الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبق الجنة!

طالب عباس الظاهر

2023 / 1 / 9
الادب والفن


قصة قصيرة
الإهداء:
"سيدي، أتستطيع أن تواجه عيون رمد كعيوني توهج الشموس في محياك؟"
المقدمة:
هل شممتم رائحة سماوية ليست من هذي الأرض؟ أنا شممتها خلال لحظات لا تنسى أبداً.. وكيف لي أن أنسى؟
معضلتي ليست بالتذكر أو النسيان .. بل في محاولة النجاح في أن أجعلكم تشمّوها معي!.
***
ها قد أزف موعد ولادة تلك الحادثة على الورق كما يبدو، فهي الأغرب في الستين سنة الماضية أو أقل قليلاً من حياتي، رغم إن حياتي كلها عاجّة بالغرائب، مرّت الحادثة خلال ثوان لا تتجاوز الدقيقة ربما، لكنها نامت في رحم الذاكرة لأكثر من ثلاثين سنة، احتفظت بها كأيقونة خوفاً عليها من الضياع أو التلف، فلم تخبو أبداً كبقية الحوادث مندثرة بين ركام الذاكرة، بيد إن مرورها الخاطف ذاك بالحقيقة عادل مسيرة الزمن برمته، ولأنها أكبر من قدرتي على البوح، نعم دائما كنت أشعر بها هكذا؛ ومازال يراودني ذات الشعور بالعجز ازاءها، لذلك وعلى غير عادتي أبدو متردداً، ومازال ألشك بقدرتي على الاستمرار حتى النهاية في الكتابة قائماً.. ربما أتوقف بأية لحظة، هذا وارد جداً ومحتمل كما في مرات كثيرة سابقة، لا أستطيع الجزم بأي شيء مؤكد البتة.
بالحقيقة لا أعرف العلّة الكامنة في خشية الاقتراب، أو ربما كنت من دون وعي كامل أريد الاحتفاظ بها للنهاية كسرٍّ من دون افشاء... لا أعرف؟ وللأمانة فإن كل حروفي في ثيمة الانتظار ستبقى مَدِينة بوجودها الإبداعي لتلك الحادثة ولتلك الثواني ولتلك الرائحة .
عجزت لحد هذه اللحظة عن الاقتراب من منطقتها السحرية لكتابتها... ربما لارتباطها بالماورائيات والغيبيات، إلا إن أدق تفاصيلها تشرئب بعنقها نحوي الآن، أجل.. وتلح عليّ لأزيح عن وجهها بعض غبار الزمن، صارخة في خلدي... ألا يكفي أكثر من ثلاثة عقود من السكون ومن السبات اليقظ؟ ولعل نشيد (سلام فرمانده) هو من نفخ على رمادها... ليعيد لجمرتها الوميض وسط بحر من ظلام.
تزامن وقت وقوع الحادثة بعد أحداث الانتفاضة الشعبانية سنة 1991 ببضع شهور إذا لم تخني الذاكرة، حينها كانت عقبان الغدر للموت الأسود ما تزال تحوم وتنعق في فضاء المدينة المقدسة، ووحوش إرهاب السلطة تربض بين أرجائها... انتظاراً لخروج أية فريسة للانقضاض عليها، وتتجول بين أرجائها بحثاً مسعوراً لنهش المزيد من لحوم الأبرياء والشرب من دمهم!.
-يا إلهي، كم يمرّ الزمن مسرعاً وفي غفلة منا؟ وكم أعمارنا قصيرة.. قصيرة جداً كأعمار البعوض، أو هي أقصر قياساً بعمر الحياة؟!
تنزل استار الظلام على الذاكرة كإطفاء الأضواء مع بدئ العرض المسرحي، تتحرك بقعة الضوء... تستقر لتكشف معالم المشهد ببطيء شديد، المكان سوق الزينبية المقفر ومحاله المقفلة والمهجورة على بعد عشرات الأمتار فقط عن مرقد سيد الشهداء، الزمان عند هزيع الليل الأخير... قريباً من موعد رفع أذان الصبح من مئذنة الذهب للمرقد المطهر، المؤثرات صوت صراصير يعلو ويخفت تتلاعب به تيارات الهواء، أما الفصل فشتاء والبرد قارس... قاسي الملامس في الخارج وداخل غرفة ضيقة جداً غير محكمة الإغلاق.
فجأة، أراني نائما على سرير حديدي صغير (سفري) يمكن طويه لحمله كحقبة كبيرة، وبجانبي على الأرض ترقد بعض أوراق، وفوقها قلمي (الباركر) الأثيري الذي أبكاني جداً ضياعه في سوق العشّار في البصرة، ولم أجرؤ على الإعتراف بهذا لأحدٍ لحد اللحظة!، لأني نفسي لم أجد الجواب المقنع لدموعي!.
قياسات ما يسمى غرفة كانت لا تتجاوز متر ونصف في مترين ونصف وارتفاع مترين تقريباً، والمكان لا يبعد عن الشباك الخلفي لمقام الحوراء زينب (التل الزينبي) عند نهاية السوق بحوالي خمسة وعشرين متراً، وللغرفة شباك يرتفع مترين أو أكثر قليلاً عن أرضية السوق.
الوضع الأمني شديد التوتر، ومفارز التفتيش منتشرة ومن الاستحالة تصديق خروج بشري أو تخيّل ذلك في تلك الساعة المبكرة، بسبب الوجود المكثف لعناصر الأجهزة القمعية كرجال أمن واستخبارات ومخابرات وحزبيين في أرجاء المدينة القديمة.
استيقظ فجأة لسطوع رائحة شذا عابق... أجل، عطر ذكي فاح وشدني بقوة للانتباه كيدٍّ تنتشلني من غياهب الغياب إلى أوج الحضور، رغم تغطية وجهي ورأسي بالبطانيات السميكة تجنباً للسعات الزمهرير، لا... عطر، شذا، عبق، عبير، طيب، أريج ذكي ماذا؟، آه... لا يوجد وصف مناسب، لأن كل أوصاف الدنيا لا تليق بذلك الطيب السماوي الذي انتشر واجتاح كياني ووجودي كالطوفان على حين غرّة، وسيبقى حياً في ذاكرتي حتى مماتي.
عرفت صاحب الرائحة؛ أي نعم عرفته بيقين راسخ كما أعرف نفسي، لكني كنت مسلوب الإرادة تماماً، ومقيَّد الحركة من تأثير طاقته الهائلة، فقد احتلت تلك الطاقة كل مسامات جسدي، وسرعان ما غمرتني بفيضها الساحر لتغطي على طاقتي البسيطة وتوصلها إلى الصفر، كنت أود القول إلى ما دون الصفر، بيد إني أدرك بأن هذا لا يحدث للجسم الحي إلا بالموت!.
جسدي أشعره محنط كقطعة أسمنت ثقيل مشدودة إلى الأرض، وتحريك أي جزء منه مهما كانت الحركة ضئيلة بدت لي لحظتها كأنها أمر مستحيل، لكن روحي كانت طائرة بخفة الزغب في أجنحة الملائكة مع رائحة الطيب السماوي النافذ ذاك، أحسست بنوع غريب من الانتشاء لم أجربه أبداً، لكن جسدي ظل مصاباً بما يشبه الشلل التام، حتى أيقنت لحظتها بأن ما بيني وبين النهوض والحركة عجز رهيب، وتفصلني عن تحقيق حلم رؤيته إنما مسافة كونية شاسعة لا قِبلَ لي بها.
-يا إلهي كيف أضعت الفرصة... فرصة العمر المضاع؟ لماذا فوّتها على نفسي ولم أتعلق بأذياله كتشبث غريق بطوق نجاة؟ لِمَ لم أصرخ لأستنجده؟! فأنا كنت بأشد الحاجة لمثل ذلك الخلاص الأسطوري، والبقاء حراً خارج قيود هذا الزمكان اللعين الضاغط في روحي والكاتم على أنفاسي!.
كان جسدي ثقيل جداً كأن ثقل الأرض معلق به، ويقيّد كل ذرة فيه ويشدّه للأسفل ويحنطه، ليس بإمكاني تحريكه أو تحريك أي جزء منه لأقوم لكي أظفر بأمنية التكحيل لعيني برؤياه على الأقل، وقد مرّ من هنا أسفل شباك الغرفة، على مرمى بصري ... أجل مرَّ على بعد بضع أمتار لا غير عني وعن مكان تواجدي، وربما لن تتكرر هذه الفرصة إلى الأبد.
- يا إلهي... من يصدق هذا؟ إذا كنت أنا نفسي لا أكاد التصديق إنه بالفعل مرّ من هنا؟ ولكن هل كنت أستطيع أن أراه واقعاً وليس رؤيا... أرى وجهه القمري، طوله، شعره، ملابسه؟ وأراقب خطاه وهو ذاهب باتجاه مرقد جده؛ لو تمكنت بالفعل من أخذ القرار بسرعة، وطاوعني جسدي وتحركت لرؤيته ولو عن طريق الزحف إلى الشباك ؟!
كما يبدو فهذه أقصى حدود استحقاقي الإنساني أن أشم أريجه وأستنشق عبق شذاه فحسب، وليس في حدود امكانياتي التقدم إلى أكثر من هذا، لأن الحائل إنما جدار المستحيل!.
- أي نعم، سمعت بأذني وقع خطاه، وشممت بأنفي عبقه السماوي... عبق الجنان الذي تقف الأوصاف كلها واللغة برمتها عاجزة عن توصيفه، لأن سنخه ليس من سنخ هذي الحياة.
كانت الغرفة في خربة آوي إليها مضطراً بعد قضاء ساعات النهار وجزء من الليل في العمل، هذا بعد مغادرتي لبيت أخي الوحيد يرحمه الله، وبعد إشارته لي بقوله بأن ديكين في قفص واحد لا يمكن أن يتعايشا، إذن هو يدعوني للرحيل وتركه مع زوجته وطفله الصغير ذي البضع شهور فقط، ولكن حقاً هل أنا أو هو ديك؟ هذا أمر فيه نظر!، هو رضي على أية حال أن يكون ديكاً في قفص.. لكني لم ولن أقبل بذلك أبداً!!.
كانت الخربة مهدمة إلا من هذه الغرفة الصغيرة جداً وغرفة مقابلها مهجورة وآيلة للسقوط أيضاً، وسلم قصير ما بينهما ينزل إلى باحة ضيقة مفضية إلى الباب الخارجي نحو السوق، هذا كل ما بقي من ذلك البيت القديم، وإلى الخلف اطلالة على مساحات واسعة من ركام الخرائب والبيوت المهجورة والأنقاض، جراء القصف الكثيف بالمدفعية الثقيلة والهاونات، اضافة للقصف بالطائرات والدبابات قبل وأثناء اقتحام المدينة لإخماد الثورة الشعبانية.
كنت أتوق بالفعل لمقابلة أحد أفراد الجان وسط تلك الخرائب المترامية الأطراف... ربما قابلت أحدهم في مرة وهو يتمدد على سريري طلباً للدفء، صرخ بوجهي بصرخة عظيمة حينما تفاجأ بدخولي الغرفة منهكاً لأنام بعد ساعات طويلة ليوم عمل شاق، فبدا لي باضطراب حركته وكأنه لا يعرف ماذا يصنع؟ تسلق الجدار نحو سقف الغرفة الواطئ جداً وهو يصرخ، وسار عليه بالمقلوب حتى وصل الباب للهروب، هو لم يتوقع وجود آدمي في تلك الساعة وذلك المكان.. فوجئ بي، إلا إنه كان بهيئة قط ضخم وبعيون فسفورية لامعة.. يقال إن الجان عادة يتلبسون أجساد القطط السود خاصة، ولم أحفل به كثيراً، الحقيقة لم أكن أملك طاقة كافية لأحفل به أساساً، فالذي لم يبق عنده ما يخسره أكيد سيربح شيء ما، وأنا ربحت اللامبالاة والسخرية من المخاوف ومن الجراح ومن الآلام، بل ومن الموت ذاته!، وقد كتبت قصتان قصيرتان جداً، وأرسلتهما لجريدة العراق ونشرتا مباشرة حينها بتأثير تلك الفترة ونتاجها، وهما من نصوصي القصيرة جداً مما أعتز به، والتي ستبقى الشاهدة (*).
أجل، وإن المشرد المطعون في الصميم وحده مَنْ يدرك كم رهيباً ولا إنسانياً هو مذاق الطعن بالتشريد... اعتذرت منه في نفسي بعد تلاشي صرخته المدوية ومغادرته مرعوباً.
- آسف على إرعابك يا زميلي بهذا العنف ولابأس عليك، أرجوك سامحني ، ولكن ليس لأني ديكاً طبعاً، ولا لأنك قطاً يحتمل أن يكون جنياً !. بل لأن المكان لا يسعنا معاً... هو بالفعل لا يسعنا.
الحقيقة كنت أشعر بوجود الأرواح تحيط بالمكان، ألمح أحياناً تخاطفها عن يميني وشمالي، ولكن والحق كان لها وقع أليف في روحي، كل الأشياء المخيفة لحظتها كان لها وقع مريح حتى الموت، فالمطعون غدراً في صميمه من أقرب الناس إليه لا يسأل ولا تعنيه الرفاهية أو العكس في مكان احتضاره!، يبدو إنها أرواح ليست شريرة، آه... تذكرت لقد سمعت لاحقاً وبعد سنوات وسنوات بأن ذاك المكان كان مكان مبارك ربما، لأنه مثوى للأسد ... أسد التشابيه في الشعائر الحسينية، هنا في محرم يتم تحضيره للمشاركة في طقوس العزاء في يوم عاشوراء، يخرجونه من هذا المكان لمهمة وحيدة وهي حراسة الأجساد الطاهرة خلال مدة بقاءها مرمية في العراء لثلاثة أيام دون رؤوس ومن دون غطاء، ولمنع وحوش البرّ من التقرب للأشلاء الممزقة والمضرجة بالدماء لجسد الحسين وأهل بيته وأصحابه من شهداء ملحمة طف كربلاء الخالدة.
-فهل يا ترى شمَّ الأسد مثلما شممت أنا رائحة عبق عطر ذكي كشذا المسك تفوح من ذلك الجسد المرمل بالدماء وأجساد أهل بيته وصحبه من الشهداء، هل شمَّ مثلي عبق الجنة؟.
***
هامش
(*) قصتان قصيرتان جداً
مجنون
ضم الليل جسده... توغل في البرد أكثر فأكثر، وهو يطوي الأزقة القديمة والطرقات...لا يدري لم قادته قدماه إلى هنا؟
فتش جيداً في صميم هزائمه وانكساراته المتتالية، الأبواب كانت توصد بعناد دونه، ولإصطفاقها تأثير غريب على أعصابه المرهقة، تساءل:
- أجل ...لابد إن هناك أخطاء قاتلة!
- ..............................!
إجابة الصمت بصمت...لكنه قهقه عالياً...أزعج صوته الليل بقوة، تكسر زجاج السكون، وفرت كلاب سائبة من أمامه مذعورة، لأنه لم يرَ منتصراً سواه.
ميعاد
انتعل ساقيه متسللاً من خربته مع تساقط الظلام ...كان الجوع ينهش في معدته الخاوية بشراهة... بدا الليل موحشاً، والبرد يعربد في الشوارع والأزقة والطرقات، والريح تصفر خلف الأبواب الموصدة وقضبان الشرفات... راح يجوب أنحاء المدينة، المدينة التي آوت الغرباء وشردته...كان جسده يرتجف بشدة...السماء تنـزل الزمهرير بلا هوادة، والناس هربوا من احتدام غضب الشتاء، راح لائذاً بالجدران القريبة والصقيع يزحف ببطء في شرايينه، لكنه حينما مرّ تحت (الطاق الزعفراني)× شمَّ عبر ذاكرته أريج الأمس الطافح بالعز والذكريات...سمع هاتف يبشره بمسكن دافئ في السماء قد شيدته الملائكة، ففرح وكفكف دموعه، وواصل التسكع ... بل أمعن في تشرده.
..........
* بناء معماري قديم أشبه بنفق مظلم نسجت حوله شتى الحكايا الخرافية، والأساطير الشعبية، وهو احد معالم المدينة المعروفة، ونسبة له سميت (محلة باب الطاق).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي