى الغريب ، وهو يتطلع إليها : أشكرك ، يا حسنة ، هذا يسعدني جداً .
ولاذت حسنة بالصمت لحظة ، ثم قالت : بل الشكر لك ، فقد أنقذت أخي علي ، وابن عمي حيدر ، من موت محقق ، بقتلك ذلك الخنزير المتوحش .
وردّ الفتى الغريب : عفواً ، هذا واجب ، إنهما شابان في مقتبل العمر ، وأنتِ عزيزة عليّ .
وصمت الفتى الغريب ، وراح يتلفت حوله ، مدققاً في كملّ شيء ، وقال : لا أكاد أرى ، ما وصفه جدي الأول ، عندما زار هذه المنطقة ، في نطاق زيارته للأرض قبل " 3600 " سنة .
وابتسمت حسنة ، وقد اتسعت عيناها ذهولاً ، وقالت : 3600 سنة فقط !
وسكتت لحظة ، ثم قالت : مهما يكن ، فهذه الأهوار ، جففت قبل سنوات ، خلال الحرب ، التي جرت في المنطقة ، وتحولت إلى صحراء قاحلة ، وبعد تغير نظام الحكم ، أراد الحكام الجدد ، إعادة الحياة إلى الأهوار ، لكنها لم تعد كما كانت من قبل .
وهزّ الفتى الغريب رأسه ، وقال : تحدث جدي الأول أيضاً ، عن مدن سومر القديمة ، التي اندثرت الآن ، لكن المدن الجديدة ، كأنها لا تنتمي إلى هذا العصر ، فهي مدن رثة ، فقيرة ، متخلفة حتى بالقياس إلى مدن البلدان ، التي تقع حولها .
ونظرت حسنة إليه ، وقالت : مع أننا ، بحسب ما يقال ، من أغنى الدول في العالم .
ولاذ الفتى الغريب بالصمت ، وعيناه الزرقاوان تغوصان في عينيها السوداوين ، فابتسمت حسنة ، وقالت : آه من عينيكَ .
وقال الفتى الغريب : يبدو أن جدي الأول ، كان ينظر بنفس العينين الزرقاوين ، في عيني فتاة سومرية ، من هذا الطرف من الأهوار .
وتساءلت حسنة : من هذا المكان !
فردّ الفتى الغريب قائلا : نعم ، ربما من هذا المكان بالذات ، فتاة سمراء مثلك ، ذات عينين سوداوين جميلتين ، وشعر كأنه الليل .
وتوقفت حسنة عن دفع المشحوف بالمردي ، وقالت بنبرة دلال وتحذير : أيها الفتى ..
وتابع الفتى الغريب قائلاً : يبدو أن تلك الفتاة قد سحرت جدي الأول ، في تلك الفترة السحيقة من التاريخ ، حتى أنه قرر أن لا يعود إلى كوكبه نيبيرو ، لكن قوانين الكوكب ، كانت صارمة بهذا الخصوص ، فجاءوا إليه ، وأعادوه مكرها معهم .
وصمت الفتى الغريب ثانية ، ثم قال : وحين عاد جدي الأول إلى كوكبه ، كوكب نيبيرو ، كرس حياته كلها ، للكتابة بحب وإعجاب عن سومر ، ومدنها الجميلة العامرة ، وشعبها العبقري ، الذي بنى حضارة لا تضاهى ، وكأنه في كلّ ذلك ، كان يكتب عن تلك الفتاة السومرية السمراء الجميلة .
واستدارت حسنة بالمشحوف ، وراحت تدفعه بسرعة ، عائدة إلى البيت ، والفتى الغريب يجلس في مقدمة المشحوف ، وعيناه الزرقاوان ، تغوصان في عينيها السوداوين الجميلتين .





" 7 "
ـــــــــــــــــــ
عند منتصف الليل ، والقمر يطل من الكوة ، فتحت حسنة عينيها ، وكأن أحداً هزها برفق ، ورأت الفتى الغريب ، يطل عليها من الكوة .
ونظرت حسنة إليه محرجة ، وهمت أن تخاطبه بشيء من الغضب ، فأشار لها أن تصمت ، ثم قال لها : اطمئني ، أمكِ لن تراني ، ولن تسمعني ، حتى لو استيقظت ، ونظرت إلى الكوة .
وصمت برهة ، ثم قال : تعالي نجلس قليلاً تحت الشجرة ، ولن يرانا أحد ، لديّ ما أقوله لكِ .
ونهضت حسنة من فراشها ، وتسللت إلى الفناء ، ثم فتحت الباب الخارجي بهدوء ، لئلا تنتبه أمها أو أخوها عليّ ، ومضت تسير نحو الشجرة .
وهناك ، على ضوء القمر ، رأته ينتظرها ، وبدل أن تعنفه ، أو تعاتبه على الأقل ، قالت له : آه منكَ ، الوقت متأخر ، والكل نيام .
واقترب الفتى الغريب منها ، وقال : عفواً ، لقد آن الأوان ، وعليّ أن أصارحك ، يا حسنة .
وزمت شفتيها دلالاً ، وقالت : في ضوء القمر ..
ونظر الفتى الغريب إليها صامتاً ، فقالت حسنة معاتبة : لكن اليوم معظمه قضيناه معاً ، وحيدين في الهور ، وقلت خلاله الكثير الكثير .
وقال الفتى الغريب : نعم ، قلت الكثير ، لكني لم أقل أهمّ ما أردت قوله لكِ .
وتنهدت حسنة ، وقالت : تفضل ، إنني أسمعك .
وتطلع الفتى الغريب إليها ملياً ، وقد غمرها ضوء القمر الشاحب ، وهي تقف إلى جانبه تحت الشجرة ، وقال بصوته غير المألوف : حسنة ..
وابتسمت حسنة ، رغم أن قلبها كان يخفق بشدة ، وقالت : لو أن علي يسمعك الآن..
وتابع الفتى الغريب ، دون أن يلتفت إلى تعليقها : جدي الأول ، لم يبقَ في الأهوار ، ولم يحقق ما كان يصبو إليه ، وظل طول عمره ، يكتب عن تلك السومرية الساحرة ، ولعلها كانت جدتك الأولى ، فما قاله عنها ، يتوافق مع ملامحك ، وكل تصرفاتك .
وبدت حسنة متأثرة بكلامه ، وقالت : ليته بقي هنا ، وحقق ما تمناه بعد لقائه بتلك السومرية الجميلة ، التي تقول أنت ، إنها كانت تشبهني .
وهزّ الفتى الغريب رأسه ، وقال بصوته غير المألوف : كان هذا الأمر مستحيلاً وقتها ، وكم أخشى أن يكون مستحيلاً الآن أيضاً .
ولاذت حسنة بالصمت ، وعيناها السوداوان تجوسان في عينيه الزرقاوين ، فاقترب الفتى الغريب منها ، وقال : حسنة ، هناك حلّ .
وحدقت حسنة فيه صامتة متسائلة ، فقال الفتى الغريب بحماس : تعالي أنتِ معي .
وشهقت حسنة مذهولة : ماذا !
فقال الفتى الغريب بحماس شديد : الحياة في كوكبنا ، حياة متقدمة راقية ، ليس فيها فقر أو خراب أو حروب أو تأخر ، بل فيها كل ما تحلمين به .
وتراجعت حسنة قليلاً ، وهي تقول مرتعش : مهما توفر لي هناك ، فسأفقد هذا الهور حيث ولدت وترعرعت وعشت ، وأفقد معه أخي علي ، وأمي الحاجة ، وابن عمي .. نعم ابن عمي .. حيدر .
ونظر الفتى الغريب إليها ، وتمتم : حسنة ..
وردت حسنة متأثرة ، وبصوت دامع ، قالت : أيها الفتى الغريب .. وداعاً .
ثم استدارت ، ومضت راكضة نحو البيت .





" 8 "
ــــــــــــــــــ
خلال الأيام التالية ، عادت حسنة إلى حياتها اليومية الماضية ، وكأن شيئاً لم يكن ، تستيقظ صباحاً مع شروق الشمس ، وتأخذ النعجتين والخروف والحملين إلى المرعى ، وتعود بهم حوالي العصر .
وعند عودتها ، تساعد أمها الحاجة ، في الغسل والكنس والطبخ ، دون كلام أو تذمر ، فهي تعرف أنها بنت ، وهذا هو عمل البنت ، وفي الليل تأوي إلى فراشها مبكرة ، وسرعان ما تغط في نوم عميق .
ولاحظ عليّ ذلك ، وكذلك أمها الحاجة ، التي فكرت بعد فترة ، أن ابنتها حسنة قد شفيت تماماَ ، وأنها لم تعد تحدث نفسها ، كما في السابق ، وبالتالي ـ ربما ـ لا داعي لأن تأخذها إلى السيد عباس .
وأسرّ عليّ لابن عمه حيدر ، بأن حسنة قد تغيرت ، وأنها لم تعد تحدث نفسها ، صحيح أنها لا تتكلم الآن كثيراً ، أو تمزح مع الجميع ، كما كانت تفعل حتى قبل أزمتها ، إلا أنها الآن أفضل .
وذات يوم ، وحسنة تجلس تحت الشجرة ، عند اقتراب المساء ، جاءها ابن عمها حيدر ، وهو يحمل أرنباً بين يديه ، وقال لها : مرحباً حسنة .
ورفعت حسنة عينيها السوداوين إليه ، وردت قائلة : أهلاً حيدر .
وصمتت لحظة ، وتلفتت حولها ، ثمّ قالت : عجباً ، لا أرى علي معكَ .
وأجاب حيدر ، وهو يطبق بيديه على الأرنب : كنّا معاً قبل قليل ، ودخل هو إلى البيت .
ونظرت حسنة إليه ، فتقدم حيدر منها ، وقدم لها الأرنب ، وقال : حسنة ، اصطدت لكِ هذا الأرنب .
ومدت حسنة يديها ، وأخذت الأرنب من حيدر ، وحدقت فيه ملياً ، ثم قالت : أنا أحب القطط كثيراً ، وهذا الأرنب الرمادي كأنه قطة .
ورفعت حسنة عينيها إلى حيدر ، وقالت : حيدر .
وردّ حيدر متوجساً : نعم .
فقالت حسنة : يبدو أنكما ذهبتما إلى الحرج ثانية .
وردّ حيدر ، وكأنه يبرر عمله : أردت أن آتيك بأرنب ، يا حسنة .
وقالت حسنة ، وهي تحدق فيه : لكن خنزيراً هاجمكا هناك ، وكاد يفتك بكما .
وقال حيدر : أخذت مكواري معي ، وكذلك علي أخذ مكواره الجديد .
وابتسم لها ، ثم قال : حمداً لله ، تقول الحاجة ، أنك الآن أفضل ، أفضل بكثير .
وحدقت حسنة فيه بنظرة غريبة ، وقالت : الإنسان يمرّ أحياناً بحالات ، ربما يتوهم خلالها بأشياء غريبة ، قد تبدو له أحياناً بأنها حقيقية .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أنتما مثلاً ، أنتَ وعليّ ، ربما توهمتما ، تحت تأثير المفاجأة ، حين هاجمكما الخنزير الضخم في الحرج ، بأن فتى غريباً ، تصدى له ، وأرداه بمسدس غريب .
واحتج حيدر بشيء من الحدة ، وقال : كلا ، لم نكن متوهمين ، هذا ما حدث فعلاً .
وكتمت حسنة ابتسامتها ، وقالت : أنا أيضاً كنت أتوهم أشياء ، خلال فترة من الزمن ، وقد تأكد لي فيما بعد أنها .. أنها ربما ليست من الحقيقة في شيء .
ولاذ حيدر بالصمت ، ثم تلفت حوله ، وقال : لقد حلّ الليل ، سأذهب إلى البيت .
ونهضت حسنة ، والأرنب بين يديها ، ومضت ببطء نحو البيت ، وحيدر يسير معها ، وعند الباب توقفا ، ونظرت حسنة إلى حيدر مبتسمة ، وقالت : حيدر ..
ونظر حيدر إليها ، وقال : نعم .
فقالت حسنة ، وهي مازالت تبتسم له : أريد منك غداً ، أن تصطاد سمكة كبيرة ، سأعدها مسكوف ، ونتغدى بها جميعاً عندنا في البيت .
واتسعت ابتسامة حيدر ، وقالت : تتدللين ، يا ابنة عمي ، يا حسنة ، غداً صباحاً تأتيك السمكة الكبيرة .
ومضى حيدر بخطوات فرحة ، وهو يلوح لحسنة ، ويقول : سلامي إلى خالتي الحاجة .

12 / 1 / 2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس