الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 47

علي دريوسي

2023 / 1 / 4
الادب والفن


في اليوم الرابع بدا إبراهيم متعباً من المشاوير والنزهات ومشبعاً من كثرة ما رأت عيناه في لندن. سابينه وهنيلوري ذهبتا للتسوّق في شارعي "ريجنيت وأوكسفورد". كان قد رجاهما كي يتركاه وحيداً حرّاً إذ أنّ القدرة على التسوّق ليست من صفاته القوية.

دخل إلى مقهى وجلس، كان يشعر بالضيق وباشتياق كبير لصديقته مانويلا، انتابته رغبة هائلة بالكتابة إليها بدافع حاجته إلى بر أمان، أخرج من حقيبته دفتر مذكراته وأقلاماً وأخذ يكتب لها رسالة طويلة.

**

العزيزة جداً والغالية جداً مانويلا،

أُرسل لك بعد انقطاع طويل راجياً أن تكوني بخير حيث أنت في جامعة "بنسيلفانيا" في "فيلادلفيا"، مدينة الحب الأخوي. أرسل لك وأنا جالس حول طاولة صغيرة في مقهى "هِنري" بالقرب من محطة مترو الأنفاق "غرين بارك" في لندن.

أخيراً وصلت إلى هنا، إلى المدينة الغامضة، طالما وددتُ أن أتعرّف إليها برفقتك، أن أشمّ رائحتها، أنا هنا منذ أيام في رحلة عمل مع بعض الزملاء والزميلات من جامعة آخن، إنها سفرتي الأولى إلى لندن، عَنْقاء السندباد، طوقها ضبابها، متاهة حقيقية بشوارعها الرئيسية والفرعية، بحدائقها وساحاتها، بمحطات قطاراتها الخارجية، بمحطات قطارات الأنفاق الداخلية، بمتاحفها وصالاتها ودور السينما، بمطاعمها ومقاهيها وخمّاراتها، بأبنيتها السكنية والإدارية، بديناميكيتها في الليل والنهار... هي هكذا رغم تعرّضها للحرائق والقنابل والدمار.

يسمونها مدينة الضباب تيمُّناً بطقسها الماطر والغائم، أما أنا أسميها كذلك تيمُّناً بوجوه سكانها الغرباء.

لست صحفياً ولا أديباً مثلك ـ كما تعلمين جيداً ـ كي أمتلك الوقت للكتابة بعمق عما يجول في خاطري، الكتابة ليست مهنتي ووقتي قليل، بالكاد يكفيني لقراءة كتيب بلغة أجنبية، أو كتابة مقال علمي تدور نواته في فلك اِختصاصي أو ربما للخروج في نزهة قصيرة أو لممارسة رياضة الجري التي أحبها.

هذه المدينة الكبيرة جداً مقسّمة إلى عدة مناطق، لعلها تسعة قطاعات، المنطقة رقم واحد تمثل لندن الحقيقية، القلب، حيث مراكز المال والسياسة والثقافة، حيث تدور الأحداث العظيمة وتُتخذ القرارات المؤثرة عالمياً، تحيط بها المنطقة رقم إثنان على هيئة خاتم، ثم تأتي المنطقة الثالثة لتحيط بالثانية وهكذا دواليك. فإذا افترضنا مثلاً أنك تعيشين في القطاع الرابع فهذا يعني أنك تحتاجين إلى قرابة ثلاث أرباع الساعة من محطة المترو هناك إلى محطة المترو حيث الحدث، ولكل دخول تكلفته.

زرت أهم المعالم في المدينة، مشيت على أشهر جسور نهر "التايمز" وأقدمها، جسر "لندن" وجسر "البرج" وجسر "ألبرت" وجسر "ويستمنستر". أجمل ما في لندن حدائقها، زرت أهمها، "هايد بارك" و"كنسينغتون" و"هامبستيت هيت" و"كوين بارك" و"ريجنت بارك"، مشيت فيها طويلاً حتى تعبت أقدامي. تعرّفت على مركزي القوة: "ويستمنستر" المركز السياسي و"سيتي أوف لندن" مركز التمويل المالي العالمي، من هنا تتم السيطرة على العالم.

زرت برج "بيغ بن" ومبنى البرلمان وكنيسة "ويستمنستر"، زرت قصر الملكة "بوكينغهام"، زرت ميدان "ترفلغار" مركز التظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات والخطب والاحتفالات، زرت نصب العمود الحجري "مونومينت" الذي يُذكّر بحريق لندن الكبير.

تعرّفت إلى موعد تناول شاي ما بعد الظهر، إلى مكونات الفطور الإنكليزي، إلى الأطعمة الشعبية، إلى الفرق ما بين الغداء والعشاء.
رأيت أشياء كثيرة وما زلت مدهوشاً بما أرى.

**

خاب أملي حين أمضيتُ بعض الوقت في حديقة "هايد" وأنا أبحث عن زاوية المُتحدّث الحر "سبيكرز كورنر"، إلى أن وجدتها، كانت خاوية من الناس والمناظرات الثقافية، لم أكن متأكداً أني قد وجدتها بل ظننتُ أني ضللت الطريق إليها.

يا لهذا الرجل الإنكليزي غريب الأطوار، شاهدته مرتين في هذا الأسبوع، مرة في الباص الأحمر ومرة هنا، باللباس نفسه، بالحذاء الأسود نفسه، أظنه في التسعين من عمره، ها هو منشغل بحل لغز الكلمات المتقاطعة في جريدة المترو التي اِصطحبها معه، قبعته على رأسه، يجلس على مقعد وقد ركن إلى يمينه حقيبته الجلدية ومظلته السوداء، يرتدي معطفاً غامق اللون يقيه مطر الصيف وقميصاً سماوياً.

أي ألم هذا الذي يدفعه لحل ألغاز الكلمات المتقاطعة في الجرائد الرخيصة وبهذا الاسترخاء الكوكائيني الفظيع!؟

حين توجّهت إليه بالسؤال عن "سبيكرز كورنر" نظر إليّ مدهوشاً وقال:

ـ نعم، ها هي ساحة المتكلمين الأحرار.

ـ لكني لا أجد أحداً، أين هم الناس؟

أجاب باقتضاب:

ـ كان ذلك فيما مضى.

**

ما أجمل أن يقف الإنسان وحيداً في مدينة غريبة على ناصية قناة نهرية وأمامه زورق راس مليء بالكتب "عالم على الماء"، مكتبة عائمة، وعلى ظهر الزورق شاب يجيد العزف على قيثارته وحوله توزّع الناس، شباب وصبايا، رجال ونساء وأطفال، استلقى معظمهم على المرج المقابل وراحوا يتناولون أطعمتهم الخفيفية التي أحضروها معهم ويحتسون خمرهم وماءهم بسلام.

ما أسأم أن يكون المرء وحيداً في مدينة تضج بالحياة والناس، في مدينة لا أصدقاء له فيها، في مدينة لا يفهم ثقافتها ولا يتقن لغتها. ما أبشع أن يجلس الإنسان في حفلةٍ لا يُجيد فيها لا الرقص ولا الغناء، لا الشرب ولا العناق. ما أبشع أن يعزف الواحد للناس ألحاناً ممتعة دون أن يفهموها أو يشعروا بها أو يدفعوا له عربون الاستماع. ما أبشع أن يكتب الواحد للناس كتباً جيدة دون أن تُباع أو تُقرأ، مثله في هذه الحالة مثل من يعزف على ضفة نهر دون أن يحصل على أجره، مثله مثل كتّاب كثر سكنوا ضاحية "هامبستيت" اللندنية وأبدعوا كتباً جيدة وبقيت فوق الرفوف دون أن يبيعوا شيئاً منها.

المنطقة المحيطة ببلدة "هامبستيت" الثقافية ـ حيث المقاهي الأنيقة والمطاعم وصالات العرض الفني والحركة الهادئة ـ موبوءة باليهود والأقليات. اليهود في كل مكان رغم أعدادهم القليلة وفقراء العالم في كل زاوية أيضاً. هناك في "هامبستيت" زرت متحف الطبيب النفسي "سيغموند فرويد"، حيث كانت محطته الأخيرة ومنزله ومنزل ابنته "آنا" سابقاً.

وأنا أستكشف الشوارع والناس شعرت بضغط ملعون في مثانتي، جلست في مقهى "كوستا" لتناول فنجان قهوة، في الحقيقة لم تكن القهوة هدفي، بل حاجتي لاستخدام دورة المياه، القهوة طقس لا ينبغي تناولها في هذا المقهى. البحث عن مكان لقضاء حاجة بيولوجية هو أحد الأمور المزعجة في لندن. البول والبراز من أهم المفرزات التي يستثمرها سكان لندن لجني الثروة، أسعار اِستخدام المراحيض ليست منخفضة أبداً سواء للقيام بعمليات الطرح الخفيفة أم الثقيلة.

**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا