الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة

هدى توفيق

2023 / 1 / 8
الادب والفن


أقوى من الزمان
كانت دنيا تحب اللون الأصفر جدًا، وهى صغيرة، كانت أغلب الفساتين بين الأصفر أو يشترك معها في ألوان أخرى، حتى أطواق رأسها والدوك، ويستقطب حولها الهاموش، وتزعق وتتضايق، فتهشه، حتى تتعب وتمل فتتركه، ويصخب بها أطفال الحارة، وهم يضحكون على دنيا هاموش، ويلتفون هائجين و مصرين على هش الهاموش المتطفل ، والتابع لسحر جمال ولون فساتين دنيا الذي يشج سمار جسدها الممشوق بوهج اللون الأصفر الزاهي ، والصارخ بانفتاحه على المواسم الأربعة الذي يفرض حالته اللونية عليهم: شتاءً – خريفًا – ربيعًا – صيفًا. فهو ملك الألوان داخل روح وجسد دنيا بالذات، حتى تعاهد الهاموش الحبوب على اصطحابها فور خروجه من مأذق البرد إلى الربيع والصيف، وكأنه ينتظرها انتظار المحب ، والعائد إلى وطنه من رحلة غياب مؤقتة. ظل لونها المفضل لعامها الخامس والثلاثين، حتى منعتها أمها إجلال الفلاحة من مركز (سيدي سالم) بمحافظة كفر الشيخ من ارتداءه ؛ بتعليل أنه أصبح لا يُناسب عمرها.
كانت إجلال تحكي لأمها عن مدى احتقارها لزوجها، وعدم رغبتها في معاشرته، وأنها تسير إلى الفراش كالبهائم التي تُساق للمذبح متضررة، ومجبرة. أخبرتها أمها: أن هذا حق وواجب، وأن السماء والملائكة سوف تلعنها، وما عليها غير الصمت، والتحمل والعفة. لم تقتنع، لكنها أطاعت أمها فيما هو فوق احتمالها. وشعور خانق يجعلها تنفر وتشمئز من هذا الجسد الجالب لها كل هذه التعاسة والشقاء. ووجدت انجاب طفلان هو طريق مختصر للخلاص منه، بالتواطؤ مع متاعب الحمل، ومنحتها رحلة الأمومة باعث تكافح فيه من أجل هذين الطفلين، فأحست بالحياة، والقدرة على مواجهة التحديات التي تواجهها. من أجل ابنة تقترب من العنوسة، وابن في عمر الثلاثين، ويعمل في محافظة (الغردقة)، ومتزوج من امرأة تكبره بخمسة عشرة عامًا دون علمها، روسية الجنسية من شرق أوروبا ـ تقريبا أوكرانية ـ وأنجب منها تؤام ، ولد وبنت، كانت تريد أن تعود إلى موطنها الأصلي، لكن إجلال رفضت ، وأصرت على بقائهما في مصر، بل أخذهما منها للعيش معها في محافظة كفر الشيخ. وبين الشد والجذب تقاسما الطفلان، الأم تأخذ الولد وتعيش مع زوجها في مقر عمله، وإجلال تأخذ البنت لتربيها في كنفها ورعايتها مع خالتها العانس. وتدور الأيام ويشتد الخلاف بينها وبين زوجها بسبب المنزل، وهي تطلب حقها بالشراكة بينهما. وبعد خصام طويل، وتعارك، ووساطة الأقارب والمعارف، تنال حقها، فما كان منه غير أن تزوج ؛ وأحضر غريمتها في النصف الذى نقل ملكيته لابنه الجديد من زوجته الثانية، وتتوه دنيا بين صراعات أمها وأبيها وأخيها وزوجة أبيها، التي تخشى على طفلها من إجلال وابنتها المتخلف عقلها بعد أن فاتها قطار الزواج، وقد رأت دنيا جالسة بجانبه وهو في عربة الأطفال يغوص في نوم ملائكي برئ في الجنينة الخلفية للمنزل ، التي تشبه حديقة صغيرة بها زروع من الياسمين والفل البلدي، وعندما حضرت زوجة أبيها ،أخبرتها دنيا بخوف أن ابنها سيخُتطف، وأنه كان يوجد شخص يحوم حول المنزل ؛ وقد جاء بقربه يسأل عن أبيه ، ولمن هذا الطفل المولود حديثًا ؟! واشتعلت النيران بين الضرائر ؛ واتهمت دنيا بأنها مجنونة، وبيت وقف، وتريد أن تخطف ابنها، فما كان من إجلال أن جذبتها من شعرها، وأسقطتها أرضًا وبركت عليها تصفعها على وجهها صفعات متوالية، ودنيا تجذبها وتجرها من تلابيب أكمام جلبابها، حتى سقطت، وصرخ الأطفال، وحضر الزوج وتم التصالح والتزام كل أسرة في شقتها، دون كلام أو حديث أو حتى سلام، كالأغراب المضطرين للعيش في منزل واحد من أجل الحياة لا غير.
بعد الفراق تعود دنيا للذكريات بأحلام جديدة، تعاند بها، هوس الفقد، وشعور الشبق الذى يوجع قلبها المفطور، وهى تتخيل أنها تحقق أمنية ثمينة وغالية، تراود خواطرها بشغف. أن تسافر على سفينة كبيرة في رحلة طويلة، ولتكن من محيط إلى محيط تمخر عباب المياه المتدفقة في انهمار لا ينتهي، بلا حدود، بلا مسميات، تحت قبة السماء والشمس. هذا الوجود الأول الذي شيده الإله العظيم في بدء الكون. لتنغلق وتنفتح أمام وجه الأفق الواسع بامتداد البصر دون عناء، دون احجام، دون عيب ولا يجوز. كما فرضته عليها إجلال الفلاحة أنها كبرت ؛ وما عاد يليق بها ارتداء اللون الأصفر؛ حتى تنقذها سفينة الأحلام كما تراها في أحلامها أو كما تشاهدها في الأفلام السينمائية ، وهي تتبختر وسط قمم الجبال والدروب والمسارب تتدفق وسط المياه الرغوة، وهي تتفجر بقوة لتعصف بكل معارضين الحياة الدافئة داخل العيش في فتنة اللون الأصفر. ثم تستقبل سفينتها الخيالية، وقد ارتدت فستان أصفر طويل بدون أكمام، مفتوحًا على شكل حرف "V"، فيظهر من خلال فتحتة المطرزة بالدانتيل اللامع. بداية الصدر وهي تستقر على نهديها السخيين ، وقد هزتها ذكرى تفاصيل تلك العلاقة الشاحبة، عندما أحبت في الجامعة شابًا طوال أربع سنوات، ثم تركها وتزوج بأخرى. وبعد الحنين واللقاء مرة أخرى تقول له :
"لا تشغل بالك" فيهمس بنظرة قوية في عينيها، لينفرط الضعف، ومرارة الخذلان ،والتخلي القابعة في قلبها. كخنجر مسموم لا يجف نزفه مهما مرت السنوات، وأهدر عمرها كله. قائلاً بحب :
- لا زلت أشتاق لك.
- أنا أيضًا ...لكنك تركتني وتزوجت...
- لكن، لا زلت أشتاق إليك...
- لكن، لن أسامحك على الهجر، والخيانة.
- لكن، لا زلت أحبك فعلًا.
- من فضلك لا تشغل بالك بي ، وارحل إلى الأبد ؛ إذا كنت لا زلت تحبني.
بينما هي جالسة على السفينة البيضاء وسط نسمات الهواء الهفهافة، والمياة الرائقة، تحرسها السماء الزرقاء، والشمس العفية تطلق أشعتها الذهبية ؛ وهي تدندن بأغنية تحبها كثيرًا للفنانة (شادية).( أقوى من الزمان " لما كنا صغيرين" ). وتنتظر صديقها الهاموش الحبوب أن يعود لأحضان لونه المفضل الأصفر ليضوي، ويبرق باحتفاء أمام سطوع الشمس المتأجج، ويتلون من اللون الأصفر إلى اللون الذهبي الملوكي .

تنويه: أغنية: (أقوى من الزمان) ، للفنانة المصرية شادية / كلمات: مصطفى الضمراني. وألحان: الفنان عمار الشريعي. جزء من الأغنية: (رحت تاني للمكان / فاكرني بكل حاجة وبأحلى سنين هوايا / رحت تاني للمكان.. لقيت اتنين عايشين نفس الحكاية....يتغير الزمان ، يتبدل المكان / لكن يا مصر إنتي ياحبيبتي ذي ما إنتي / جميلة ذي ما إنتي / أصيلة ذي ما إنتي/ أرجعلك إنتي تاني/ يا صاحبة المكان/ يا أقوى من الزمان / الضحكة الحلوة إنتي / والحب الباقي إنتي/ وكل شئ يتغير.. واحنا بنكبر ونكبر/ ونفارق بعضنا... وتبقي يامصر دايما طفل هيفضل صغير بنحبه كلنا... بنحبه كلنا ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي