الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )

علي فضيل العربي

2023 / 1 / 5
الادب والفن


و انفتحت لصديقي المعلّم ( ج ) أبواب يوميّاته الريفيّة و نوافذها . لم تنسه سنوات التقاعد تلك المشاهد الريفيّة الموشومة في جدران الذاكرة ، و لمّا يزل طعمها اللذيذ في حلقه . كانت أياما و أسابيع و سنوات ، اكتشف أثناءها الإنسان الريفي بفطرته ، و عذريّة إنسانيته ، بعيدا عن ضوضاء المدينة و صخبها و ضجيج محرّكات مراكبها . كان الريف – كما قال لي صديقي – مرآة للحياة الروحيّة ، النقيّة من شوائب المدنيّة المعاصرة ..
و أردف صديقي المعلّم ( ج ) في سرد بوحه ، قائلا :
ترك منظر أولئك الأطفال ، البراعم ، الرعاة ، السارحون على قارعة الطريق المتربة ، المفضية إلى مدرسة الدوار ، ترك شرخا في جوانحي . كان الأسئلة الذي شغلتني ، و أنا عائد إلى مدينتي ( س ) : لماذا يُحرم أولئك الأطفال من نور العلم و المعرفة ؟ ما ذنبهم إذا لم يجد أهاليهم من يسرح لهم ماعزهم و أغنامهم و أبقارهم ؟ هل قدرهم أن يدّبوا على الأرض دبيب العميان ، الذي فقدوا البصر و البصيرة معا ؟ لماذا لا تلزم السلطة أهاليهم على تسجيلهم في مدرسة الدوار - مادام التعليم مجانيّا - و تعاقب كل من رفض أو تخلّف تعليم أبنائه و بناته ؟
كان أهل الدوار فلاّحين و رعاة و مزارعين ، لكنّهم كانوا فقراء إلى حدّ المتربة و المسكنة . كانوا خدمتهم للأرض ما تزال تقليديّة ، لم تصلهم بعد المكننة . و قطعهم الأرضيّة الصغيرة متناثرة على الروابي و سفوح الجبال المحيطة بهم . في فصل الخريف ، يسمّدونها بروث و زبل حيواناتهم ، قبل حلول موعد الحرث ، ثم يزرعونها بأيديهم ، و يحرثونها بمحاريث خشبيّة يجرّها زوج من البغال أو الثيران أو الحمير ، و خلفها ، يتبعها فلاّح يشدّ بكلتا يديه المحراث بقوّة و مشقّة .
قال صديقي المعلّم ( ج ) :
كان منظر الفلاّحين ، و هم يحرثون أرضهم يشدّني إعجابا ، و كنت - و أنا أطوي مسافة الطريق الموصلة إلى مدرسة الدوار - أتوقّف على حافة الطريق لأعبىء عينيّ من تلك المشاهد ، التي اختفت من المزارع الحديثة . كنت أبصر بمنظار البصيرة ، لا البصر وحده ، إصرار أولئك الفلاّحين على مغالبة قسوة العيش ، و تعويض انعدام الإمكانيات بمعدن العزيمة و الإصرار و التحدي ..
و واصل سرد ما انطبع في نفسه ، و علق في ذهنه ، حول رحلته التعليميّة ، و مقامه ، الذي امتدّ سنوات عدّة بين الريفيين من أهل الدوار :
عندما ابتدأت السنة الدراسيّة ، و افتتحنا ، نحن المعلّمين الأربعة و العمال المهنيين و معظم التلاميذ الذين التحقوا بالمدرسة في أول يوم ، لاحظت حضور الذكور فقط ، و صدمني غياب عنصر الإناث غيابا تاما . احترت و تساءلت و استفسرت عن الأمر ، فقيل لي : أهالي الدوار لا يسجلون كل الذكور ، فما بلك بتسجيل الإناث . فتعليمهنّ يندرج ضمن الممنوعات ، بل المحرّمات ..
فمثلا : لوكان لدى الريفيّ أربعة أبناء ، فإنّه يسجل واحدا فقط ، و قد لا يسجله بتاتا . أمّا البقيّة فيتركهم لمهمّات حياته ، كالرعي و جمع الحطب و الحرث و الحصاد . أيّ أنّهم يقسّم أعماله اليوميّة و الموسميّة على الأبناء الذين لا يتمدرسون . أمّا البنات ، فلا يفكّر الريفيّ إلا في زواجها . و لا يرى في تعليمها ضرورة و حاجة و فائدة ، بل برى أنّ تعليمها في المدرسة ، التي تعلّم اللغة الفرنسيّة و القراءة و الكتابة و الخط ، خطر على أخلاقها ، و قد تجلب العار لأهلها و عشيرتها و للدوار ، إذا واصلت تعليمها في المستوى الأعلى ، كالمتوسطة و الثانوية و الجامعة ..و لهذه الأسباب يلجأ الريفيّ إلى تزويج بناته في السنّ الثانية عشرة .. لأنّ الزواج سترة و جنّة ، كما يقولون الريفيوّن - و هو أسلم السبل لدرء مخاطر العار و الفضيحة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل