الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ربيع إيكوزيوميّ *

علي فضيل العربي

2023 / 1 / 8
الادب والفن


كان مولدي في مستهل الربيع من سنة اثنين و ستين من القرن المنصرم.. هذا الذي هو ثابت على شهادة الميلاد... لكنّ أمي تقول، أنّني ولدت في زمن نوار الفول، و بداية تفتّح أشجار التين و الكروم و الليمون و السفرجل، و إطلالة سنابل القمح.. و قبل عيد النصر بأسابيع... أي أنني ولدت في شهر فبراير..و علم بي يوم عيد النصر...
قالت لي أمي:
- سمّاك جدّك، نصر الله، تيمّنا بعيد النصر..
و كنت أول عناقيد أمي و أبي العشرة.. يومها فرح أبي بمولدي، لا لكوني من جنس الذكور فقط، بل لأنّني ولدت بعد مخاض طويل، و انتظار أطول.. كاد أبي يطلّق أمي، بعد سنتين من الترقب، ونيران الألسنة التي لا ترحم.. تزوجت أمي صغيرة.. لم تتعد الرابعة عشرة من عمرها.. كان حليب أمها مازال في حلقها بلغة تلك الأيام.. لكنّها تحمّلت و صبرت.. بكت.. تألمت.. أرقها موعد الحمل و الوضع الليالي الطوال..
و ها أناذا قد نيّفت على الخمسين ربيعا.. لكنّني لم أر ربيعا، ولم أعشه، كربيع هذه السنة.. أقبل بعد رعد و برق و مطر وضباب.. و نجونا بفضل الله من جفاف و يباب كبيرين.. حتى أصاب الناس اليأس، بل القنوط... لم أر منذ بدأت ذاكرتي تختزن الأحداث، ربيعا مثله.. لم يعد للصمت مكان في أنفسنا.. خرجت المدن و القرى.. الحواضر و الأرياف و المداشر عن بكرة أبيها..
قالت لي أمي، و قد جاوزت عتبة الثمانين:
- ربيع هذه العام، يفكرني بربيع مولدك، يا وليدي.
وكم كان ربيع عيد النصر أجمل الرباع و أروعها على الإطلاق.. فيه - كما قرأنا في الكتب التي رواها الآباء و الأجداد – ولد الناس من جديد. خرجوا من كهوف النسيان. نفضوا عن أجسادهم رماد العنقاء.. و طردوا من ربوع أرضهم أعتى قوة احتلال غاشم. لم ترحمهم مدّة قرن و ثلث من الزمن..
قالت لي ابنتي الصغرى، التي لم تغيّر أسنانها بعد. و لمّا تبلغ عتبة المحيض. و كنت أعتقد أنّ ما يؤرقها، هي تلك الدروس العجيبة، و الكتب الثقيلة فقط :
- هل ستخرج يا أبي غدا؟
- حتما.. سأخرج لصلاة الجمعة..
- و بعد صلاة الجمعة؟
- سأزور جدتك.
- و بعد؟
- أعود إلى البيت..
- و المسيرة، يا أبي؟
-.......؟
- أريدك أن تصطحبني معك.
- ومتى تراجعين دروسك يا بنيتي؟
- بعد المسيرة، يا أبي.. أرجوك لا تحرمني من يوم الغد.
- دعيني أفكر، يا بنيتي، و غدا سأرى.
- شكرا، أبي..

****
لم أقو على كبح رغبة ابنتي زهور.. أدركت أنّ لكل جيل ربيعه.. و لكل سفينة مسارها.. قررت أن لا أحرمها من عبق ربيعها... كادت ترفرف كحمامة بيضاء، و هي تشدّ على يدي.. وكان الناس قد تجمعوا.. و هم يرفعون الرايات و الشعارات، و أكفهم تحتضن الزهور بشتى ألوانها.. و كنت قد اشتريت، أثناء الطريق، باقة ورد لابنتي زهور..
قالت لي:
- سأمنحها لرجال الشرطة، ما رأيك يا أبي؟
أدهشني قرارها و اقتراحها معا.. و رأيت في عينيها واحة الحب والأمل و الطمأنينة..
قلت لها بنبرة اليقين:
- رائعة أنت، يا بنيتي.. أليسوا هم حفظة أمننا؟
- سأمنح لكل شرطيّ زهرة.
- افعلي ما شئت يا بنيتي.
لحظتها تذكرت خيبة جيلي.. الذي عاش في كنف الاستسلام والخوف.. و لم يصنع ربيعه.. عاش بلا ربيع حتى أدركه الخريف، وقد تلاعبت بها الرياح يمينا و شمالا..
قلت في نفسي:
- ربّما تفعل الزهور في النفوس، ما عجزت عن فعله الكلمات والبنادق...
و منذ صغري، ارتبط عندي الشرطيّ و الدركيّ بالخوف والتوجس.. لقد صنع منهما الاستبداد آلة لقمع الشعب، و حماية السلطة من سيف العدالة و الديمقراطية .. رغم أنّ مهمتهما حماية المواطن من الظلم و العار...
و أردفت في نفسي متوجسا:
- كيف سيكون ردّ فعلهم يا ترى؟ هل سيقبلون زهرات ابنتي؟ أم سيقذفونها على وجهها، و يردّونها لها قنبلة غاز أو ضربة عصا؟ ولحظتها سيكون موقفي حاسما، و أنا أرى ابنتي، حفيدة الشهداء، تهان و تُقمع بأيدى أبناء وطنها.
****
كانت ابنتي زهور، وهي تحث الخطى شعلة متّقدة الجوانح.. أحسست بها، وهي تردد شعارات المسيرة بصوتها الجهوري.. اكتشفت أنّ لها صوتا رخيما كصوت الحمام الزاجل، و نبرة تخترق السمع.. كأنني، لأول مرّة، أسمع صوتها الهادر، كخرير الجداول في منحدرات الربيع الخصيب. الجميل كصوت العندليب في كبد أيكة خضراء، وارفة الظلال و الثمار.. أكنت أصم قبل ذلك الحين؟ أم أنّ صوتها تغيّر فجأة في رحم المسيرة؟ أكنت أسمعها بأذنيّ قلبي، أم أنني كنت أسمعها على عجل من أمري؟ و انطلقت هتافاتها:
- وطني، وطني، غالي الثمن.. أفديه بروحي و مالي وبدني..سلمية.. سلمية..مسيرة شعبية..لا فرنسا، لا إيفيان، نوفمبر هو البيان.. الدستور عدلتوه، شيفونة ردّيتوه.. الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد جمهورية الشهداء....ترحلوا قاااع.. ديقاج..
قلت في سرّي:
- يا إلهي، من أين تعلّمت كل هذا الوعي؟ ألم يقولوا عن جيلك، أنّه جيل ميّت، لا رجاء منه.. جيل السراويل التي نهشتها الكلاب من أمام، و من خلف.. جيل الفايسبوك، والحرقة.. و الأحلام الرمادية.. جيل الزطلة... أخخخ. ما أكذبهم..
و حملقت في عينيّ باسمة الثغر، متوردة الوجنتين، مرفوعة الهامة.. انتشلتني من حضيض الدهشة.. و رددت:
- لماذا أنت صامت يا أبي؟
-.........؟
- لماذا لا تردد معنا الشعارات؟ هل أنت خجلان أم ماذا بك؟ انظر يا أبي، لست وحدك يا أبي.
كنت على وشك البوح لها بما كان يختلج في صدري من أحاسيس صدئة، رثة، نخرتها أرضة زمننا الخجول و المهادن والجبان.. كنت سأقول لها:
- لقد هرمت يا ابنتي.. بح صوتي.. و وهنت عظامي..
لكنّني تماسكت، و قاومت إحساسي المر.. خفت السقوط في محذور الكلام.. خشيت كسر ظهرها..
قلت لها، مبتسما:
- هات الزهور لأوزعها على رجال الشرطة.
- أريدك، أن تصرخ معي.. الشعب يريد إسقاط النظام.. دع الزهور لي.. أم أنك خجلان يا أبي.. أو ربما لا تريد إسقاطه..
كانت على وشك أن تقول لي:
- هل أنت خائف؟ أم أنت عميل للنظام يا أبي؟
لحظتها، كانت ستقصم كلماتها ظهري، فوق سندان من فولاذ، كأنها مطرقة أهوت بها علي يد عملاقة. ستسفك ما بقي من دم في وجهي. و حينها أدعو الله أن يزلزل بي الأرض و السماء. وأتمنى أن تنشقّ الأرض لتبتلعني، و تغيّبني إلى الأبد.
****
ووجدت نفسي خلف ابنتي زهور أتبعها.. كانت تقودني، كما يقود البصير الأعمى.. و أنا أردد بصوت مبحوح:
- الشعب يريد إسقاط النظام..أولاد فرنسا ديقاج...جيش، شعب خاوة، خاوة...عمال، طلاّب، شباب، من أجل جزائر ديمقراطية.. تروحوا قااااع..لا تراجع، لا استسلام، حتى يسقط النظام..يا شهيد، ارتاح، ارتاح، سنواصل الكفاح.. يا للعار، يا للعار، حكومة الاستحمار..ترحلوا قاااع، يعني ترحلوا قااااع.. قسما بالنازلات الماحقات، و البنود اللامعات الخافقات.. شعب الجزائر مسلم، و إلى العروبة ينتسب.. من قال حاد عن أصله، أو قال مات فقد كذب..فلسطين جزائرية.. الجزائر فلسطينية...
انتابني إحساس غريب و عجيب.. إحساس ممزوج بطعم المرارة و الكبرياء و الفخر.. تراءت لي زهور زهرة أقحوان في أحضان الربيع... لم تعد صغيرة في عينيّ.. كبرت.. سمت.. تجازوت حدود الزمان و المكان.. بل، عدت أنا الطفل الصغير في مدرستها..
قلت في نفسي:
- ما أجملك يا ابنتي ! ما أروعك !
و قبل وصول المسيرة إلى ساحة الأمير عبد القادر، وهي نقطة المقصد، كانت على وشك الانتهاء من توزيع الأزهارـ التي اقتنيتها لها من بائع الزهور، الذي رفض أن يأخذ ثمنها - على رجال الشرطة، و ابتسامتها طافية على شفتيها.. و كانوا يبادلونها الابتسامات العريضة أيضا... لحظتها، كان قلبي ينبض بقوة.. بل كاد أن يقفز من بين جوانحي فرحا و إعجابا و دهشة..
رددت بنبرة الهمس و الدهشة:
- أهذا الذي أراه، واقع و حقيقة أم هو مجرد خيال و وهم؟ أخشى أن أكون في غمرة حلم معسول.. بعده يقظة مرّة كالعلقم.. رحماك يا إلهي..
و رحت أختلس النظر يمنة و يسرة.. فإذا شرفات العمارات ملأى بالنساء و الأعلام.. تنطلق منها الزغاريد.. تراءت لي الشوارع و العمارات و الشرفات ربيعا طلقا، ضاحكا، مختالا، بألوانه الزاهية، و الناس بين خمائله و جداوله بلابل ترفرف بين أفنانه و تزقزق فرحا و بهجة..
سمعت إحدى العجائز، و هي متدثرة بالراية الوطنية، تردد:
- هذا اليوم، فكّرني، يا اولادي، بعيد النصر و الاستقلال.. في ذاك النهار خرجنا مثل اليوم..ايه، يا اولادي، ايه،..
و لم تستطع إكمال بوحها.. بل راحت تمسح دموعها بمحرمتها البنية.. و بدا لي أنّ دموع الذكرى قد غلبتها، و احتوت كلماتها و نشيجها..
قالت لي ابنتي زهور، و عيناها تشعان سرورا:
- لقد وزعتها كلّها يا أبي.
ثم زمّت شفتيها قائلة بنبرة ذابلة:
- لكنّها لم تكفني. كنت أودّ أن أوزع أكثر. عليهم كلهم.
- البركة في القليل يا بنيّتي.
- في المرة القادمة، سنحمل زهورا أكثر.
- إن شاء الله. سنقتني زهورا كثيرة..
- هذا وعد منك يا أبي.
- طبعا، يا بنيّتي.. هذا الربيع ربيعنا جميعا..
- شكرا يا أبي..
و عانقتني، كما لم تعانقني من قبل أبدا، و عدنا إلى البيت رويدا رويدا، في انتظار يوم جديد من أيام الربيع المجيد...
( تمت )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
* إيكوزيوم : الاسم اللاتيني القديم لمدينة الجزائر حاليا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل