الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غيلان: تعويذتنا الواقية من الإنهيار

صائب خليل

2006 / 10 / 12
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


قبل سنة ونصف وقعت لعائلة صديقي لطيف فاجعة من اشد فجائع حرب الإرهاب في العراق, حيث احترق أطفاله وزوجته احياءً في سيارة ضربتها صلية دبابة امريكية, واشعلت النار فيها في السوق في بعقوبة أمام نظر الناس, بل واطلق القاتل النار فقتل رجلاً لم يتحمل منظر وصراخ الأطفال فحاول فتح باب السيارة لإخراجهم(*). حدث هذا في وضح النهار وفي سوق مزدحم, ولم يبق من تلك العائلة الكبيرة غير من قدر حظه ان لايكون في السيارة: لطيف وأبنه البكر هزبر الذي كان ينهي دراسته في علوم الحاسبات في بغداد والصغير غيلان الذي كان يشارك ببطولة العراق للشطرنج دون 16 عاماً, والتي كان قد فاز بها قبل عام.

الثلاثة الذين نجوا من الكارثة وكتب عليهم تحمل الحياة بعدها, ردوا على المأسآة بأن عقدوا بينهم إتفاقاً غريبا!

اخبرني لطيف, حين كنت أطمئن عليهم ان أولاده بخير. قال: "تراهنّا: من منا سينهار اولاً؟" لعلها أغرب مراهنة سمعت بها في حياتي, واكثرها إثارة للدهشة أن يكون هناك بشر بهذه القوة ليبتكروا رداً على مثل تلك الضربة الساحقة. لقد كان كل منهم, شديد القلق على الأثنين الباقين اكثر من ألمه وقلقه على نفسه, فسعد الجميع بالإتفاق.

امس وأنا أقرأ بأسف الكتابات المشحونة بالطائفية على الإنترنيت واستلم الإيميلات التي تلومني أني لم اتخذ موقف الدفاع عن طائفتي في كتاباتي, اصابني خوف حقيقي لم اعرفه على العراق, لكني أعذرت من كتب هكذا. تساءلت الى متى سيصمد العقل في الإنسان العراقي امام هذا المد الإرهابي الهائل المجهول؟ إلى متى سيتمكن العراقي من ان يراجع الحقائق بهدوء ولا يتسرع التهم فلا يسقط في الاف الفخاخ التي نصبت له فـ"يصيب قوماً بجهالة" ويزيد الطين بلة؟ ان يبقى يتذكر ان من ينصب له تلك الفخاخ قوي للغاية ودنيء للغاية ومبدع للغاية؟

تساءلت ...الى متى يمزّق الرصاص اقرباءه ويبقى يقول: "ومع ذلك فليس هناك إثبات على انها من الطائفة الأخرى", والى متى سيستطيع الصمود امام اغراء الإنتقام, أي انتقام ومن اي كان, وإلى متى سيتمكن من الإمتناع عن تفريغ غضبه وحزنه وجزعه في جسد شخص ما؟
الى متى ستصمد الشجاعة بوجه الخوف الذي يعيد تجميع الناس وفق طوائفها وعشائرها لتعويض فقدان الأمان, واختراع العدو في المقابل؟ إلى متى يصمد العقل فلا يصدق هذا السيل الهائل من الإعلام الذي يدعوه كل يوم وكل ساعة الى الجنون, فكم يوماً سيبقى يرفض هذه الدعوة ويبقى مصراً على إشتراط الإثباتات قبل الحكم؟ إلى متى سيصمد الإنسان في رأس المرء فلا ينحدر ليصبح وحشاً طائفياً مختلاً؟ إلى متى سيقول العقل ان هذا الذي قتل أخي بعد ان قرأ هويته وكان يرتدي ملابس الآخرين ليس إلا محتالاً يريدنا ان نقتل بعضنا؟ أيبقى العقل صامداً ام انه لابد سينهار, وأن المسألة مسألة وقت؟

متى سيكون الإنهيار, ومن سينهار قبل غيره؟ تذكرت رهان الثلاثي الرائع عمن سينهار اولاً, وفكرت اي عجب ان صمدوا حتى اليوم؟
لاشك ان القوة الرابطة التي يعود اليها فضل صمود هذا الثلاثي الرائع هو الحب المتبادل والإيثار والتربية الإنسانية لذلك الوالد الكبير. إنه التفكير بالغير. فقلق كل من الثلاثة على الأثنين الباقين وعلى بالبلاد يحميه من ان يحطمه الغرق في الأحزان وهي تفيض كلما حل المساء.

فأما هزبر فيرجوني كلما اتصلت بهم ان ابقى على اتصال بأبيه فهو يحتاج الي, وأما ابيه, فإضافة الى قلقه على ولديه الباقيين, يبدو ان هم العراق مازال في رأسه اكبر من مصيبته. وها هو يوم تأبين عائلته يدعوا الجمهور المحتشد قائلاً: " من اراد ان يؤاسيني في محنتي هذه و من تمنى ان تعود لي عائلتي و احضن اطفالي من جديد فليخبرني ماذا فعل لاجل وحدة البلد و بناء البلد , وليفكر معي كيف نخرج البلد من هذا الليل الحالك ", ومازال حتى اليوم يفكر ويكتب ويحاول.
وحين كتبت مرة اسأله ان كان في العراق ام خرج منه, أجابني:
انا في العراق او العراق في...لا اعلم.....ولكن بالتاكيد.....لمدمعينا طعم دجلة والفرات!
بل ان هذا القلب المعصور ما زال فيه مكان رحب للقلق على الآخرين من اصدقائه, فكتب لي معلقاً على إحدى مقالاتي يقول: "اه يا حبيبي اكاد احس قلقك كابوسا ثقيلا يضاف الى مصاب بغداد ومصاب عبد اللطيف".

لم اكتب هذا لأثير مشاعركم من اجل صاحبي بل لأدعوكم لتأمل المحور الأساسي الذي يستند اليه لطيف وهزبر الذي هوحتماً الصغير الكبير: غيلان. فلا شك عندي ان اخيه وابيه, كلما عصفت بهما الذكريات الحارقة, ينظران اليه, فيخجل اي منهما ان يتكوم منهاراً وغيلان منتصب القامة.

قبل لحظات كنت اتصفح العدد الذي وصلني تواً من مجلة هولندية اشترك بها, فأوقف نظري رسم كاريكاتيري لفرهاد فوروتانيان لأرض تنشق وأناس يركضون شمالاً ويميناً, كل في جانبه, بعيداً عن الشق في الوسط, إلا رجل واحد يقف فوق الشق, رجله اليسرى هنا والثانية هناك, وهو يرفض ان يترك مكانه الحيادي, ويرفض الإعتراف بالشق الذي بدأ يشقه هو ايضاً. كان يبدوا مصراً بشكل قاطع على ان يجعل من جسده رباطاً يوقف انفتاح الشق أو ان يمزق الشق جسده الى قطعتين.
كم هو رائع وعميق هذا الرسم, وكم هو معبر عن الحال في العراق حيث يركض كل الى طائفته وعشيرته وقوميته وقد تخلى عن العراق او يأس منه, الا البعض الذي يرفض الأعتراف بهذا الشق فيفضل ان يموت عراقياً على ان يعيش طائفياً.

هل هناك ما يكفي من هؤلاء العراقيين لإنقاذ العراق؟ حين كتب صديق لي قرأ قصة عائلة لطيف اليه مواسياً ومصدوماً لهول مصابه وصموده, اجابه لطيف:
"الاخ العزيز محمد المحترم
اشكرك على صدق مشاعرك واؤكد لك بان في العراق قصص لو تسنى للناس الاطلاع عليها لعرفوا حقيقة هذا الشعب ولطمأنوا بانه ما من قوة في الارض تستطيع انتزاع انسانية العراقي وحبه للبناء. ربما الصدفه كانت السبب في ان عرفتم قصتي ولكن قصصا عظيمه لايعرفها الا اهلها اندثرت كدم هابيل, اخوك عبداللطيف ابراهيم".

أي غيلان...اتدري...اقول لك صدقاً, اني لا اعرف الى اية طائفة تنتمي, لأني لم اعرف الى اية طائفة ينتمي ابيك؟ غريب ان نعيش سوياً سنوات جامعة الموصل الطويلة الحميمة, ونثير بيننا كل تلك النقاشات الكثيرة دون ان نسأل بعضنا مثل هذا السؤال اليس كذلك؟ لكني يا غيلان ربما كنت اخشى لو اني سألت اباك مثل هذا السؤال أن يمزق وجهي, ان لم يكن بضربة بوكس غاضبة فبضحكة استخفاف مدوية. نعم يا غيلان لم يكن غريباً في ذلك الوقت ان نعيش سنوات معاً دون ان يسأل احد مثل هذا السؤال.

أي غيلان...هل لك ان تغلق بوجهنا خيار سقوط العقل الى هاوية الطائفية والغضب الأعمى كما اغلقت بوجه ابيك واخيك خيار الإنهيار؟
أي غيلان ألا تعلّم عقولنا الصمود بوجه التعب والخوف والإغراء بالعصبية؟ ألك ان تعلمنا الخجل, فيقسم كل منا ان يكون آخر من سينهار فيه الإنسان المفكر الى مسخ متيبس ابله يدفعه الخوف والقهر الى الضرب يميناً وشمالاً بلا تمييز, وتسيره الرغبة بالإنتقام من أي كان, إن لم يجد مطلبه ؟

أي غيلان....نحن مثلك لا نريد ان نصير حمقى ووحوش, لكننا متعبون.. متعبون ...متعبون..
آه غيلان معذرة.... فليس لإنسان ان يذكر تعبه امام أرهاقك ولامصيبته امام جلال مصابك...
غيلان انك لم تترك لنا خياراً...سوى ان نقسم أن نبقى بشراً حتى الموت..
فلنحمل اسمك "غيلان" في اعناقنا وذاكرتنا, تعويذة ترد عنها السقوط, كلما إنقضّ علينا الخوف وكلما فاض التعب....
...وكلما حل المساء...


(*) الجيش الصغير والحلم القديم بالسلام
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=20255








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن الجمعية الوطنية الفرنسية؟ • فرانس 24


.. فلسطينيون يقيمون مصلى من القماش وسط الركام في جباليا




.. دمار كبير في أحياء غرب رفح جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غ


.. مصابون يصلون إلى مستشفى ناصر في خان يونس بعد قصف على مناطق ج




.. حريق ضخم اندلع في سانتا باربرا الأميركية .. والسلطات تخلي ال