الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )

علي فضيل العربي

2023 / 1 / 4
الادب والفن


قال لي صديقي المعلّم ( ج ) ، و هو يغرف من بحر ذاكرته العامرة بالأحداث ، كأنّها سنابل قمح أدركتها ساعة الحصاد :
- فاجأتني حياة أهل الريف في الدوار . فقد رأيتهم طوال فترة مقامي بينهم كالجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى و السهر . رأيتهم كالعائلة الواحدة ، أكواخهم متناثرة هنا و هناك على الروابي و سفوح الجبال ، لكنّ قلوبهم مجتمعة في كوخ واحد . كان لهم وليّهم الصالح ، سيدي معمر بومكحلة ( بندقيّة ) ، يجمعهم تحت عرف واحد ، في مسائل الزواج . و كانوا يقيمون له في كل خريف من السنة وعدة ( احتفال ) ؛ لمدّة ثلاثة أيّام ، و قيل لي أنّها كانت تدوم أسبوعا كاملا في زمن الأسلاف ، و لكنّها قُلّصت إلى ثلاثة أيام .. و في الوعدة يصنعون الطعام ( الكسكسي ) باللحم و المرق و العسل و الزبيب و الدهان البلدي ( الزبدة ) و العنب اللذيذ ، الذي لا مثيل له في الدواوير المجاورة ، ذي الرائحة الفوّاحة من نوع ( الميسكا ) ، و فيها – أيضا – تجري سباقات الخيل الأصيلة ( الفانتازيا ) ، و يُطلق البارود ، و تزغرد النسوة ، و يخرج الأطفال شقاواتهم للعلن ، و يأكل الزوار كلهم ؛ الفقراء و الميسورون ، الكبار و الصغار ، و حتى كلاب الدوار ..
و أردف صديقي المعلّم ( ج ) ، قائلا :
- أصابت كلمات المدير شغاف قلبي . منحتني ثقة أكبر ، بأنّ رحلتي إلى الدوار ، لن تضيع سدى ، و في مهب الريح و السراب . أحسست أنّ مكاني في الدوار ، كمكان البدر في الليلة الظلماء . وطّنت نفسي على البذل و العطاء قدر المستطاع . لقد أرسلتني الأقدار إلى حيث يجب أن يكون المرء النافع ، كما تزجي الرياح المزن و تنزل الغيث على أرض عطشى . كان الدوار في أشدّ الحاجة إلى معلّم ، يبعث في جوانحه الحياة ، و ينير دروبه التي اكتنفتها الظلمة منذ زمن الاحتلال الفرنسي البغيض ..
و بعد يومي الأول في الدوّار ، تعرّفت على المدرسة ، و على معالم الطريق المؤديّة إليها .. و تنسّمت هواء الريف النقيّ ..
و عندما هممت بالانصراف ، و العودة إلى مدينتي ( س ) ، دعاني حارس المدرسة ، بل أصر على دعوتي إلى كوخه لتناول الغذاء – و قد كانت الساعة قد جاوزت منتصف النهار – لكنّني اعتذرت منه بكل لباقة و لطف ، و وعدته أنّ البّي دعوته في المستقبل .
صادفت في طريقي ، و أنا أغادر المدرسة و ( الدوار ) وجوها ريفيّة لفحها قيظ الصيف و شمس الخريف ، و جوها ناطقة ، تشكو الحرمان ، و أجسادا متعبة ، فاقت ، في العمر ، سنّها البيولوجي ، لقد أنحلها الشقاء و قلّة المؤونة ، و عيونا ضيّقة الجفون و المآقي ، لكّن خلف مقلها تسكن الألفة و حبّ الغريب دون تكلّف .. رأيت على جانبيّ الطريق ، التي سلكتها ذهابا و جيئة ، أطفالا صغارا ، ذكورا و إناثا ، لم يمّر على فطامهم وقت طويل ، بل بدا لي أنّ قسوة حياة الريف فطمتهم قبل الأوان ، رأيتهم سارحين بقطعان صغيرة من الماعز و الأغنام و بعض البقرات المحليّة ، بألوانها الدكناء و بيضاء و الشهباء ..
توقّفت عند رهط من الأطفال الرعاة . رفضوا ، في البداية التحدّث معي ، إلاّ بعد إلحاح ، و تدخّل أحد الشيوخ . فمن عادتهم و طبعهم أن لا يأمنوا للغريب ، و لا تغريهم قطعه من الحلوى أو الشيكولاطة . فقد تربّوا منذ الصبا على الأنفة و القناعة و الحذر من الغرباء و رفض الحديث معهم ... لقد قيل لي ، فيما بعد ، أنّها النفور من الغرباء عن الدوار ، عادة موروثة عن الكبار للصغار ، و وصيّة موشومة فيهم زمن الاحتلال الفرنسي .. فقد كان جنود الاحتلال الفرنسي و مظليّه بتواطؤ من الحركى ( الخونة ) ، عندما يقومون بعمليات التمشيط بحثا عن المجاهدين و المسبّلين ( مقاومون مدنيّون ) ، يغرون الأطفال بالحلوى و الشيكولاطة و الكاتوه و البسكويت ، و يسألونهم الأسئلة التالية :
- من زاركم بالأمس ليلا ؟ من تعشّى عندكم ؟ هل رأيتم الفلاقة ( المجاهدين ) و هم يحملون البنادق ؟ لكنّ الأطفال يجيبون دوما بالنفي . لأنّ الآباء و الأمهات و الأجداد و الجدات ، يقومون ، قبل وصول المجاهدين ، بتنويم الأطفال أو إبعادهم إلى مكان ، كي لا يروا المجاهدين ، حفاظا على أسرار الثورة ، و سلامة الدوار من بطش المحتل و انتقامه ..
ناديت أحد الأطفال الرعاة ، و بادرته قائلا :
- تعال ، يا بني لا تخف .
و اقترب منّي بضع خطوات ، و وقف زملاؤه وراءه ، و كأنّهم في طابور . سبقت نظرات عيونهم لغة ألسنتهم . كانت تحكي شريطا من الحرمان .. ملابس رثّة .. حفاة ، شبه عراة .. سحنهم تروي مأساة أهل الريف بعد عقود سوداء ، مظلمة ، كالحة من قسوة الاحتلال الغاشم و ظلمه . إنّهم امتداد طبيعيّ و فطريّ و بيولوجيّ و نفسيّ للتعاسة الإنسانيّة ، بل كأنّهم قادمون من حفر الموت لا من حدائق الحياة ..
قلت له ، و قلبي يرتجف من هول المنظر :
- ما اسمك ؟
تردّد هنيهة ، و كأنّه بصدد البوح بسرّ خطير :
- إسماعين ( إسماعيل ) .
- اسمك جميل . كم عمرك ؟
- لا أعرف .
- في أيّة سنة تدرس ؟
- لا أدرس . أسرح معزاتنا و معزات جارنا .
ثم ناديت طفلة في عمر الزهور ، لكنّها رفضت الحديث معي ، و ركضت بعيدا عنّي ، و عن رفاقها .
فقال لي أحدهم :
- ماذا تريد منها ؟ بنات الدوار لا يتكلّمن مع الرجال الغرباء . و إذا خالفت العرف ، سيذبحها أهلها من الرقبة .
- كنت أريد أن اسألها ، هل تذهب إلى المدرس أم لا ؟
- كلنّا لا ندرس ، لو دخلنا المدرسة ، فمن يسرح مال ( حيوانات ) أهالينا ؟
و عندها توقّف صديقي ( ج ) ، عن البوح بتفاصيل يومياته الريفيّة برهة من الزمن ، ثم أردف :
كان أولئك الأطفال الرعاة ، المحرمون من المدرسة قسرا لا طوعا . و علمت فيما بعد ، أنّ البنت في الدوار محرّم عليها التعلّم في المدرسة ، و سنّ زواجها لا يتعدّى اثنتا عشرة سنة . و كلّ بنت تعدّت ذلك السنّ ، فقد وضعت قدما في سوق العنوسة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل