الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غادر ولم يعد!

طالب عباس الظاهر

2023 / 1 / 7
الادب والفن


قصة قصيرة

الإهداء: إليه مع فائق الحزن وجزيل الاعتذار!

مقدمة: هل هو سوء طالع مازال يلازمه؟ أم إنه فقط يدفع ثمن خطئه القاتل في اتخاذ القرار؟! على أية حال لست بصدد محاكمة ملابسات الماضي، وماذا ينفع هذا الآن أصلا، كون القرار بالفعل ليس أمراً سهلاً، ببساطة إنه كالسيف، واستلاله من غمده ورفعه للضرب أمر بغاية الخطورة، فقد يذبح صاحبه بلحظة غفلة!، وطلقة إن لم تُصب الهدف، تعود لتصيب راميها بمقتل، ووحده عليه تحمّل التبعات، نعم... أحياناً تكون العواقب أما حياة أو موت، بعضنا يغتاله قرار خاطئ؛ فيعيش حياته ميتاً!.
***
بالأمس وحينما كنت في طريقي إلى المدينة القديمة ماشياً صادفت صديقي القديم ورفيق صباي، إلتقينا بعد عمر طويل من الفراق... حفنة من السنوات جرت في نهر الغياب قبل أن تمدّ الصدفة اللعينة هذه بيننا جسر اللقاء الألعن هذا!، هو في البداية لم يعرفني وبدوري استغربته؛ فولد اللقاء كسيحاً، لم يكن نفسه صديقي الذي عرفته وأحببته وعشت معه سنوات الذكريات، حركاته صارت مريبة، ايماءاته طائشة، سكناته النادرة بلهاء، أصبح يتكلم كثيراً، بل لا يتوقف عن الكلام أساساً، فبدا لي كأنه هارب من مطاردة عنيفة لحيوان متوحش هو يظّنه الصمت!.
يتمتم حيناً بنبرة منخفضة كأنه يتحدث إلى نفسه أو لشخصٍ لا أراه بكلماتٍ لا يمكن فهمها، وحيناً آخر أفهم ما يقول ولكن يغيب الترابط بين جمله ومواضيعه المتنافرة، أغرقني بسيلٍ من كلامٍ متصلٍ أشبهُ ما يكون بشلالٍ من الهذيانِ!.
وياليتني لم أصادفه وهو بهذه الحالة من التدهور النفسي، آلمني كثيراً تردي حالته وانحدارها لهذا المستوى، وتراءت لي من كل كيانه المشرف على الغرق، فقط أطراف يديه المستغيثتين دون أن أستطيع فعل أيّ شيء لإنقاذه، وأنى لغريق أن ينجد غريقا؟!
كم بشع غدر هذي الحياة؟ إنه عزيز آخر ينزلق صوب الهاوية، وتكاد تبتلعه دوامة الرحيل، وطوال الوقت كنت أفتش بين ركام الذاكرة عن فتى ممشوق القوام... طلعته بهية... شعره أشقر... عينيه عسليتين... بشرته بيضاء مشربة بالحمرة... ثغره باسم ينمُّ عن رضى مقيم وعن قناعة راسخة بالقضاء والقدر وعن طيبة وفطرة ونقاء، كنت أبحث عن فتى نابه... أحلامه عريضة في النجاح والحصول على معدل عال للقبول بالجامعة التي يتأمل أن يكمل دراسته فيها عندما كان للأحلام والآمال مكاناً في قلوبنا الطرّية... النابضة بالتفاؤل.
لكنه فجأة لم يتوفق في السنة الأولى في امتحانات البكلوريا للسادس العلمي، فقرر التأجيل للسنة القادمة لعلّه يحصل على معدل أعلى لتحقيق أمنيته العزيزة، ولكنه بدل ذلك رسب وسيق إلى العسكرية في معسكرات (معتقلات) التدريب، وكانت الحرب مشتعلة حينها على الجبهات... حرب السنوات الثمان الشرسة، وحلّت بحياته الكارثة!.
بدأت حالته النفسية تسوء وتتردى شيئاً فشيئا مع الأيام، ثم تدهورت كثيراً حتى وصل به الحال للركض حافياً في الطرقات تطارد خطاه الهاربة ضحكات المتفرجين الماجنة، وصار شغل أهله هو البحث عنه في كل مكان، وأحياناً لا يعثرون عليه لأيام، وأخذ ينتكس صحياً بين الفينة والأخرى، ثم يعود إلى حالته الطبيعية، لكنه سرعان ما ينتكس ثانية.
في ذات اليوم الذي أُعلن فيه توقف اطلاق النار في حرب البوابة الشرقية المشؤومة، سمعنا نحن اصدقاؤه بهروبه من إحدى جبهات القتال إلى الجانب الآخر... ياله من قرار بائس وتوقيت منحوس؟ همست حينها لنفسي، هو فضلّ أن يكون أسير حربٍ على أن يكون جندياً مستعبداً لغيره بالأوامر العسكرية الصارمة، هرب من عدوانية دولة الجريمة وعصابات السلطة الإرهابية، لعلّه يجد راحة مؤقتة من حربها آنذاك، وعانى في الأسر كثيراً قبل أن يعود للوطن بصفقات تبادل الأسرى.
ربما شكوا هناك بأنه ضابط مخابرات أو استخبارات، وربما كان للقرار السيء وللتوقيت الأسوأ الذي اختاره دخل في إنبات هذا الشك، وربما شكله الجميل الأحمراني وشخصيته الباردة ساعدا على نمو هذا الشك إلى عشبة شوكية جارحة، خمنت بهذا عندما حكى لي عن التعذيب الذي لقيه في الأسر، وأراني أثر العطب لعصب الإبهام في يده اليمنى كشاهد حي ومستدام على عنف العذاب الذي لقيه هناك، لأنهم حسبوه يفتعل الجنون!.
قبل خمسة وثلاثين سنة أو أكثر قليلاً، كنا معاً في أحد شوارع المدينة القديمة المؤدية إلى مكتبتي في شارع قبلة العباس، فجأة لمح عن بعد حبيبته قادمة مع أمها بنفس اتجاهنا، وأحبّ أن يريني إياها وربما ليفتخر بأن له حبيبة جميلة، لكنه أرتبك حين شاهدها تقترب منا وتمرّ بمحاذاتنا، أحمر وجهه خجلاً كطفل صغير، ارتبك ولم يعرف كيف يتصرف؟ وماذا يقول؟ بقي مضطرباً وكنت أحاول تهدئته دون جدوى، فشلت في اقناعه بالهدوء، وبعد أيام وأسابيع صار يكرر عليّ السؤال ذاته وبخوف: هل أحسّت بأني قلت لك بأنها حبيبتي؟!
وأنا بدوري أعيد وأأكد له مجدداً بأنها لم تحسّ، لأني لم أنظر إليها مباشرة، وجعلت نفسي كأنني لم أنتبه إليها أصلاً، وكأنك لم تخبرني بشيءٍ البتة، ولكنه بقي يعيد ويكرر السؤال ذاته دون توقف!.
فهل ما أوصله لما وصل إليه هي الحساسية المفرطة... ربما؟ مازلت أحاول جاهداً أن أجد قاسماً مشتركاً بين المنفلتين من قيد العقل، لأني مازلت أظن بأنهم اختاروا الطريق الأسهل للإجابة عن استفهام الحياة الأصعب!، ساءلت نفسي كثيراً وبإلحاح شديد عن هذا، ولكني لم أتوصل إلى جواب شاف.
ولشدَّ ما آلمني سماع ضحكته مجدداً في لقاءنا الأخير، أقصد شبح ضحكته الغابرة، ساقها الرجع البعيد للصدى في دهاليز ذاكرتي، لعلها هي الوحيدة التي لم تتغير كثيراً فيه، ودلتني على شخصيته القديمة المحببة إلى نفسي، طبعاً بمصاحبة تلك المحاولة المفتعلة ذاتها لتغيير نبرة صوته، وهو يرد معترضاً على توددي إليه وملاطفتي له وتأكيدي له بأنه أعقل مني!.
لعل أبرز ما جمعنا هي كرة القدم، لقد كان لاعباً مهارياً كنا قطبي شلّة من الرفاق في الحي سرعان ما توزعتنا خارطة الأرض والشتات والألم... قسم فوقها وآخر تحتها، نفر هاجر وآخر بقي، وثلة لفها الابتعاد والنسيان، ولعل أكثر الأجيال مظلومية هو جيلنا الستيني، فمن حرب إلى حرب إلى حصار إلى حرب، هذه خارطة أكثر من أربعين سنة الأخيرة... صديقي أشار في هذيانه المرير إلى هذه الحقيقة الهائلة بآلامها.
بدأت أتخيّله وهو يتلاعب بالكرة ويراوغ كساحر عتيد، ويأخذ معه الخصوم يميناً وشمالاً كخفقات علم، حضرت الصور.. الآلام.. الذكريات.. الأحزان.. المشاكسات... الجراح... الضحكات... و.. و.. و!، بيد إنه الوحيد الذي لم يحضر معها في ذاكرتي هذه المرّة.. غاب الذي أعرفه، وحلّ محله شخصاً آخر لا أكاد أعرفه، وبعدها تأكدت بأن لا أمل من البحث والتفتيش للعثور عليه ثانية في هذا الجسد الذي بدا لي نحيلاً... ذاوياً، كخيط شمعة تلفظ أنفسها الأخيرة.. لأن صديقي غادر في ذات فجيعة بعيدة ولم يعد!.
[email protected]

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية