الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يُوسُفِيّاتُ سَعْد الشّلَاه بَيْنَ الأدَبِ وَالأنثرُوبُولوجْيَا: قراءة في ديوانه (كفّ أمّي)

أسماء غريب

2023 / 1 / 9
الادب والفن


(1)
اليُوسُفيّةُ الأولَى
فِي حَضْرَةِ الشّمْسِ والقَمَرِ


مَا أجْمَلَ أنْ يَكُونَ الإنْسَانُ مِنَ السّائحينَ فِي مَلكُوتِ اللهِ، والأجْمَلُ مِنْ هَذا أنْ يَكُونَ قلبُهُ هُوَ هَذَا المَلكُوتُ؛ ولعلّ هذهِ الحَقيقَة لَهِي مِنْ أرْوَعِ اللّطَائفِ الإلهيةِ التي تجلّتْ لِي فِي أكْثر مِنْ مكانٍ ولحظةٍ منْ لحظَاِت أسْفارِي وَرَحَلاتِي، ذَلِكَ أَنّنِي كُلّما سَافَرْتُ إِلَى مَكَانٍ مَا أَوْ بَلِدٍ آخرَ غَيْرَ البَلَدِ الَّذِي يُقيمُ فِيهِ جِسميَ التُّرابِيّ، ازْدادَ يَقِينِي بِهَذَا الأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَزَلِ العُلَمَاءُ يَغْفِلُونَ عَنْهُ أَوْ يَتَجَاهَلُونَهُ مُنْشَغِلِينَ بِعُلُوم أخْرَى لَا همّ لَهَا سِوَى أَنْ تَدْرُسَ الفُرُوقَ الإثنيةَ وَالعِرْقِيَّةَ بَيْنَ النَّاسِ، وتُضَخِّمَ التَّمْييزَ الطَّبَقِيَّ وَالجُغْرَافِيَّ وَالسِّياسِيَّ وَالتّارِيخِيّ وَالثَّقافِيّ بَيْنَهُمْ، دُونَ الاعْتِرافِ وَالإقْرَارِ بِأَنَّ الإِنْسانَ هُوَ نَفْسُه صُورَةٌ مُصَغَّرَةٌ لِهَذَا الكَوْنَ العَظِيمِ، فَهُوَ الدَّائِرَةُ، وَهُوَ النُّقْطَةُ وَهُوَ مَرْكَزُ الخَلقِ وَالخَلِيقَةِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وُجِدَ بِالوَجْدِ كُلُّ شَيْءٍ. وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الحَقِيقَةِ يُصْبِحُ طَرْحُ السُّؤَالِ التَّالِي أَمْراً مَشْرُوعاً وَلَهُ أَكْثَر مِنْ مُبَرِّرٍ وَمُسَوِّغ: مَا الَّذِي يَجْعَلُ كَاتِبَة مِنْ أَصْلٍ مَغْرِبِيّ مُقِيمَة فِي إيطَاليا، تَكْتُبُ عَنْ مُبْدِع عِرَاقِيّ، وَتَغُوصُ فِي قصَائدِهِ وَكِتَابَاتِهِ فَتَشْعُرُ وَكَأَنَّهَا نَشَأَتْ وَتَرَعْرَعَتْ فِي العِرَاقِ، عَلَى الرّغْمِ مِنْ أَنَّهَا لَمْ يَسْبِقْ لَهَا أَنْ وَضَعَتْ فَوْقَ تُرَابِهِ قَدَماً وَلَا أَنْ عَرَفَتِ الشَّاعِرَ وَلَا أَنْ قَرَأَتْ لَهُ مِنْ قَبْل حَرْفاً؟
الجَوَابُ بَسيطٌ لِلغَايَةِ: إِنَّهَا الكِتَابَةُ وَالقِرَاءةُ بِاسْمِ اللهِ، هِي وَحْدهَا الَّتِي تَجْعَلُ مِنَ الحَرْفِ نَسْراً نَارِيّاً، يَطِيرُ بالإنسانِ إِلَى أعْمَاقِ السَّمَاواتِ والأرضينَ، وَيَكْشِفُ لَكَ أَيُّهَا القَارِئُ بِسِرِّ (ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطرُون) مَا تُخْفِيهِ أَرحامُ الحُروفِ مِنْ جَمَالٍ وَجَلَالٍ، فَتَنْمَحِقُ المَسَافَاتُ وَتَنْدَثِرُ الحُدودُ الجُغْرَافِيَّةُ وَيَتَوَحَّدُ الفِكْرُ، وَيَعُودُ الإنسانُ إِلَى أَصْلِهِ الأوّلِ: نَفْخاً إلهياً طَاهِراً، لَا يَنْطِقُ إلّا عِشِقاً وَتَسْبِيحاً بِاسْمِ الحَيِّ القَيُّومِ، وَيَكْتَشِفُ خِتَاماً أَنَّهُ هُوَ الإنْسانُ بَلْ هُوَ الكَوْنُ الَّذِي فِيهِ الأرضُ بِتُرَابِهَا وَطِينِهَا، وبمَائهَا وأمْلاحِهَا، وَالَّذِي فِيهِ تَسْتَوِي القَوَانِينُ وأضدادُها؛ فَفِيهِ الجَاذِبِيَّة وَفِيهِ مَا يَرْفَعُهُ عَنْهَا، وَفِيهِ الحَيَوَانُ وَمَا يُلجِمُ شَهَوَاتهِ وَغَرَائِزهِ، وَفِيه النَّفْسُ وَمَا يَرْتَفِعُ بِهِ فَوْقَهَا إِنَّهُ وَبِبَساطَةٍ شَدِيدَةٍ مِحْرَابُ الجَمَالِ، بَلْ إِنَّ الإنسانَ هُوَ أَرْقَى وَأشَدُّ جَمَالاً مِنَ الجَمَالِ نَفْسه، لِأَنَّه يَحْكُمُ عَلَيهِ. لِذَا، تَبْقَى أَفْضَل النُّزْهَاتِ وَالسِّياحَاتِ فِي الكَوْنِ تِلكَ الَّتِي تَكُونُ دَاخِلَ قَلبِ إنسانٍ آخر، يَسْتَظِلُّ فِيهَا الفِكْرُ بِكَلِمَاتِهِ وَيَرْتَوِي مِنْ رَقْراقِ حُروفِهِ، ذَلِكَ أَنّ الإنسانَ هُوَ مَحَطَّةُ الوُصُولِ الحَقِيقِيَّةِ لَا الدُّوَلُ وَلَا المُدُنُ، فَهَلّا بَدَأتَ وَإِيَّايَ أَيُّهَا الْقَارِئُ الكَرِيمُ السَّفَرَ بَيْنَ فَيَافِي بَوْح هَذَا الشَّاعِرِ فَمَنْ يَدْرِي لربّما نَصِلُ أَنْتَ وَأَنَا ذَاتَ كَشْفٍ إِلَى مَقَامِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَهُمَا يَسْجُدَانِ لِحَرْفِهِ الأخْضَر؟

(ب) وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
أنتَ في عَيْنِ عيْنِي نَخلةُ القبَسِ
وأنا بيْنَ يَديْ يَديْكَ مُوسَى والطّور. أ.غ

لَيْسَ مِنْ السَّهْلِ أَبَداً أَنْ تَقْرَأَ لِسَعد الشلاه دُونَ أَنْ تُصِيبَكَ حَيْرَةٌ تُدْخِلكَ فِي دَوّامَاتٍ بِلَا قَرَارٍ مِنَ التِّيهِ وَالسُّؤَالِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ عَلَيكَ أَنْ تقُومَ بِهِ هُوَ أَنْ تَخْلَعَ النَّعْلَيْنِ أَمَامَ جَذوَةِ قَبَسِ نخْلتهِ وَتَتْرُكَ خَلفَكَ بِدْلةَ التأنّقِ الأكَاديمِيّ وَمَعَاوِلَ البَحْثِ "العِلمِيّ" المُتعَسّفةِ الَّتِي عَادَةً مَا تُغْلِقُ بَصَرَ البَاحِثِ وَبَصيرَتَهُ فَتَجْعَلَ مِنْه بَبّغاءً أَهوجَ يَحْسِبُ أَنَّ كُلَّ النُّصُوصِ تَتَحَدَّثُ بلغةٍ وَاحِدَةٍ وَتَنْتَهِجُ طرُقاً يَحْسِبُهَا تُوصِلُ إِلَى بَرِّ الأَمَانِ وَهِي فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ تُنَاقِضُ بِشَكْلٍ فَاضِحٍ حَرَكَةَ الرّوحِ وَالجَسَدِ. كُلُّ هَذَا لَأَنّ طَبِيعَةَ هَذَا الدِّيوانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ تَأْبَى أَنْ يَسْتَبِدَّ بِهَا عَقْلُ "نَاقِدٍ" أَوْ تأويلاتُ حارِسٍ يَدَّعِي ملكِيَّةَ مَقَالِيدِ الحَرْفِ وَالكَلِمَةِ. كَيْفَ لَا وَسِرّ اللَّذَّةِ فِي قصائدِ هَذَا الشَّاعِرِ هُوَ تَحَوُّلُ المَعْنى وَتَغَيُّرُهُ، لَا ثُبُوتُهُ ودَيْمُوميتُهُ، بَلْ كَيْفَ لَا والأصْلُ فِي كُلِّ المَوْجُودَاتِ التَّحَوُّلُ وَالتَّغَيُّرُ الَّذِي إذا لَمْ يُدْرِكْهُ البَاحِثُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِه مُتْعَةَ تَذَوُّقِ مَا فِي هَذَا الدِّيوانِ مِنْ لَذِيذِ الثِّمارِ الوَاحِدَة تِلوَ الأخرى؟! وَلَعَلَّ قَصِيدَتَهُ ((أَنَا شَاعِرَ بابليِّ)) (1) هِي أَكبرُ دَليلٍ عَلَى مَا أَشَرْتُ إِلَيه، لِذَا، فَمِنَ الأجْدَرِ الوُقُوف عِنْدَهَا واسْتكناهِ مَا فِيهَا مِنْ دَلالَاتٍ تَدُلُّ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ المُسْتَمِرِّينِ فِي مَعَانِي الشَّاعِرِ وَمَكْنُونَاتِهِ:




- العُنوانُ: أنا شاعرٌ بابليّ

عَتَبَة عُنْوَانِ هَذَا النَّصِّ جُمْلَة إسمية تَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلاثَةِ أَجَزَاء، وَكُلُّ جُزْءٍ فِيهَا هُوَ إشكاليّة كَوْنِيَّة قَائِمَة بِذاتِها:

أنَا + شَاعِرٌ + بَابِليّ

وَقَدْ تَكَرَّرَتْ جُمْلَةُ العُنْوَانِ عَلَى طولِ النَّصِّ لِثَلاثِ مَرَّاتٍ مَعَ إضافة لَفْظٍ جَديدٍ هُوَ كَلِمَةُ (مَغْمُور)، الشَّيْء الَّذِي يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ قَائِمٌ عَلَى ثَلاثِ وَحَدَاتٍ رَئِيسَةٍ تَفَرَّعَتْ مِنْهَا وَحدَةٌ أخرى رَابِعَة تَسْتَدْعِي اِسْتِنْطاقَ كُلّ جُزْءٍ مِنْ هَذِهِ الوَحَدَاتِ عَبْرَ الأسئلة التَّالِيَةِ: مَنْ أَنَا؟/ وَمِنْ أَيِّ أَرْضٍ خَرَجْتُ؟/ وَابْنُ مَنْ؟ وَهِي كُلَّهَا عَلامَاتُ اِسْتِفْهامٍ سَتَتِمُّ الإجابةُ عَلَيْهَا وَفِقاً لَمَا يَلِي:

- من أنا؟
أنا / شاعر

الأنَا الشِّعْرِيُّ هُوَ كَيْنُونَةٌ تُعْلِنُ عَنْ نَفْسِهَا فِي خِطابٍ مَا لِتُعَبِّرَ عَنْ صَوْتٍ دَاخِلِيّ فِي نَصٍّ مَا، وَهَذَا الصَّوْتُ يَسْعَى حَثيثاً وَفِي كُلِّ الاِتِّجَاهَاتِ إِلَى خَلقِ هَويّةٍ قَدْ لَا تَكُونَ لَهَا أيّة عَلَاقَةٍ بِصَاحِبِ النَّصِّ نَفْسه (2) مِمَّا يَخْلقُ نَوْعاً مِنَ القَلَقِ وَالحِيرَةِ لَدَى المُتَلَقِّي وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ نَحْوَ سَبْرِ أغوارِ الكِتَابَةِ الشَّعْرِيَّةِ وَالتَّسَاؤُلِ عَنِ الشَّاعِرِ وَعَنْ هَذِهِ (الأنا) العَجِيبَة فِي خِطَابِهِ، بَلْ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي دفعَ بِهِ إِلَى خَلقِهَا مُصَرِّحاً فِي الوَقْتِ ذاتِه وَمُعْلِناً أَمَامَ الجميع أَنَّهَا لَيْسَتْ أَنَاهَ، وَلَكِنّهَا أَحَدٌ آخر غَيْرهُ، وَهِي الفِكْرَةُ نَفْسُهَا الَّتِي سَبَقَ لِلشّاعِرِ الفرنسي "آرثر رامبو" أَنْ أثَارَهَا فِي نَصِّهِ الشَّهِيرِ "رِسَالَةُ الرّائي" (3)، إلا أنَّ القضية تزدادُ حدّةً وإشْكَالاً معَ الشّاعِرِ سعد الشلاه، فَهُو لا يعْترِفُ إطلاقا بالكُوجِيطو الدّيكَارتِي "أنا أفكّر إذن أنا موجُود"، ولا يُجيبُ مُطلقاً عَلى سُؤال المَنْ أنَا، لأنّهُ يَعْرِفُ جيّداً أنْ مَا مِنْ جَوابٍ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَلّ لِهَذهِ المُعضِلةِ، ذَلكَ أنّ كلّ صِفَةٍ أوْ دالّ مَهْمَا كَانَ جامعاً أو شاملاً فإنّهُ لنْ يدُلّ عليهِ مباشرةً، لأنّه يتمنّعُ عَلى أيّ وَصْفٍ تَمنّعاً جَوهَرِياً، فهُو صَاحِبُ اللّاأنا، وَلا شَيْءَ يَرْبِطُهُ بِأنَا رامبُو أو غيرهِ منْ بَقيّةِ الشّعَرَاءِ والتّي هيَ أنا أخرَى: (أنا عبدٌ احتضَنَ أوْرَادَهُ/ وانشغَلَ بِالفَنَاءِ) (4).
إِنَّه الفَنَاءُ هَذَا الَّذِي يَجْعَلُ مِنَ الشَّاعِرِ سَعْد يَعْتَرِفُ بِلَا مَحْدُودِيَّةِ سِياقَاتِ الحَرْفِ الشِّعْرِي الَّذِي لَا تَتَنَاهَى اخْتِلَافَاتُهُ خَارِجَ أَيّ نَصٍّ وَهُوَ أمرٌ يَكْشِفُ فِيهِ الشَّاعِرُ عَنْ ندائهِ المُسْتَمِرِّ بِتَحْرِيرِ هَذَا الحَرْفِ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ عَبْرَ الدُّخُولِ فِي حالَةِ الانْتِشاءَ المَعْرِفِيّ ثُمَّ الخُرُوجِ مِنْهَا بِغَرَضِ إبْرَاِز هَذِهِ الخَاصِّيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنْه حَرْفاً كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شأن:
(كُلَّمَا صَحَا مِنْ نَوْبَةِ الاِنْتِشاءِ / دَنا مِنْ عرشِهَا الَّذِي كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شأن) (5) وَهُوَ دُخُولٌ وَخُرُوجٌ يُؤَدِّيَانِ مَعاً إِلَى التّرْكيزِ عَلَى قُوَّةِ الكَلِمَةِ صُعُوداً وَنُزُولاً، شمالاً وَيَمِيناً، وَفِي هَذَا رَفْعٌ مِنْ سَعْد الشلاه لِلحَرْفِ الشِّعْرِيّ إِلَى مَنْزِلَةِ الحَقِّ وَاعْتِبارِهِ شيئاً لَا يُمْكِنُ إدراكُه، لِأَنَّ الشِّعْرَ كِتَابَةٌ وَالكِتَابَةُ هِي أَمْرٌ يُعَادِلُ فِعْلَ الخَلقِ وَمَا مِنْ فَرَاغِ يُكْمِلُ الشَّاعِرُ فِي الجُزْءِ الأولِ مِنْ قَصِيدَتِهِ بَوْحَهُ وَيَقُولُ:
((ذَاتَ يَوْمٍ كُنْتُ فِيه صَبِيّاً
أَعْبثُ بالأشياءِ
جَمَعْتُ بِضْعَةَ حفنَاتٍ مِنْ تُرَابِ مَدِينَتِي
بَلَّلتُهَا بِدُموعِي الجَائِعَاتِ
وَنَفَخْتُ فِيهَا مِنْ ضَيْمِي
اسْتَمَعَتْ أناملي لأنينِ الطِّينِ))
إِنَّهَا مُعْضِلَة أخرى شَائِكَة هَذِهِ الَّتِي يَرْمِيهَا سَعْدُ فِي مَلعَبِ البَحْثِ وَالنَّقْدِ وَالدّرّاسَةِ : اللهُ والكتابة: أَيُّ سُؤالٍ مَهُولٍ هَذَا؟ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الإجابةَ عَلَيهِ؟ (6).
إنَّ الإجابَةَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ تَقْتَضِي إعَادَةَ تَأسِيسِ مَوْقِفِ الكِتَابَةِ، أوْ المَوْقِف الأصليّ الّذِي كَانَ فِي عَقْلِ المُبْدِعِ قبْلَ أنْ تُصْبِحَ الكَلمةُ شِفَاهاً مُتحرّكةً أوْ جَسَداً يَتَحَدّثُ فِي دَواخِلِ الشّاعِرِ(7) أو بمَعنى آخرَ كَلمة داخلية متفجّرةً عَلى شكْل صوْتٍ لَمْ يتمَّ التّفْكِيرُ فِيهِ مِنْ قبْلُ (Cogitativum in similitudine soni) (8)، أيْ كلمة هِيَ المرآةُ وَصُورَةُ التجلّي الإلهِي فِي القلبِ؛ وسعدُ الشلاه فِي مُحَاوَلَةِ تقْريبِ هَذا المَعْنى للقارئِ يضعُ لهُ بيْنَ يديْهِ إشَارَةً تَقودُهُ إلَى أوّلِ شرْطٍ مِنْ شُرُوطِ هَذَا النّوْع مِنَ الكِتابَةِ: التحَلّي بالطّفُولَةِ، أيْ بِدَهْشَةِ السُّؤالِ وَعَفْوِيّةِ الفعْلِ والحَرَكَةِ:
"كنتُ صبيّا / أعبثُ بالأشياء"، والصِّبا والطّفُولةُ هُنا مُرادِفانِ لمَعنَى بُلوغِ الكَمَالِ الّذي هُو أقْصَرُ الأجَلَيْنِ (الشّبابُ ثم الشّيخُوخةُ) وفيهِ يصِلُ المَرْءُ إلى شجرةِ الطّور(9) ثمّ يَرْتَقِي إلى نارِ رُوحِ القُدُسِ وأفُقِهَا المُبينِ فَيدْخُلُ مَقَامَ المُكالمَةِ والفَنَاءِ فِي الصّفَاتِ، ويُصْبحُ سَمْعَ اللهِ وَلسَانَهُ وَيَدَهُ وَقَدَمَهُ: "اسْتَمعتْ أناملي لأنينِ الطّين"، وفِي هذا البيتِ اخْتزَلَ الشّاعرُ أسْطورَةَ الخلقِ (10)، التي تسْتَدْعِي حُضورَ كلّ عنَاصِرِهِ: الطّينُ (حفنات من تراب مدينتي)، الماءُ (بللتها بدموعي)، الهواءُ (نفخت فيها)، ثم النّارُ (الضيم والجوع والأنين). لكنْ مَا علاقة أسْطورَة الخَلقِ بسُؤالِ الكِتَابَةِ واللغَةِ والشِّعْرِ؟ والجوابُ سيكونُ فِيمَا يلِي عبْرَ سُؤالٍ آخَرَ:

- من أيّ أرض خرجتُ؟

بابل

مُنْذُ البِدايةِ يُعْلِنُ الشَّاعِرُ عَنْ نَفْسِهِ وانتمائِهِ فَيَقُولُ إِنَّه "شَاعِرٌ بابليّ"، وَهُوَ فِي هَذَا التّصْرِيحِ لَا تَعْنِيه أَبَداً الإشارةُ الجُغْرَافِيَّة للمَكانِ، وَلَكنْ حُمُولَتُهَا الأسْطوريّة وَعَلَاقَتُهَا بِالخَلقِ وَالخَلِيقَةِ جمعاءَ تأثِيراً وَتَأَثُّراً، لِذَا تَجِدُهُ يُبَلوِرُ قصَّةَ الوِلَادَةِ والنّشْأة بأرضِ بابِلَ لِأَكْثَر مِنْ مَرَّةٍ وَفِي أَكْثَر مِنْ نَصٍّ وَبِأَكْثَر مِنْ صِيَغَةٍ وَشَكْلٍ وَلَوْنٍ، كَرغبَةٍ مِنْهُ فِي اخْتِرَاقِ حُجُبِ الحُدودِ المَكَانِيَّةِ وَالزَّمانِيَّةِ وَالدُّخُولِ إِلَى قَلبِ الكَوْنِ الَّذِي هُوَ قَلبُ الإنسانِ (11)، فَيُصْبِحُ فَاعِلَ بَلبَلَةٍ وَتَفْكِيكٍ وَحَيْرَةٍ وَسَطَ بابِل ـ القَلب؛ أَوْ بابِل ـ مَدِينَةُ اللّه، ذَلِكَ أَنَّهُ وَحْدَهُمَا الحَيْرَة والتفكيك قَادِرَانِ عَلَى خَلخَلَةِ نظامِ الأنساق وإعطائِهِ مَعَنَاهُ، وَهُمَا مَعاً لُعْبَة سَعْد المُفَضّلَةُ دَاخِلَ بُنى نُصُوصِهِ وَكِتَابَاتِهِ، لِأَنَّه صُوفِيٌّ لَهُ مِنْ العُمْقِ الكَافِي مَا يَجْعَلُهُ يَعِي بِأَنّ كُلَّ نظامٍ وَبِنَاءٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَقَّقَ إلّا عَبْرَ الخَلخَلَةِ والحَلحَلة والتّحَللِ والتفْكِيكِ، وَفِي هَذَا نَوْعٌ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى نَفْسِ النَّفْسِ بِهَدَفِ اِسْتيعابِهَا وَجَعْلِهَا مَرْكَزاً قَادِراً عَلَى إبرازِ جَوْهَرِهِ مِنْ تِلقَاءِ ذاتهِ وَهِي الفِكْرَةُ نَفْسُهَا الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا فِي قصائد غَيْرَ هَذِهِ كَتَبَهَا فِي فَتَرَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ وَمُخْتَلِفَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ كَـ (قمْرِيَّة وَوَاقَفاً) وَذَلِكَ بِهَدَفِ إبْرَازِ مَا تَسْتَدْعِيهِ عَمَلِيَّةُ الخلقِ والتّخليق مِنَ الصَّبْرِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الحَمَامَةِ القُمرِيَّةِ كَمَا أَسْمَاهَا الشَّاعِرُ، الَّتِي لَا بُدّ لَهَا مِنْ وَقْتٍ كَافٍ تَتَحَلَّلُ فِيهِ وَتَتَشَكَّلُ كَيْ تَظهَرَ عَلَى صُورَتِهَا الحَقِيقِيَّة: نُوراً صَافِياً يَسُرُّ النَّاظِرينَ (12).

وحيرةُ هذهِ الحَمَامةِ القمريّةِ هِيَ سَبِيلهَا الوَحِيدُ للتّحَرُّرِ مِنْ شِبَاكِ الارْتِبَاكِ والبَلبَلةِ، أمّا رفضُها لِلتّيهِ والسّؤَالِ فَهُوَ خَطِيئَةٌ عُظمَى لأنَّ فِيهَا كِبْرٌ وَكِبْريَاءٌ وَغُرُور كَذاكَ الذِي أصَابَ فرعونَ حِينمَا أرَادَ أنْ يَمْلِكَ المَعْنَى وقالَ: (يَا هامَان ابْنِ لِي صَرْحاً لعلّي أبْلُغُ الأسْبَابَ) (13) أو كذاكَ الّذِي ابْتُلِيَ بهِ قومُ النّمرود حينمَا أرادُوا أن يمْلكوا اسماً خاصّا بِهِم ودَالّا عليهِمْ (وَقَالُوا: هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَة وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَع لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلّا نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ)(14).
فَهَلْ وَقَعَ سَعْدُ الشلاه فِي هَذا المَأزِقِ أو فِي جَريرَةِ رَفْضِ الحِيرَةِ باعْتِبَارِهَا طَريقاً لليَقينِ بِاللهِ؟ لا، هُو الجوابُ القاطعُ وقصيدتُه ((لن)) هي الدّليل الدّامغ:
((ذات عروج
وبينما كان يشدّ زمامَ قلمه البُراق
كتبَ بحروفٍ يؤطّرها أنينٌ خفيّ
لن يكونَ له شأنٌ باليوم الذي أنتِ فيه
ولن يغادرَ أبداً دائرةَ هذا التيه
فقد أدمن همومَه الملوناتِ بالنسيان
فخذي قبسَكِ وعصاكِ ودعيه
يتوارى خلف النقاط والحروف
أيتها المتشبّثة بأهدابِ النجوم
لن ينظرَ بشوقٍ لإشاراتِك الكرزية الشفاه
ولن يشارككِ المنشوراتِ بعد الآن
سيُشرك بكِ ولن يطلبَ رحمةً أو غفرانا
فهو ما زال طفلاً يحبو بين المقامات
وبصدره جبلٌ من العشق لا يُخفيه
وجبلٌ من الأسى لا يقبلُ التشبيه
على الرغم من تجاعيد رأسه المتمسك بالحياة
والتهابِ فؤادِه الذي أنتِ فيه))
اسْتَهَلَّ الشَّاعِرُ نَصَّهُ بـِ (ذَاتَ عروج) وَالعِبَارَةُ فِيهَا إشارةٌ إِلَى الصَّرْحِ أَو البُرْجِ فرعونياً كَانَ أَوْ بابليّاً لَا فَرْق، إِذِ الصَّرْحُ أَوِ البُرْجُ مَا هُمَا إلّا رَمْزَيْنِ لِلرّغبَةِ فِي العُروجِ الفِكْرِيّ أَوِ العَقْلِيّ، وَبِعِبَارَتِهِ هَذِهِ يَضَعُ الشَّاعِرُ إصبعَهُ عَلَى دمّلٍ لَطَالَمَا يُؤَرِّقُ نَفْسَ الإنسانِ الَّتِي تَسْتَغْنِي عَنِ السُّلُوكِ والتّجْرِيدِ وَالمَحْوِ وَلَا تَعْتَقِدُ إلّا فِي العَقْلِ وَالفِكْرِ (قَلَمَهُ البُراق) وَهِي فِي طَرِيقِهَا نَحْوَ البَحْثِ عَنْ أَبْوَابِ الغَيْبِ وَالحَضْرَةِ الأحَديّة فَيَحْدُثُ لَهَا الاحْتِجَابُ بالأنَا وَتَخْتَفِي كَنَتِيجَةٍ حَتْمِيَّةٍ الحَقِيقَةُ مِنْ القَلبِ، وَذَلِكَ لَأَنّ الإنسانَ يَكُونُ قَدِ اِحْتَجَبَ بِرَفْضِهِ الوُصُولَ إِلَى مَقَامِ الحِيَرَةِ، تِلكَ الَّتِي يُصَابُ بِهَا كُلُّ مَخْلُوق وَهُوَ أَمَامَ المَوْقِفِ الحَقِيقِيِّ: مَوْقِفُ اللهِ .
الشَّاعِرُ إِذَنْ يَعَي تماماً بِأنْ مَا مِنْ طَرِيق إِلَى اللهِ سِوَى البَقاءِ دَاخِلَ دَائِرَةِ التِّيهِ (وَلَنْ يُغَادِرَ أَبَدًا دَائِرَةَ هَذَا التِّيهِ / سَيُشْرِكُ بِكَ وَلَنْ يَطلبَ رحمَةً أوْ غُفْرَاناً): كَيْفَ لَا وَمَعْرِفَة سرِّ السرِّ تُؤَدِّي إِلَى انمحاق النَّفْسِ وَمَحْوِ الذاتِ دُونَ رَحْمَةٍ أَوْ غُفْرَانٍ، فَالمَرْءُ حينما يَتَذَوَّقُ حَلَاوَةَ المَعْشُوقِ يَعْجِزُ عَنِ الحَديثِ فِيه أَوْ عَنْه وَيُصِيبُهُ الضُّعْفُ مَا إِنْ ينْفذُ إِلَى عَقْل الحَقِّ الَّذِي يَمْلَأ عَلَيهِ كُلَّ مَكَانٍ وَزَمانٍ، فيَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ طِفْلٌ مَغْمُورٌ فِي بِحارِ اللّاحوْلِ واللّاقُوّة (15) (فهو ما زال طفلاً يحبو بين المقامات/ وبصدره جبلٌ من العشق لا يُخفيه/ وجبلٌ من الأسى لا يقبلُ التشبيه): إنّهَا نوْعٌ مِنْ حَالَةِ الانْصِعَاقِ التِي تَخْتَفِي مَعَهَا الحُروفُ وَالعِبَارَاتُ.

- ابنُ من؟

سعدُ ابنُ الشّمْسِ والقَمَرِ

يَبْدُو جَوَاِبي عَلَى سُؤالِ (اِبْنِ مَنْ؟) مُحَيِّراً أَوْ فِيه نَوْعاً مِنَ التّجَاوُزِ للأعْرافِ المَألوفَةِ فِي نِسْبَةِ إنسانٍ مَا لأبَويْهِ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ ولَقَبِ كُلٍّ منهُما، وَلكنْ لَيْسَ هَذَا الَّذِي يَعْنِي المُتَلَقِّي أَوْ يعنينِي وَنَحْنُ مَعاً فِي مَقَامِ الإشارةِ وَوَقْفَةِ رَفْعِ الحُجُبِ عَنْ السِّتارَةِ. وَلَعَلَّ أولَى الخُطوَاتِ الَّتِي يُسْتَحْسَنُ اِتِّبَاعُهَا لِضَمَانِ سَلَامَةِ المَشْي فَوْقَ حَبْلِ الكَشْفِ هِي الرُّجُوعُ إِلَى الصُّورَةِ الإيضاحيةِ أعلاه:( صُورَةُ بابِل ـ الحِيرَة والتفكيك):
فِي المَقْطَع الأوَّلِ مِنْ قَصِيدَةِ (أنا شاعر بابلي) يقُولُ سعد الشلاه مَا يَلِي:
((فانتشرَ نوْحُ أبي المصاب بالتدرن المذهبي
وانطلقتْ صرخات اللصوص
امسكوه ... قيدوه ... عذبوهُ ثم اقتلوه
وكالطيف دنتْ منّي عشتارُ
قبّلتْ جروحي وابتسمت
وأسدلت الستائرَ على الضمائر
فتوارى اللصوص ليمتهنوا الدجل))
فِي البَيْتِ الأوّلِ مِنْ هَذَا المَقْطَعِ تَظهَرُ جَلِيَّة كَلِمَة (أَبِي)، لَكِن مَا لَيْسَ بِجَلِيّ هُوَ مَوْقِعُهَا مُبَاشَرَةً فِي الجُمْلَةِ بَعْدَ لَفْظةِ (نَوْحُ):
يَعُودُ سَعْدُ الشلاه فِي هَذَا البَيْتِ إِلَى لُعْبَةِ المُشَاكَسَةِ والتّفكِيكِ بِغَرَضِ اسْتِفْزَازِ طَاقَاتِ وَقُدُرَاتِ المُتَلَقِّي الدَّاخِلِيَّةِ، وَهِي تِقْنِيَّة تَدْفَعُ إِلَى طَرْحِ السُّؤَالِ التَّالِي: لمَاذا قَامَ الشَّاعِرُ بِتَشْكِيلِ كَلِمَةِ (نَوْحُ) كَامِلَة دُوناً عَنْ بَقِّيَّةِ مُصْطَلَحَاتِ المَقْطَعِ الشِّعْرِي؟
مَا مِنْ شَكٍّ فِي أنَّ دَافِعَهُ الرَّئِيس هُوَ رغْبَتُهُ الدّفِينَة فِي تَمْييزِهَا عَنْ اسْمِ صَاحِبِ قِصَّةِ الطّوفَانِ نَبِيِّ اللهِ (نُوح)، وَبِمُجَرَّدِ بزوغ هَذَا الاِسْمِ تَبْدَأ المَعَانِي مِنْ جَديدٍ مُغَامَرَةَ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ وَتَدْخُلُ فِي دَوَّامَةٍ مِنَ الطَّاقَةِ التَّفَاعُلِيَّةِ المُبَلْبِلة وَالمُفَكِّكَةِ، فَيُصْبِحُ ذَاكَ الَّذِي أَرَادَ الشَّاعِرُ أنْ يُخْفِيَهُ هُوَ العَلامَةُ الظّاهِرَةُ فَوْقَ بِنْيَةِ النَّصِّ بأسرهِ: نُوحُ الطُّوفَانِ / عشتارُـ الأمُومة.
هَلْ يُعْقَلُ هَذَا؟ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ نُوح هُوَ الأبُ وعشتار هِي الأمُّ؟ لَيْسَ الجَوَابُ بِهَذِهِ البَساطَةِ أَبَداً، فَالشَّاعِرُ هُنَا يَرْبِط اسْمَ أَبِيه بِاسْمِ نَبِيِّ اللَّهِ نُوح عَبْرِ فِعْلِ (النَّوْحَ) (16): كِلَاهُمَا يَنُوحَانِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ الهَمُّ الَّذِي يقِضُّ مَضْجَعَهُمَا وَهُمَا وسطَ سَفِينَةِ الجَسَدِ: مَاءُ الطُّوفَانِ، لَكِن هُنَاكَ قَصِيدَةٌ أخْرَى غَيْرَ هَذِهِ وَرَدَ فِيهَا اسْمُ نُوح مَرَّةً أخرى بِشَكْلٍ صَرِيحٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَفْرٍ عَبْرَ أَدَوَاتِ البَحْثِ وَالنَّقْدِ وَمَعَاوِلِهِ، وَالقَصِيدَةُ المَعْنِيّة بِالأمْرِ هِي قَصِيدَةُ ((حَمْدِي)) إلّا أَنّ نُوحَ المَذْكُور فِيهَا هُوَ ((نُوح البابليِّ)) (17) وَعَليْهِ تُصْبِحُ قَضِيّةُ "نوح" ذاتَ هَوِياتٍ ثلاثَةٍ: نُوحُ الشَّلاهِي، ونُوحُ القرآني ثُمَّ نوح البَابِلي (18).

لَا شَكَّ إِذَنْ فِي أنَّ هَذِهِ الأبْعَادَ الثَّلاثَة الجَديدَة فِي قَضيَّةِ نُوحٍ تَقُودُ إِلَى طَرْحِ السُّؤَّالِ التَّالِي: مَا الَّذِي يُمَيِّزُ كُلّ نُوحٍ عَنِ الآخَرِ؟ ومَاهي الفُرُوقُ أَوْ أَوْجُهُ التَّشَابُهِ بَيْنَهُمْ إِنْ وُجِدَتْ؟
أَعْتَقِدُ أنّ المُشْكِلَةَ بِرُمَّتِهَا لَنْ تُحَلَّ إلّا إذَا تَمَّ التّرْكِيزُ عَلَى رِبَاطِ الأبُوّةِ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الأبِ وَاِبْنِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الحَالَاتِ الثَّلاثَةِ مِنْ قَضِيَّةِ نُوحٍ وَالطُّوفَانِ (19).
نُوح الشّلَاهي، أوْ نُوح القُرآني، أوِ الثّالِث البَابِلي (أوتنابشتم) (20) مَاهُمْ جَمِيعاً سِوى صُورَةٍ واحدَةٍ تَرْمُزُ إلَى نُوح النّجَاةِ، نوح الحَبْلِ المَتِينِ، بَلِ الإمَامِ المُبينِ الّذِي عَلى كُلّ إنْسَانٍ أنْ يَسْعَى جَاهِداً للبَحْثِ عَنهُ عَبْرَ رُكُوبِ فَلكِ القلبِ والشّريعَة وذَلكَ لتَفَادِي الاحْتجَابِ بأنانيّةِ العَقْلِ والوَهْمِ والغَرَقِ فِي بَحْرِ هَوَى النّفْسِ وَالعَدَمِ.
إلَى هُنَا تبْدُو المَعَانِي والكُشوفَاتُ لا غُبَارَ عَليْها، ولَكنْ مَاذَا عنْ تِكْرارِ الشّاعرِ لِعِبَارَةِ ((يا ولدي)) لأكثَر مِنْ مَرّة، ولكنْ ليْسَ عَلى لِسَانِ أيّ مِنْ هَؤلاءِ "الأنْوَاحِ" الثلاثَة ذلكَ أنَّ مَنْ نَطَقَتَاهَا هُمَا "عشتار" وامرأة أخْرى تَحَدّثَ عنْهَا سَعْد الشّلاه فِي أكْثر مِن مَقامٍ وقَصِيدةٍ؟
هلْ يَضَعُ الشّاعِرُ المُتلقّي أمَامَ نِظامٍ آخَرَ مِنْ أنْظِمَةِ النّجَاة وَالحُريّة؟ إذا كَانَ الأمْرُ كَذلكَ فأيّ نَوْع هُوَ هَذا النّظامُ، وما الغرضُ مِنَ التّأسِيسِ لهُ؟
يقول عزّ وجلّ في سورة نوح:
"وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارا" (21)
وفي قصيدة (أنا شاعر بابلي) يقول سعد:
((وانطلقتْ صرخات اللصوص
امسكوه ... قيدوه ... عذبوهُ ثم اقتلوه
وكالطيف دنتْ منّي عشتارُ
قبّلتْ جروحي وابتسمت
وأسدلت الستائرَ على الضمائر
فتوارى اللصوص ليمتهنوا الدجل))
لَا تَخْلُو القِرَاءةُ بَيْنَ أحْرُفِ هَذِهِ الأبْيَاتِ مِنْ مُخَاطَرَةٍ، ذَلِكَ أنَّ الأمْرَ يَتَعَلَّقُ بِمَا أُسَمِّيهِ بِالتَّوَغّلِ فِي أدْغَالِ النَّصِّ وأحْرَاشِهِ لَيْسَ بَحْثاً عَنِ المَعْنَى وَلَكِنْ لِدُخُولِ خلوَة القَارِئِ وَمُخَاطَبَتِهِ بِعِلوِ الصَّوْتِ: حَذَارِ، لَا تَسْتَسْلِمْ لِلَذَّةِ البَوْحِ وَخَدَرِ المُتْعَةِ بَيْنَ مُرُوجِ هَذَا الدِّيوانِ الغنّاءة: هُنَاكَ أشياءٌ أخْرى تَحْدُثُ بَيْنَ أَحْراشِهِ بيْنمَا أنْتَ مُسْتلقٍ عَلَى السَّرِيرِ أَوِ الأرِيكَةِ تَقْرَأ صَفَحَاتِهِ بِنَهَمٍ: هُنَاكَ قَارِئٌ آخر غَيْركَ؛ قَارِئٌ مُشَاغِبٌ بِلِبَاسِ جَدّةٍ حَكِيمَةٍ، خَلَقَتْهُ لَكَ حِنْكَة الشَّاعِرِ وسطَ أبياتِه كَيْ يُشَاكِسَ بِهِ لَيْلَاكَ أَوْ طِفْلَةَ الغَوْصِ الحَمْرَاء بِدَاخِلِكَ (22)، وَقَدْ يَأخُذُكَ إِلَى طَرِيقٍ أخْرَى غَيْرَ تِلكَ الَّتِي تَعْتَقِدُهَا الأأمَنَ والأسْلَمَ . لاضَيْرَ إِذَنْ، مَا عَلَيكَ سِوَى أَنْ تَسْتَقِيمَ الآنَ فِي جلستِكَ وَتشْحذَ كُلَّ مَا فِيكِ مِنْ قُدُرَاتٍ وَتَبْدَأ مَعِي فِي اللّعَبِ وَفْقاً لأبْجَدِيّاتِ شطَرَنْجِ القِرَاءةِ الَّتِي تَتَطَلّبُ مِنْكَ الوُصُولَ إِلَى أبْعَدِ نُقْطَةٍ فِي الغَابَةِ للعُثورِ عَلَى صَوْتِ الشَّاعِرِ وَتَحْدِيدِ أدَواتِهِ وأسَاليبِه فِي الكِتَابَةِ (23) دُونَ أنْ تَسْقُطَ فِي الفِخَاخ الَّتِي سَيَنْصِبُهَا لَكَ "القَارِئُ المَاكِرُ" ذَاكَ الَّذِي يَسْكُنُ بَيْنَ ثَنَايَا النُّصُوصِ والأبْيَاتِ، أيْ دُونَ أَنْ تُهْمِلَ قُوَّةَ الكَلِمَةِ وَطَاقَتَهَا الدَّاخِلِيَّةِ حَتَّى لَا تُبْتَلَى بِالوُقُوعِ فِي شِراكِ اللّوغُوس وَسُلطَتِهِ المُسْتَبِدَّة فَتُصْبِحَ ضحيَةً لَكُلِّ أنْوَاع القَمْع الّتِي سَتُقَيّدُ حَرَكَتَكَ دَاخِلَ أدْغَالِ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ الشِّعْرِيَّةِ (24).

يَتَحَدَّثُ نُوح (ع) عَنِ الكَافِرِينَ وَيَصِفُهُم بِالضَّالِّينَ، وَيَتَكَلَّمُ سَعْدُ الشلاه عَنِ اللُّصُوصِ وَيَنْعَتَهُمُ بِالدَّجَّالِينَ: فَمَنْ هُمُ يا تُرَى هَؤُلَاءِ الكَافِرُونَ وَعَنْ أَيِّ دَجَّالِينَ يَتَحَدَّثُ سَعْد؟ وِفْقَ مَا سَبَقَتِ الإشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الجُزْءِ المُتَعَلِّقِ بِنُوحِ النّجاةِ أَوْ نُوحِ الإمَامَةِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ كَافِر هِي مُعَادِلَة لَكُلِّ مِنْ رَفَضَ بِكِبْرِهِ وَكِبْرِيَائِهِ الغَوْصَ فِي بَحْرِ الإخْلاصِ الَّذِي هُوَ بَحْرُ الحِيرَةِ وَالتِّيهِ، وَكَلِمَة "كَافِر" بِمعنَى غَيْر المُؤْمِنِ تَأتِي مِنَ الجِذرِ العَرَبِي "كفَرَ" أيْ غَطّى وَحَجَبَ الحَقِيقَةَ فِي قَلبِهِ فَرَفَضَ مَوْقِفَ اللهِ وَاسْتَعْصَمَ بِالعَقْلِ خَوْفاً مِنْ بَحْرِ الهُيُولَى كَمَا فَعَلَ قَوْمُ نوح، فَحَقَّ عَلَيهُم نَعْتُ نُوحٍ لَهُم بِالضَّالِّينَ، وَالضَّالُّ هُوَ ذَاكَ الَّذِي يَرْفُضُ كُلَّ شَيْءٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُودَهُ إِلَى عَالَمِيَّةِ العَالَمِ (The Worldhood of the World) (25) لِأنَّهُ يَخَافُ مِنَ الضُّعْفِ وَالعَجْزِ أَمَامَ كَثرَةِ التّجَليَاتِ وَتَنَوُّعِهَا، وَخَوْفُهُ هَذَا يَنْبَعُ مِنَ القَلَق عَلَى أنْ يَضِيعَ زِمامُ السَّيْطَرَةِ وَالسُّلطَةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَهَذَا هُوَ أسُّ كُلِّ تَفْكِيرٍ اِسْتِبْدَادِيٍّ وَطغْيَانِيٍ عَلَى الأرْضِ، أيْ التّفكيرُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالتَّنَوُّعِ وَالاخْتِلَافِ وَلَكِنْ بِسُلطَةِ اللُّغَةِ الوَاحِدَةِ وَالدِّينِ الوَاحِدِ المُطلقِ حَتَّى وَإِنْ كَانَ رِجَالُ وَمُنَظّرُو هَذَا الفِكْرِ مِمَّنْ يُعْلِنُونَ جَهْراً التَّوْحِيدَ والإيمانَ بِاللهِ، لَكِنَّ قُلوبَهُمْ أقْسَى مِنَ الصَّخْرِ، وَإِنَّ مِنَ الصَّخْرِ لَمَّا يَتَشَقّقُ وَيَتَصَدَّعُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ: ((قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (26) وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ الشَّاعِرُ سَعْد الشلاه بـِ "اللُّصُوصِ" الَّذِينَ يَصْرُخُونَ: "امْسكُوهُ ... قَيّدُوهُ ... عَذِّبُوهُ ثُمّ اقْتُلوهُ "، أيْ اقْتُلوا فِيه كَلِمَةَ اللَّهِ وَدَعُوهُ يَغْرق مَعَنَا وسطَ أمْواج الهَوى وَبِحَار الطَّبْعِ الحَاجِبَةِ لِنُورِ الحَقّ، كَيْفَ لَا وَهُم يَعْشَقُونَ الظُّلمَ وَالغَدْرَ وَالرَّمْيَ بِالرَّصاصِ (27) وَصَوْتَ اسْتِلالِ السّيوفِ وشَخِيرَ الدّمَاءِ (28)
لَكِن فِي خِضَمِّ بَحْرِ الطَّبِيعَةِ النَّفْسِيَّةِ الشِّرِّيرَةِ الأمَّارَة بِالسُّوءِ، تَمْتَدُّ يَدُ عَشتَار كَالبَلسَمِ كَيْ تُضمّدَ جِراحَ الشَّاعِرِ اليُونُسِيّ الحَرْفِ بَعْدَ أَنْ لَفَظَهُ حُوتُ الغَمِّ وَالشَّقَاءِ، فَيَتَوَارَى اللّصُوصُ وَيَبْتَعِدُونَ عَنْه وَيَعُودُونَ إِلَى الاِنْشِغالِ بِإفْكِهِم وَدَجلِهِمْ، فَمَنْ تَكُونُ ياتُرى عشتار هَذِهِ فِي نُصُوصِ الشَّاعِرِ؟
إنّهَا رَمْزُ "الأنُوثةِ المُؤلّهَةِ" (29) بِدُونِ مُنازِع، حاضِرة فِي وَعْي ولاوَعْي الشّاعِر بِكُلّ صُورِها وَتجَليَاتِهَا: فهِيَ الأمُّ المِعْطَاءة، والزّوجَة الحَانِيَة والابْنة الرّاعِية، والحَبيبَة العَاشقَة، وَهُو بالمُقابِلِ الابنُ الصّالح (30)، والزّوجُ الحَنونُ، والأبُ الوَاعِي الرّؤوفُ (31)، والعَاشِقُ المُتيّمُ (32).
وَفِي الدِّيوانِ تُوجَدُ صُوَرَةٌ عَشتَارِيّة بِعَيْنِهَا حَظِيَتْ باهْتِمَامٍ خَاصٍّ مِنْ طَرَفِ الشَّاعِرِ، وَهِي صُوَرَةُ عشتار القَيُّومَةَ، وَتُوَجدُ فِي قصائد مُحَدّدَةٍ دُوناً عَنْ غَيْرِهَا كَقَصِيدَة ((أُمِّي)) و((شَهْقَة الجَمْرِ)) و((كَفّ أمِّي)) و((قُمْرِية)) و((سَبعُ سَجدَاتٍ طِوَال))؛ فَقَصِيدَةُ ((أمِّي)) عَلَى سَبِيلِ المِثالِ لَا الحَصْرِ، تُعَدُّ نَصّاً شِعْرِيّاً باذِخاً، جمَعَ فِيه الشَّاعِرُ خُلاصَةَ تَجْرِبَتِهِ الحَيَاتِيَّةِ جمْعاءَ وَحَدَّدَ فِيه طَبِيعَةَ أَسْرَارِ عَلاقَتِهِ بأنُوثة الكَوْنِ الَّتِي وَرثهَا عَنْ ((أمِّهِ)) حافِظَة سِرّ القُدْسِيَّةِ وَالعَارِفَة بِشُؤُونِ الحَرْفِ وَالنُّقطَةِ. إضافة إلى أنَّهُ نَصٌّ زاخِرٌ بِالمُفَارَقَاتِ وَالاِنْزِياحَاتِ العَجِيبَةِ الَّتِي تَقُودُ مُبَاشَرَةً إِلَى القَصِيدَةِ الأخيرةِ مِنْ الدِّيوانِ، وَأعْنِي بِهَا ((وَاقَفاً)): كَيْفَ ذَلِكَ؟ هَذَا مَا سَتَتِمُّ الإجَابَة عنه عَبْرَ الآتي مِنْ التفكيكِ:

آدَابُ الوُقوفِ فِي حَضْرَةِ (الأمِّ)

عِبارَةُ (قالتْ أمِّي) هِي مِفْتَاحُ هَذِهِ القَصِيدَةِ، لِأنَّهَا تَحْمِلُ أبْجَدِيّات الخِطَابِ العُلوِيِّ بِكُلِّ حُمُولَاتِهِ التَّعْلِيمِيَّةِ والتّأدِيبِية وَالتَّطهِيرِيَّةِ لِسُلوكِ العَبْدِ وَهُوَ فِي طَرِيقِ بَحْثِهِ عَنْ "عشّ السُّنُونُو": لِذَا تَجِدُ الشَّاعِرَ يُحَدِّدُ هَذِهِ الأدَبِيات وَالسُّلوكِيَاتِ دَرَجَةً دَرَجَة عَلَى لِسَانِ أمِّهِ العَشْتَارِيّة القَيُّومَةَ كَمَا يَلِي:
- الانتظار:
إذا بَلغَ الإنسانُ مَرْحَلةَ الكَمَالِ (33) أدْرَكَ أنَّ مِنْ أولَى أدَبيَاتِ هَذَا المَقَامِ هِيَ الانْتِظارُ الّذِي يُرافِقهُ الصَّمْتُ ثمّ الإنْصَاتُ، فالابْنُ يُريدُ، و"الأمّ" تُوَجِّهُ وتصَحّحُ السُّلوكَ، وَالنّتيجَة تكُونُ: الإنْصَاتُ، ثمّ الامْتِثالُ لدَرْسِ الانْتِظَارِ حَتّى يَتَحَقّقَ الإلقَاءُ ويَبْدَأ الخِطابُ فِي الاكْتمَالِ دَاخِل النّصِّ:
(((7)
ذات يومٍ كان في بيتنا عشٌّ لسنونو
انتظرتُ ووضعتُ طاولةً خضراءَ تحتهُ لأطولَه
لا، حبيبي، بيتُ ابنيَ المسافر
سيعودُ ذاتَ يومٍ قالت أمّي )).
- الدُّنُو وَالاقْتِرَابُ:
وَهُوَ مَقَامُ الصَّفَاءِ وَالخِلَّةِ وَالعِشْقِ، وَلَا يُدْرِكُهُ الإنسَانُ إلّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اِنْتَبَهَ إِلَى عُيُوبِ النَّفْسِ أَوْ (الجَارَةِ) (34) كَمَا أَسْمَاهَا الشَّاعِرُ عَبْرَ مِحْنَةِ الجَسَدِ التّرَابِي وَرَغَبَاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ، فَيَسْعَى إِلَى تَطهِيرِهَا وَصَقْلِ مِرآتها حَتَّى تَنْهَلَ مِنْ أَنْوَارِ القَابَ قَوْسَينِ أَوْ أدْنى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ عَلَى لِسَانِ اِبْنِ خَالِهِ الرَّاحِل حَمْدِي (35) فِي نَصّهِ ((واقِفاً)):
((وإياكَ أنْ تجعلَ هواكَ يطوفُ بك بعيدا
تذكرْ أن تخلعَ جسدَك عند جذعها وكنْ عليّا)).
ــ الجثو:
وَهُو مَقامُ سَجْدةِ الفَرحِ والهيَامِ وفِيهِ يَقفُ العَبْدُ عِنْدَ بوّابة النّجاةِ أوِ البَوّابَةِ الفَيْرُوزيّة (36) التِي تَخْتَفِي عِنْدَهَا كُلّ ضِدّانيةٍ وسَوائِيةٍ أوغَيْريَةٍ:"قالتِ الجارةُ أمك، فَجَثوْتُ"، والجثوُ هُنا بِمَعْنَى الوُقوف، الذي هُو وُقوفٌ معنَويّ، لا شأنَ لهُ بالجَسدِ الحِسيّ أو اسْتقَامتِه، إذِ الوُقوفُ المَعْنِي بِالأمْر هُنَا هُو حَالة مِنْ حَالاتِ التّواضُع والأدَبِ والاستعْدادِ المعنويّ لتلقّي هَذا الخِطابِ الإلهِي كمَا هُو ظَاهر فِي هَذا البيْت الشّعرِي: "أمسك يدي وأوراقها الصوفية الخضراء وقال: قف هناك بين سعفات النخلة البرحية" (37):
لَاحِظ مَعِي هُنَا مَرَاحِلَ تَطَوُّرِ وَتَحَوُّلِ الخِطابِ بَيْنَ النَّصِّ الأوَّلِ ((أمِّي)) وَالنَّصِّ الثَّانِي ((وَاقَفاً))، أيْ كَيْفَ أَنَّ "عشَّ السُّنُونُو" أصْبَحَ مَكَانُهُ فِي" النَّخْلةِ البرحِيَّة"، وَكَيْفَ أَنّ "الطَّاوِلَةَ الخَضْرَاء" أَصْبَحَتْ هِي يَد الشَّاعِرِ وأوَراقها الصُّوفِيَّة الخَضْرَاء، بَلْ كَيْفَ أَنّ السُّنُونُو مَا هُوَ إلّا ذَاكَ الطَّائِر الَّذِي أَشَارَ إِلَيه الشَّاعِرُ فِي ((خطوَاتٍ وَهْمِيَّةٍ مَعَ النّوَّاب))، وَهِي قَصِيدَةٌ كُتبَتْ بَعْدَ نَصِّ ((أمِّي)) بِبِضْعِ سنواتٍ: "إِنِّي أسْتَحِي مِنْ دُموعِ نَخْلَتِنَا (الخستاوية)/ الَّتِي قَمَّطَتْهَا أمِّي بِلِحَافِي ذَات شِتَاءٍ/ وَهِي تَرْنُو إِلَيّ كُلَّ لَيْلَةٍ / فَقَدْ اعْتَادَتْ أَنْ تَهُزَّ جِذْعَهَا فَتُسَاقط / آخرَ زَقْزَقَةٍ لِعُصْفُورٍ عَادَ / لَهَا بَعْدَ رِحْلَةِ بَحْثٍ عَنْ زَمَن"، وَبِهَذَا تَتَّضِحُ الرُّؤْيَا وَيُصْبِحُ البَيْتُ الَّذِي تَحَدَّثَ عَنْه سَعْد فِي قَصِيدَةِ ((أمِّي)) هُوَ النَّخْلَة الخستَاويّة، التِي مَا هِي سِوَى رَمْز لِلوَطَنِ الكَبِيرِ والأرض الطّيبَةِ، أَمَّا العُصْفُورُ أَوْ طَائِرُ السُّنُونُو، فَمَا هُوَ إلّا الشَّاعِر نَفْسهُ الّذِي حينمَا يَشْدُو لِنَخلَتهِ الدّامعة:"(هَذَا الحِلو كاتلني ياعمّة)"، تَتكِّأ بِعُذُوقِهَا عَلَى كَتِفَيْهِ وَتَحْنُو عَلَيهِ أمّاً مِعْطَاءة، فَتَحْضُنُهُ وَيَحْضُنُهَا، وَتُدْنِيهِ مِنْ فَسَائِلِهَا كَيْ تُسْمِعَهُ أَنِينَهَا وآلامَها وَتَرْجُوهُ أنْ يرْوِيَ بِمَحِبَّتِهِ وَعِشْقِهِ العَظِيميْن عَطَشَ سَعَفَاتِهَا الحَزِينَةِ (38).
سَعْدُ الشلاه عَبْرَ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلاثَةِ (أُمِّي / خَطوَاتٌ وَهْمِيَّة مَعَ النّوَّابِ / وَوَاقِفاً) يُسَطِّرُ المَسَارَ التَّارِيخِي لِفِكْرَةِ الأمُومَة المُؤلّهَة الَّتِي عَبْرَ رَمْزِ عشتار تَجِدُهَا فِي الدِّيوانِ تَتَحَوَّلُ وَتَنْتَقِلُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَأَنّ كُلَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا نَاتِجٌ عَنْ حَرَكَتِهَا الفِكْرِيَّةِ التِّلقائِيَّةِ وإرادَتِهَا المُسْتَقِلَّةِ فَإِنَّهَا تُغَذِّي وَتَحْضُنُ أَبْنَاءَهَا جَمِيعاً، فَتُهَذِّبُ طفُولَةَ الإنسانِ فِيهُم وَتَمْنَحُهُمُ الدِّفْءَ وَالأَمْنَ والأمَانَ، وَتُتَوِّجُ بِذَلِكَ نَفْسَهَا عَلَيهُم أمَّهُمُ الكُبْرَى وَبَحْرَهُمُ اللَّبَنِيّ الأزَليّ بَلْ قُبَّتَهُم الزَّرْقاءَ الَّتِي تَنْشُرُ غِطَاءَهَا وَتَنْثُرُ نُجُومَهَا عَلَى الجَمِيعِ، وَتَسْطَعُ عَلَيْهِم كُلَّمَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ قَمَراً شَفيفاً وَأَرْضاً سَمَاوِيَّةً (39) عبّر الشّاعرُ عن نقائِهَا وسُمُوّهَا فِي قصِيدَتهِ ((شهقَة الجَمْرِ)) بشكلٍ راقٍ وباذخٍ فقَال:
((بَعْدَ انتصافِ كل ليلةٍ
وعبْرَ نافذة غُرفتِي الشّرقية الصّغيرة
يُطلّ علَي
قمرٌ كأنّهُ نهدُ قميصٍ شفيفٍ
أمتزجُ بنورِه المُتبقّي
فنشكّلُ لوناً سرمدياً
يخطفُنِي
يُطهّرنِي مِن هُمومِي التي ادخرتُها سنين طوال)).
هُوَ القمَرُ أمّ الإنْسَانِ الأسْطورِيّة التِي تتحَدّى ليْلَ النّفْس فتُسَيْطرُ عَلى غُمُوضِهِ وظَلامِهِ البَصَري والبَصِيري وتُطهّرُهُ فِي ختامِ المَسارِ منْ هُمُومِهِ البعيدَةِ والقَريبَةِ (40)، وَلا غَرابَةَ فِي هَذا والأسَاطيرُ القديمةُ تحكِي كيْفَ أنّ الإنسانَ الأوّلَ جَسَّد أمّهُ أو عشتارهُ الكُبْرَى وَربَطَهَا فِي ذِهْنِه بالقمَرِ الذِي يَبْدَأ هِلالاً نَحيلاً ثمّ يأخذُ فِي الاكْتِمَالِ حتَّى يَسْتدِيرَ مُحيطهُ ويَتوسَّطَ قُبّةَ السّمَاءِ بَدْراً سَاطِعاً مَهِيباً، مِثلهُ فِي دَوْرَتِهِ هَذِهِ مِثْلَ دَوْرَةِ جَسَدِ الأنْثَى (41)، وَلَعَلّ فِي هَذا التّشَابُهِ سَبباً كَافياً كَي يُصْبِحَ القَمَرُ أنْثى كَونيّةً عظِيمَةً بِحقٍّ وَوَجْهاً أمُومِياً مُشرِقاً حَانياً وَبَليغَ العَطفِ والكَرَمِ (42).
إنّها النّونُ القمَريّة هذه التِي ظهَرتْ فِي النّصِّ الشّلاهِي وَتجَلتْ بِكُلّ صُوَرِ الأمُومَة المُؤَلّهَةِ، فتجدُهَا تارةً تأخُذ وجْهَ أمِّ الشّاعِرِ الرّحِمِيّة، وَتارَةً وجْهَ زوْجَتِهِ (43)، وَتارَاتٍ أخرَى وجْهَ فينُوس وبلقيس (44) وتارةً رابعَةً وجْهَ السّيدَة العذْراء (45)، كيفَ لا وَقدْ أعَادَتِ الدّيانَةُ النّصرانيّة لِهَذهِ النّونِ القَمَريّة أوِ الأمّ الكُبْرَى سُلطَانَهَا عَبْرَ صُورَةِ مَرْيَمَ بنتِ عِمْران، وجعلتْ مِنهَا أمّاً كَونِيّةً اقترَبَتْ مِنَ البَشَرِ وَتَجَسَّدَتْ فِي عَالمِهِم عَبْرَ جَسَدِهَا الأمُومِي وَمَنَحَتهُم بِرحْمَةٍ وَلطفٍ وَكَرَمٍ مِنَ الخَالقِ طِفلهَا عِيسَى (ع) كَيْ تَبقَى فِيهِم إلَى أنْ يرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عَليْهَا (46).
وها قَدْ أَوْقَفْتُكَ بِمَقَامِ نُون القَمَرِيَّةِ أَيُّهَا القَارِئُ الكَرِيمُ أَصْبَحَ الآنَ أمْراً لَا بُدّ مِنْهُ الجَوَابُ عَنْ سُؤَالٍ مَا فَتِئَتْ تَضْرِبُ مَطَارِقُهُ مُنْذُ عُنْوَانِ هَذِهِ الدِّرَّاسَةِ (47): مَا الَّذِي تَعْنِيهِ هَذِهِ النُّونُ القَمَرِيَّةُ فِي عُمْق أعْمَاقِ البِنْيَةِ الدَّاخِلِيَّةِ لِقصائدِ هَذَا الدِّيوانِ؟ هَذَا مَا سَتَتِمُّ مُقَارَبَتُهُ عَبْرَ اليُوسُفِيَّةِ الثّانِيَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّرَّاسَةِ .


(2)
اليُوسُفيّة الثانيَة
فِي حَضْرةِ الكَفِّ


- السّبّابَة

فِي هَذا الدّيوانِ تُوجَدُ ثَلاثةُ نُصُوصٍ لا يُمْكِنُ قِراءَةُ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي مَعْزلٍ عَن الآخَر، وَأعْنِي بِهَا نصّ ((كفّ أمّي)) وَ((سبْعُ سَجَدَاتٍ طِوالٍ)) (48)، ثُمَّ قَصِيدَة ((قَسْطرَة))؛ وَهِي كُلّهَا نُصُوصٌ يَتَجَلّى فِيهَا مَوْقِفُ سَعْد الشلاه مِنَ الكَوْن وَالخَلق، فَهُوَ يَرَى فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ فِي الوُجُودِ تَجلٍّ مِنْ تَجَلّياتِهِ عَزّ وَعلا، لِذَا، تَجِدُهُ يَرْتَفِعُ بِحِسِّهِ الصُّوفِيّ المُرْهَفِ فَوْقَ الشَّكْلِ الفَانِي الظّاهِر لِأيّ نَصٍّ مِنْ نُصُوصِهِ تَكُونُ قَدْ تَمَّتْ قِرَاءتُهُ بِشَكْلٍ أَوْ بآخر عَبْرَ الاِكْتِفَاءِ فَقَط ببِنيَتِهِ الخَارِجِيَّةِ، فَالشَّاعِرُ يَغُوصُ بِبَصيرَتِهِ فِي قَلبِ الأشياءِ لِيشْهدَ عُمْقَهَا المُحْتجبِ وَراءَ لاشَكْلِ الظّاهِر، وَلِهَذَا السَّبَبِ تَجِدُ أنّ العَالَمَ اللّامُتنَاهِي عِنْدَهُ يَمْتَدُّ أَمَامَ قلبِهِ وَيُصْبِح مَرْئياً عَلَى نَحْو لَا مَثِيلَ لَهُ مِنَ الوضوح فَتُطوَى المَسَافَاتُ أَمَامَه وَتَتَّحِدُ الحُدودُ وَيُصْبحُ كُلُّ شَيْءٍ فِي بَوْحِهِ لَا يَتَحَدَّثُ إلّا عَنِ اللهِ، وَهَذَا هُوَ مَا سَتتِمُّ مُعَايَنَتُهُ فِي هَذِهِ النّصُوصِ وفْقاً لِمَا يَلِي مِنَ الحَفْرِ والغَوْصِ فِي البنيَةِ الدَّاخِلِيَّةِ لَهَا (49).

- فِي نَصِّ ((كَفّ أمّي)) يَرْفَعُ الشّاعِرُ مِنْ قِيمَةِ الأمُومَة إلى أعْلى دَرَجَاتِ الجَمَالِ والقدَاسَةِ، فَيَنْعَتُ أمّهُ بالزّهْرَةِ ثمّ بِالشّمْسِ، وَفِي مَقْطَع (سَجْدَة الفَرَح) تَعُودُ هَذهِ الصّفَة مِنْ جَدِيدٍ للظّهُورِ فَيُسَمِّي أمَّهُ باسْمِهَا الحَقيقِي ويُنادِيهَا بِعشتَار ثمّ ينعتُها مَرّة أخْرى بالزّهرةِ معَ تحديدِ نَوْعِهَا فَيقولُ ((زَهْرة اللّوتُس))
- فِي قَصِيدَة ((كفّ أمّي)) دائماً، يَتحَدّثُ الشّاعِر عَن الكفّ وَسبّابتهِ "وأشارَتْ بكفِّها المُتعَبِ/ وسبّابة كفّهَا الوَاهنَة تسألنِي شيئا مُبهماً" وهِي الكفّ ذاتُها التِي تعُودُ إلى الظهُور مَرّةً أخْرَى فِي ((سَجْدَة الفَرَح)) وَلكِنْ بِاسْم آخَر (اليد): "ويدكِ على قلبِي لتحفظيه من هشِيم النسَاء"
هناكَ إذنْ في كِلتَا القصِيدتين ثلاثة عناصر مُشتركة ومُتلاحمَة: الكفّ + الزّهرة + الشّمس
وما الكفّ والزّهرة والشّمس سِوى تجْسيدٍ لمَعْنى واحدٍ وذلكَ للأسبابِ التاليةِ:
- التشابهُ في الشكل:
الكفّ هُو كأسُ الزّهرة بسبلاتِها، والأصَابعُ هِي بتلاتهَا أو تُويْجُهَا، والعُروق بداخلِها هِي الأسْديَة.
- التشابُه فِي الوظيفَة:
الزّهْرة هيَ رمزُ التّكاثر فِي الكوْن وتتَمثلُ وظيفتُهَا البيُولوجيَة في كونِهَا تعْمَلُ عَلى دمْج حبُوبِ اللقاح المُذكّرةِ معَ البُويضَةِ المُؤنثةِ منْ أجْل إنتَاج البُذُور، وَهَذِهِ الفِكْرَةُ وَرَدَتْ بشَكلٍ وَاضِح فِي كِلا النّصيْن: ففِي ((كفّ أمّي)) العنوانُ وحدَه فيهِ الدّلالة الكافيَة علَى هذهِ الفكرةِ، إذ ثمّة زَهْرة أو كفٌّ وَلدَت ابنَهَا، والنصّ كلهُ هُو حِوارٌ بيْنَ الكفّ (الزّهْرة) وابنِها (بذرتُها). أمّا فِي ((سَجْدَة الفرَح)) فَعُنصُر اللقَاح والتّزاوُج والوِلادَة وَاردٌ بِكُلّ ألفاظِهِ وَمُصْطلحَاتهِ الدالةِ عليهِ أيضاً: "بل تجلّيتُ لكِ، فولدتك صبرا شهيّا/ وولدتني كزهرة اللوتس/ ويدكِ على قلبي لتحفظيه من هشيم النساء/ فصرتُ ابنكِ وأباكِ التموزي/ وصرت ابنتي وأمّي عشتار)
- الشمسُ تلدُ الشّاعرَ:
وفِي هَذا تأكيدٌ لمَا ذهبتُ إليهِ سابقاً عندَ الجوابِ على سُؤال (ابن من؟)، والشّمْسُ هُنا هِي الأمّ المُؤلّهَة التي أنْجَبَتْ ابنَهَا تمّوز بِقُواهَا الذّاتية وخُصُوبتِها الّتِي تَحْتَوِي فِي صَمِيمِهَا بُذُورَ الأنُوثةِ والذّكُورَة مَعاً: (فصرتُ ابنكِ وأباكِ التمّوزي). لكنْ عَلى الرّغم مِنْ ذلكَ فإنّ هَذا كُلهُ غيْر كافٍ للقوْلِ إنّ الأمّ هيَ الزّهرَة وهيَ الشّمْس، خاصّة وأنّ سعْد الشلاه حَدّدَ مُسْبَقاً طبيعةَ هذهِ الزّهْرة / الشّمْس وقالَ عنْهَا إنّها زهْرة اللوتس، بكلّ ما تحمِلهُ منْ دلالاتٍ داخلَ المَوْرُوثِ الأسْطوري القدِيم لِحضَارَاتِ أهْل النّيلِ والفُرَات والغانْج. لذَا، أصْبحَ مِنَ الضّرُوري طرْح سُؤالٍ آخرَ ربّمَا تقُودُ الإجابَة عليْهِ إلى المَزيدِ منَ التّفاصِيلِ عبْر الغَوْص فِي بِحَار المَعانِي المُتوالدَة والمُتغيّرة باسْتمْرار: أيّ منْ زهُور اللوتس هذهِ، ومَا لوْنُهَا؟
إنّهَا زهْرةُ اللوتس الزّرْقاء، وهِيَ الأكْثر والأقْوَى عِطرا وأريجاً بيْنَ فصَائلِ وأنْوَاع اللوتس عَلَى الإطلاق، وقدْ حَددّ الشّاعرُ لوْن هذِه الزّهْرة عبْر بيتهِ التالِي: "وكالزّهرة عندما تطلق أريجها/ لفظت أمّي أنفاسَها). والبيتُ وإنْ كانَ ظاهرُه يصِفُ لحظاتِ احْتضَار ثمّ موتٍ إلا أنّهُ فِي الحقيقةِ انبْعاثٌ وقيامَة، بلْ عَبير ينتشرُ في الأرض إلى أبدِ الآبدينَ: عَبيرٌ استنْشقَهُ الشّاعرُ فاستعادَ للتوّ ذاكرتهُ الكونية فهجَر سريرَ جسدِ الأمّ المادّي بكلّ ما يعْتريهِ منْ نقائصِ الوهْن، والمَرضِ والمَوتِ، وتجلّتْ لهُ أمّهُ الحقيقيةُ وزهرتُه الزّرْقاء الأبديّة: فاطمَة الزّهْراء (ع) صاحبةُ العِلم اللّدني، والعَابدَة ذاتِ الأريج الفوّاح التي تتفتّحُ فِي مِحْرابِها زهورُ النّور فيستأنسُ بهَا أهل الأرضِ وينتشِي بهَا أهل السّمَاء (50)، وإذ يُفيقُ الشّاعرُ منْ ألم الفِرَاق يتّقدُ بصَرُه وبَصِيرتُه فيَرَى سبّابة أمِّهِ وهِي تُخاطِبُهُ بإشَارَةِ المُكالمَة فتُوصِيهِ وصِيّة عظِيمَة (51) وتُدْخلهُ بَعْدَ ذَلكَ إلَى سَمَاءِ الشّمْسِ الّتي هِيَ قلبُ الأفلاكِ جميعاً ثمّ تقودُه إلى سمَاء الزّهْرة وتسَلّمُه مِفْتاحَ القوّة الخَياليّة بِسِرّ سُورة نبي الله يُوسُف (ع) التّي لا يُوجَدُ نصّ منْ نُصُوص هَذا الدّيوان إلّا وسَابحٌ فِي مَائهَا الأخْضَر (52) ومِنْ هُنا نَبَعَت صِفَة اليُوسُفيّات التِي أعْطيْتهَا كعُنْوان لهَذهِ الدّراسَة. وإذ يدْخُل سعْد الشّلاه سَمَاء الشّمْسِ ثمّ سمَاء الزّهْرة، وإذ يغْتسِل بمَائهَا اليُوسُفي، يرْفعُ عينَ الرّوح فتُطالعُه سمَاء القمَر صافية فضّية اللّونِ فيَلجُها كَمَا هُو واضِحٌ فِي الرّسْم التّخطيطِي أسْفله (53) ويكْتبُ بِسِرّ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) نصّهُ ((قسطرة)) (54) ويبلغُ بالوصيّة إلى الكمَال والاكتمَال ثمّ يسْجُد سجْدة الفرَح العَظيمَة ويُعلنُ مِنْ خِلالِهَا وَلاءَه وَحُبّهُ لمُحَمّد الشّمْس (55) وعَليّ القمر (56) وفاطمَة الزّهرة والحسَن والحُسين الفرقديْن مصداقا لقوله (ص) في حديثه الشريف: "اقتدُوا بالشّمْس، فإذا غَابَتِ الشمسُ فاقتدُوا بالقمَر، فإذا غَابَ القمَرُ فاقتدُوا بالزّهْرة، فإذا غابتِ الزّهرة فاقتدُوا بالفَرقَديْن، فقالوا: يا رَسُولَ الله فمَا الشّمْسُ؟ ومَا القمَرُ؟ ومَا الزّهْرَةُ؟ ومَا الفَرْقدان؟ فقال: أنا الشمسُ، وعليّ القمرُ، وفاطمَة الزّهرة والفرْقدان الحسنُ والحُسينُ" (57)، وَمَا نصُّ ((كفّ أمّي)) سِوى المرآة التِي تجلّى فوقَ زئْبقِهَا الجُزء الثّاني مِنْ قوْله (ص): "فإذَا غابتِ الزّهرة فاقتدوا بالفرْقديْن" عَبْرَ قولِ الشّاعر في المَقْطع الأخِير مِنَ القصِيدة: " فصرختُ بأعلى ما أدّخر من وجع/ أمّاه، اطمئنّي يا أمّاه (أبدا والله ما ننسى حسيناه)" (58).


(3)
اليُوسُفِيّة الثالِثة
فِي حضْرة صَاحِبِ الصّوَرِ والرّامِي


(1) إشْكاليّة الصّورة والاسْم

الصّورَةُ والاسْمُ فِي الشّعْر قضِيّتانِ جَدِيدَتان لمْ تَحْظيَا كَثيراً باهْتمَام النقّادِ والبَاحِثينَ؛ القُدَمَاء مِنهُم أو المُعاصرينَ، وَلا يُقْصَدُ بِالوُقوفِ هُنا عِندَ مَفْهُومِ الصّورةِ مُحَاذاةُ دَلالتِهَا الأدَبيّة، أو الوصفية أو البلاغية، ولكن الرّجُوع بِها إلى الأصْل الأول بلْ إلى مَوقفِ الحقّ، حيثُ ارْتبطَ وجُودُهَا بِالدّلالةِ الاسْميّةِ للكَوْنِ وَبالمَعنَى النّفْخيّ فيهِ؛ لذَا، تجِدُ سعْد الشّلاه فِي هَذا الدّيوان أشْبَه بِرام لهُ قوسٌ يُسدّدُ بِهَا سِهَامَهُ نَحْو الكيْنونَاتِ الوُجُوديّة (59)، فَتتوَلّدُ عَنْ ضَرَبَاتِهِ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ تَتَنَاثَرُ مِنْهَا فِي فَرح ونَشْوةٍ أبَدِيَيْن الأسْمَاءُ وَالمَعَانِي عَبْرَ مَعَارجَ ثلاثةٍ لا تخْرُجُ أبداً عَن إطار الذّاتِ والإرَادَةِ، وَلا عَنْ فعْليّة الكُنْ فيكُون، وفِي القوْل بهَذا انْفِتَاحٌ مِنَ الشّاعِر عَلى كُلّ الخِطَابَاتِ المَعْرفِيةِ مَعَ الانْطِلاق المَرْكزِيّ مِنَ النّصّ القُرآنِي والوُقوفِ بِهِ بيْن خِتميْن رئيسَيْن: ختمٌ للولايَةِ الخاصّة وخِتْمٌ للوِلايَةِ العَامّة عبْر الجَمْع بيْنَ الحَقيقةِ المُحَمَدّيَةِ وَالحَقيقةِ العِيسَويّةِ (60) وَذلكَ رَغْبَة مِنْهُ فِي التّأسِيسِ لرُؤيَةٍ تَأمُّليّة جَديدَةٍ تَتَوخّى إعْطاءَ قِيمَةٍ وُجُودِيّةٍ لمَفْهُوم الحَياةِ، وَهُوَ لهَذا السّبَبِ يلجَأ إلى الحَفْر فِي مَفهُوم الصّورة وقُوّتِهَا الدّينَامِيكيّة والإبْداعِيّة بِغرَضِ بِنَاءِ نَسَقٍ صُوفيّ أكْثرَ تَعْبيراً عَنْ ((صُورة الله))، وفِي هَذا تجِدُ الشّاعِرَ يمْشي بِخُطى تَتَوَازَى وَتَتَوَافَقُ مَعَ أطرُوحَةٍ فِكْرِيّةٍ أخْرَى شَدِيدَةِ الارْتِبَاطِ بالقُوّةِ الخَلّاقةِ للاسْمِ، مَادامَ الخالقُ هُو صَاحِبُ الأسْمَاءِ الحُسْنَى كُلهَا، بِهَا يَتَحَرّكُ ويُدبّرُ أمُور الخَلقِ. وَهَذا مَوْقفٌ نَسَقّي تَنْظِيميٌّ مِنَ الشّاعر يَرْمِي مِنْ وَرائِه إلَى تعْديلِ أو تصْحيح مَوْضُوعَة التشخُّصِ والتمَثّلِ، مِنْ حَيْثُ إنهُمَا تَعْبِير عَنْ تَحَوّلٍ جذريّ للكلمَة ولقابِليّتِها للتّشْكِيل والتّصْوير ثمّ التّجْسِيدِ كفِعْل وُجُودِي تجلّى فِي النصّ الشّلاهِي عبْر حُضور العَديدِ مِنَ الأسْمَاء الخَاصّة بأعْلام وأشْخاصٍ مُعيّنينَ وبِأمَاكنَ إحْداهَا ذَات طَابع مَكانِي جُغْرافي وأخْرَاهَا ذات طَابع طَبيعِي كَوْنِي. أمّا عَن الطرّيق التِي سَلكَها الشّاعرُ للتعْبير عَنْ هَذا التّحَوُّلِ الجذْري للكَلمَة عَبْر النّفْخ الرُّوحيّ فَهِي عِبارَة عن تحرُّكٍ داخلَ النّسَق الخيَالي التْيُوفانِي بشَكْل يُركّز فيهِ سعد الشلاه على صُورة مُعينة تصْبحُ صورتَه الاستلهَامية المُنطلقة منَ الوجْه الأنثَوي للكوْن، فتتحرّكُ بداخلهِ عمليةُ الإبْدَاع وَتتكَامَلُ فِي فؤادِه أسمَاءٌ وأمَاكنٌ لهَا دلالاتٌ مُعيّنَةٌ وخاصّة فِي وِجْدَانهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا أَيُّ مَعْنى مِنْ مَعَانِي ظاهِرَةِ الحُلولِ الَّتِي أسِيءُ فَهْمُهَا بِسَبَبِ الاِرْتِبَاكِ العَظِيمِ الذِي أَحَدَثَتْهُ فِي الفِكْرِ الصُّوفِيِّ الإسلامِي التَّجْرِبَةُ الحَلّاجِيَّة إِلَى اليَوْمِ، وَالَّتِي أدَّى سُوءُ قِرَاءتِهَا وتأويلِهَا إِلَى الخَلْطِ بَيْنَ مَفْهُومِ الألوهِيّة وَالصُّورَةِ وَبِالتَّالِي قتْلِ هَذِهِ الأخِيرةِ ذاتِهَا بِالوَهْم، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الرَّئِيسُ الَّذِي دَفعَ بِالشَّاعِرِ إِلَى سُلوكِ مَوْقِفٍ اِسْتِدْرَاكِي عَبْرَ التّرْكيزِ عَلَى مَفْهُومِ التَّوَالدِ وَالكثْرَةِ الَّتِي هِي نَتِيجَةٌ لِعَلاقَةٍ حَمِيمَةٍ بَيْنَ الأعْلى وَالأدْنَى، وَبَيْنَ اللَّوْح وَالقَلَم المُجَسَّدَةِ فِي الكِتَابَةِ كَكثرَةٍ مُكَوَّنَةٍ مِنْ حُروفٍ، وَهُوَ مَوْقِفٌ عِرْفَانِيٌ مِنَ الشَّاعِرِ لَهُ فِيه وَعِيٌ بْيولوجِي بِرَابِطَةِ الأبُوّة والأمُومَة، أَو الذّكورَة وَالأنُوثَة المُتَجَلِّيَتَيْنِ فِي الكَوْنِ عبْرَ مَفْهُومَيِ الوَجْدِ وَالعِشْقِ وَلَا أَدَلَّ عَلَى هَذِهِ العَلاقَةِ الجَامِعَةِ بَيْنَ الذُّكورَةِ الأبويّة والأنوثة الأموميّة مِنْ قصيدتيه:((صُورَتكِ)) و((أسْمَاء)).
تتَجَلّى إذن عَلى مِرآة القلبِ الصّقيلة صُورةُ المَعْبُودِ، فتسمُو الرّوحُ وتلجُ بَوّابَة سَمَاءِ الحَرْفِ فترَى اسمَ (المُصوِّر) فتعرفُه وتصفُه بالاسْمِ الفريدِ (وأرممُ ذاكرتي باسمِك الفريد) (61)، الّذِي بِهِ تَتَوَالَدُ الصُّوَرُ وَإِلَى جَانِبَهِ اسْمٌ آخر هُوَ (اللَّطِيفُ)، ذَلِكَ أَنّ مَوْقِفَ الصُّوَرَةِ هَذَا يَسْتَدْعِي اللّطفَ الإلهِي وَيَسْتَوْجِبُهُ حَتَّى يَحْدُثَ التجَلّي عَبْرَ الوُلوجِ إِلَى مَقَامِ الرأفَة وَالابْتِعَادِ الكُلِّيّ عَنْ مَقَامَيِ القَهْرِ وَالجَبَرُوتِ. أَمّا عَنِ العُنْصُرِ الَّذِي بِهِ حَدَثَ الدُّخُولُ إِلَى مَقَامِ اللّطفِ عَبْرَ البَوَّابَةِ البَهِيَّةِ الزَّرْقاءِ فيَتمَثلُ فِي حَلاوَةِ المَاءِ الْمُتَحَرِّكِ دَاخِلَ الذات المُلْقِيَةِ لِلخِطابِ بِمُجَرَّدِ فنَائِهَا فِي الصُّوَرَةِ المُتَجَلِّيَةِ أَمَامَ العَيْنِ:
"صورتك الجديدة
تركت مذاقاً عجيباً على شفتيّ
كلُّ لحظةٍ يرقصُ لساني فرحا بها
فتزدادُ نفسي عذوبةً وانتشاء" (62)
فالشّفَتَانِ وَاللِّسَانُ كِلَاهُمَا سُقِيَا بِمَاءِ اللّطفِ فَمَنَحَا بِمُوجِبِ ذَلِكَ لِلذَّاتِ المُلقِيَّةِ حَرْفَ الانْتِشاءِ وَالانْتِعاشِ وَأصْبَحَتِ الغَايَةُ القُصْوى عندئذٍ تَرْجَمَة اِسْمِ اللّطفِ التّخْليقِي إِلَى جَمِيع اللّغَاتِ:
"وأنت أيها الكناريُّ الفصيح
أعرني تغريدَك الوسيم
لعلّي أترجمُ اسمَها إلى كلِّ اللغات" (63)
وَهَذَا الّذِي حَدَثَ بَيْنَ دَفَّاتِ هَذَا الدِّيوانِ، فَقَدْ قَامَ الشَّاعِرُ فَعلا بِتَرْجَمَةِ اِسْمِ اللّطفِ إِلَى العَدِيدِ مِنْ الأسْمَاء الجَامِعَةِ وَالدَّالَةِ عَلَى أماكن وأشخاصٍ وأعلامٍ بِشَكْلٍ جَعَلَ القصائدَ تَتَحَوَّلُ مِنْ بَوْح شَعْرِيّ إِلَى وَثَائِق تَارِيخِيَّةٍ حافِلَةٍ بالأحْدَاث الَّتِي تُؤَرِّخُ لِفَتْرَةٍ مُعَيّنَةٍ مِنْ تَارِيخِ العِرَاقِ المُعَاصِرِ. وَإِذْ تَمَّ الوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الحَقِيقَةِ أَصْبَحَ لزاماً تَسْلِيط المَزِيدِ مِنَ الضَّوْءِ عَلَى هَذَا الجَانِبِ مِنَ النَّصِّ الشلاهي وَاسْتِنْطاقهِ لَا مِنَ الجِهَةِ العِرْفَانِيَّةِ فَحَسْبُ وَلَكِنْ مِنَ الجِهَةِ الأنثروبولوجية وَذَلِكَ عبْرَ التَّسَاؤُلِ التَّالِي: هَلْ يُمْكنُ للنّصّ الشّعْري أنْ يُصْبحَ نَصّاً أنثرُوبُولوجِيّاً يهْتَمُّ بالإنسانِ وحَضارَاتهِ وثقَافاتِه؟


(2) أنثرُوبُولوجْيا الأسْمَاءِ وَالأمَاكِنِ

البَحْثُ فِي تمَظهُرَاتِ وتمَفصُلاتِ الاِسْم وَسِيمِيائِيَاتِهِ الأنُومَاستيكيّة بِكُلِّ فُرُوعِهَا سَواءً تِلكَ المُتَعَلِّقَةِ بأسمَاءِ الأعْلامِ أَوْ بِالخَرِيطَةِ التُوبُونُومَاسْتيكيّة المَكَانِيَّة، هُوَ نَوْعٌ مِنَ العُلومِ الفَتِيَّةِ المُعْتَمَدَةِ حَديثاً فِي الدِّراسَاتِ وَالأبْحَاثِ وَخَاصَّةً مِنْهَا ذَاتُ الطَّابَعِ النّقدِيِ الأدَبِيّ، وَالنَّصُّ الشلاهي نَصٌّ أنُومَاسْتيكِي وتُوبُونُوماستيكِي بِامْتِيازِ؛ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْوِي العَدِيد مِنْ أسْمَاءِ الأعْلام وَالأَمَاكنِ الّتِي تَقْتَضِي التَّوَقّفَ عِنْدَهَا بِصَبْرٍ وَتَأَنٍّ عَمِيقَيْنِ؛ إِذْ لِكُلٍّ اِسْمٍ دَلالَةٌ تَارِيخِيَّةٌ وَسِياسِيَّة لَهَا صِلَةٌ عَمِيقَةٌ بِالتَّارِيخِ الإنسَانيّ المُعَاصرِ كَافَّة لَا العِرَاقِيّ فَحَسْب؛ وَعَلَيه فَإِنَّ عَمَلِيَّةَ جرْدٍ بَسيطَةٍ (وِفْقاً لِمنْهَجِ مَدْرَسَةِ شيكَاغُو فِي المُقَارَبَاتِ ذَاتُ الطَّابَعِ الإثنُوغْرافي والأنُوماستيكي) (64) لِكُلِّ قَصَائدِ الدِّيوانِ وَجَمْعٍ وَفَرْزٍ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أسْمَاء بِمَا فِيهَا تِلكَ الوَارِدَة فِي عَنَاوِينِ النَّصِّ الشِّعْرِي أدَّتْ إِلَى مَا يَلِي مِنَ الاِسْتِنْتاجَاتِ:
ـ وُجُودُ أسْمَاءٍ ذَاتِ طَابَعٍ أسْطورِي وَهِي فِي الدِّيوانِ بِكَامِلِه 5 أَسَمَاء، بِغَضّ النَّظَرِ عَنْ تِلكَ الّتِي تَكَرَّرَتْ لِأكْثَرِ مِنْ مَرَّةً وَخَاصَّة اسْمَ عشتار، وَهَذِهِ الأسماءُ تُشَكِّلُ نِسْبَةَ 2% مِنْ مَجْمُوعِ الأسماءِ كُلَّهَا؛
ـ وجُودُ أسْمَاءٍ خَاصَّةٍ بِمَجْمُوعَةٍ مُعَيّنَةٍ مِنْ أعْلامِ العِرَاقِ سَواءً المَعْرُوفِ مِنْهُم فِي مَجَالِ الإبْدَاع الأدَبِي، أوِ الغِناءِ، أوِ السِّياسَةِ، وَيبْلغُ عَدَدُ هَذِهِ الأسْمَاء 22 اسْماً فِي المَجْمُوعَةِ الشِّعْرِيَّةِ، أيْ بِمَا يُعَادِلُ 48 %؛
ـ وَجُودُ أسْمَاءٍ ذَاتُ طَابَعٍ لَاهُوتِيّ وَدِينِيّ، وَيُقْصَدُ بِهَا أسْمَاءُ الأنْبِيَاءِ، والأوليَاءِ وَغَيْرهم مِنْ أَهْلِ الخِرْقَةِ وَالعِرْفَانِ؛ وَقَدْ بَلغَ مَجْمُوعُهَا فِي الدِّيوانِ 20 اسْماً، أيْ بِمَا يُعَادِلُ 40 %.
ـ أمّا أسْمَاءُ بَعْضِ الأَمَاكنِ وَالمُدُنِ سَواءً كَانَتْ عراقيَة أَمْ لَا فَإِنَّهَا بَلغَتْ مَا يُنَاهِزُ 18 اسْماً، وَبِمُعَدَّلِ 10%.
عَلَى ضَوْءِ هَذَا الجَرْدِ وَالقِرَاءَةِ، لـُوحِظَ أنّ مُعْظمَ الأسْمَاءِ لَهَا ارْتِبَاط قَوِيّ بِاسْمِ مَدِينَةٍ مُعَيّنَةٍ، سَيَكُونُ مِنْهَا الانْطِلاقُ وَإِلَيْهَا العَوْدَةُ، وَإِنْ كَانَ الشَّاعِرُ لَا يَمُدُّ المُتَلَقِّي بِمَعْلومَاتٍ تَارِيخِيَّةٍ أوْ جُغْرَافِيَّةٍ صَرِيحَةٍ عَنْهَا، وَلَكِنَّ البَحْثَ الدَّؤُوبَ بَيْنَ نُصُوصِ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ الشِّعْرِيَّةِ يُقُودُ إِلَى الوُقُوفِ عَلَى مَعْلومَاتٍ أخْرى (لَهَا علاقَة بِالمَجَالِ المَكَانِيّ الطَّبِيعِيِّ وَالزِّراعِيِّ وَالمَائِي) يُسْتَنْجُ مِنْهَا أنَّهَا تَخُصُّ بالذّات هَذِهِ المَدِينَة الجَارِي البَحْث عَنْهَا الْآنَ: المَدِينَة هِي مَسْقِط رَأسِ الشَّاعِرِ، وَهَذَا مُعْطىً تَمَّ العُثورُ عَلَيهِ فِي أبياتِ نَصِّ ((حسْوَة نَفْط)):"ذَات شِتَاء / فِي بَيْتِنَا ذِي السُّنُونُو / زَحَفْتُ كَطَيْرٍ دُونَ رِيشٍ / دَنَوْتُ مِنْ قِنِّينَةِ نَفْطٍ أبْيَض / وَشَرِبْتُ حسْوَةً وَاحِدَةً / تلاقفتني الأكفّ /( أَمّ زَلابِيَةَ ) العَجُوزُ الطِّيبَة / أركستني فِي مَاءِ جَارِنَا الشَّطّ مِثل أخيل / طَهُور ... طَهُور". إِذْ فِعْل "زَحَفْتُ" فِيه دَلالَة عَلَى الحبْوِ، مِمَّا يَعْنِي أنّ وَاقِعَةَ الشُّرْبِ مِنْ قِنِّينَةِ النّفْطِ حَدَثَتْ لِلشّاعِرِ وَهُوَ فِي سِنٍّ صَغِيرَةٍ جِدّاً مِنْ عُمُرِهِ. وَكَذَلِكَ عِبَارَةُ "تلاقفتني الأكُفّ" فِيهَا دَليلٌ صَرِيحٌ عَلَى أنّ المَعْنِيَّ بالأمْر هُوَ طِفْلٌ رَضيعٌ، يُشْبِهُ الطَّيْرَ الَّذِي لَا رِيشَ لَهُ. أَمّا كَوْنُ السَّيِّدَةِ المُسنّة (أمْ زَلابِيَةَ) قذفتْهُ فِي مَاءِ "جَارِنَا الشَّطّ" فَفِي الأمرِ إشارةٌ عَلَى قُرْبِ بَيْتِ الشَّاعِرِ آنذاكَ مِنْ شَطٍّ مُعَيّنٍ، لَمْ يَرِدِ اسْمُهُ كَامِلاً فِي هَذَا الدِّيوانِ إلّا أنَّه وَرَدَ فِي الدِّيوانِ الَّذِي سَبَقَ وَأنْ نَشْرَهُ حَديثاً وبالتّحْدِيدِ فِي قَصِيدَتِي ((عندما تَبْكِي النّجُومُ)) وَ((ثَمانَي دُمُوع)) (65). والشطّ فيهِ دلالةٌ على نهْرٍ، والنّهرُ يقتَضِي وُجُودَ جسْرٍ، ومُصْطلحُ "جسر" لمْ يردْ في الدّيوانِ سِوَى مَرّةٍ واحِدةٍ (66) وَجاءَ لصِيقاً بالعبَارةِ التاليةِ: (جِسْرُ الحِلّة العتيقِ). وإذْ تظهَرُ هذهِ العبارةُ، تُصْبحُ الحِلّة هِيَ المَدينَةُ التِي يتحَدّثُ عنْهَا الشّاعرُ وَعَنْ شطِّهَا وَجِسْرهَا العَتيقِ (67)، بلْ هِي الأرْضُ التِي نشَأ وترعْرعَ فيهَا. كيفَ ذلكَ؟ (68).
يَحْتاجُ الجَوابُ عنْ هَذا السُّؤالِ إلى مَزيدٍ منَ التّنقيبِ عنْ أسْمَاء ذاتِ طابع مَكانِيّ مِنْ شأنِهَا أنْ تُؤكِّد فَرضِيَةَ أنّ المدينةَ المَعنيَة بالأمْر هيّ الحلّة بعَينِها:
في الدّيوان تُوجَدُ قصيدةٌ أخْرى هِي ((المُتحرّر النّبيلُ)) وَرَدتْ فيهَا مُصطَلحاتٌ تقتضِي الخُروجَ مِنْ بينِ دفّاتِ الدّيوان والذهابِ للتّقصّي عنْهَا فِي مَراجِع ومصادِر تاريخيّة أخرَى: وهَذهِ المُصْطلحاتُ هِيَ: النّهرُ والنّافورَة ومحِلة الطّاق (69). وهي كلهَا مُصْطلحَات تقودُ إلى مَدينةِ الحلّة (70)، وقد وردتْ بشكلٍ صريح في هذا النصّ والذي يتحدّثُ عن عَلم مِن أعلام الشّعْر والأدبِ الحلي ويُقصَد بهِ مُوفّق محمّد (71).
عن الحلّةِ يقول الرحّالة والجُغرافي المَغربيّ ابن بطوطة الطّنجِي: "فَنَزَلنَا مَدِينَةَ الحِلّةِ، وَهِي مَدِينَة مُسْتَطِيلَة مَعَ الفُرَاتِ وَهُوَ بِشرْقيهَا وَلَهَا أسْوَاقٌ حسنَةٌ جَامِعَة لِلمرَافِقِ وَالصِّنَاعَاتِ، وَهِي كَثِيرَةُ العِمَارَةِ وَحَدائِق النَّخْلِ مُنَظَّمَة بِهَا دَاخِلاً وَخَارِجاً، وَدُورُهَا بَيْنَ الحَدائِقِ وَلَهَا جسرٌ عَظِيمٌ مَعْقُودٌ عَلَى مَرَاكِب مُتَّصِلَةٍ مُنْتَظِمَة فِي مَا بَيْنَ الشَّاطِئَيْنَ إلى خَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ مُثَبَّتَة بِالسَّاحِلِ" (72).
وَهِي ذاتُها المَدِينَة الّتِي يَتَحَدَّثُ سَعْد الشلاه فِي دِيوانِهِ عَنْ خَيْرَاتِهَا وَخُضْرَتِهَا وَبَساتِينِهَا وَنَخِيلِهَا وَفُرَاتِهَا وَسِدْرِهَا وَطَيْرِهَا وَأعْشاشِها وَهِي إِلَى اليَوْمِ، أرَضٌ خِصْبَةٌ غنّاءٌ، عَامِرَةٌ بأهْلهَا، عطرةٌ بِسِيرَة عُلمَائِهَا وأدَبَائهَا. الحِلّة إِذَنْ هِي فُؤَادُ الشَّاعِرِ وَمِنْهُ ذَاتَ بَوْح شِعْرِيّ تَنَاثَرَتْ أسْمَاءُ أعْلام عِدَّة ( انْظرْ شَجَرَةَ الأسْمَاء : في الملحق ج سعد الشلاه) وَالّتِي سَيتِمُّ الوُقُوفُ عِنْدَ اسْمَين مُعَيّنَينِ مِنْهَا لِمَا لَهُمَا مِنْ مَكَانَةٍ عِلمِيَّةٍ وأدَبيَةٍ مَرْمُوقَةٍ دَاخِلَ النَّسِيجِ الحَضَارِي وَالفِكْرِي لِمَدِينَةِ الحِلّة، وَأقْصِدُ بِهِمَا المُؤَرِّخ وَالعَلّامَةَ صَبَاح نُورِي المَرْزُوق وَالنَّاقِد عَبْد الجبّارِ عَبَّاس وَكِلَاهُمَا مِنْ مَحلّة جَبْرَان وَهِي مِنْ مَحِلَّاتِ الحِلَّة القَدِيمَةِ كَمَا هُوَ وَارِدٌ فِي كتابِ المُؤَرِّخِ د. أسَعْد مُحَمَّد عَلَي النَّجَّار:" وَقَدْ أَنْجَبَتْ هَذِهِ المَحلّةُ عَدداً مِنَ الشّعرَاءِ والأدَبَاء، مِنْهُم الأديب نَجْم العبّود ( ت1962م ) وَالدُّكْتور طه باقر ( ت1984م ) وَالشَّاعِر الشَّعْبِيَّ عَبْد الصَّاحِبِ عبيد ( ت1989م ) وَالنَّاقِد المُبْدِع المَرْحُوم عَبْد الجبّارِ عَبَّاس (ت1992م ) وَالدُّكْتور عَلي جَوَاد الطَّاهِر ( ت1996م ) وَالشَّيْخ حَسَن كَاظِم علوش (ت1994م ) والأديب المُهَنْدِس المَرْحُومَ شَوْقي جَابِر ( ت2003م ) وَالدُّكْتور مُحَمَّد عَلَي حمزة ( ت2007م ) وَمِنَ الأحياء أَطَالَ اللهُ فِي أَعمارِهُمْ الدُّكْتور مَهْدِي نَاجِي زكوم وَالدّكْتور مَجِيد المَاشِطَة وَالشَّاعِر الدُّكْتور سَعْد الحدّادِ وَالشَّاعِر وَلاء الصَّوَّاف وَالشَّاعِر صَلاح اللّبانِ وَالشَّاعِرِ يحيى الرَّبِيعِي وَالدُّكْتور صَبَاح نُوري المَرْزُوق"

1) صَبَاحْ المَرزُوق

يقولُ الدُّكْتور سَعْد الحداد عَنْ صَبَاح المَرْزُوق فِي كِتابِهِ (مَوْسُوعَةُ أَعْلامٍ حِلّيَةٍ):"فِي سَنَة 1951م وُلِدَ البَاحِثُ وَالمُفَهْرِسُ الدُّكْتورُ صَبَاح نُوري المرزوك الطّائي. تَخَرَّجَ مِنْ كُلّيَة الآدابِ جَامِعَةَ بَغْداد سَنَةَ 1972م وَفِي سَنَةِ 1989م حَصَلَ عَلَى شَهَادَةِ الدُّكْتوراهِ مِنْ جَامِعَةِ أَنْقْرَة. عَمَلَ فِي سِلكِ التّعْليم الثَّانَوِي ثُمَّ انْتَقَلَ إلى جَامِعَةِ بابِل لِلتّدْرِيسِ. لَهُ العَدِيد مِنَ الكُتُبِ المَطبُوعَةِ مِثل أَخَبَارُ جَمِيلِ بُثينة، وَمَوْسُوعَةُ آثار المُؤَلَّفينَ العِراقيّينَ وَمُعْجَم شُعرَاءِ الإسلاميينَ والأمَويّين وَغَيْرُهَا العَشَرَاتُ مِنَ الكُتُبِ. عُضْوُ اتِّحَادِ الأدَبَاءِ وَالكُتّابِ العِراقيّينَ" (73).
أَمَا الدُّكْتورُ بَاقِر مُحَمَّد جَعْفَر الكرْبَاسِي، فَقَدْ خَصَّصَ فِي العَدَدِ الثَّانِي مِنْ مَجَلَّةِ مَرْكزِ بابِل، دِراسَة كَامِلَة عَنِ الجُهْدِ البِيبْليُوغْرَافِي عِنْدَ المُؤَرِّخِ وَالبَاحِثِ د. صَبَاح المَرْزُوقِي يَتَحَدَّثُ فِيهِ بِشَكْلٍ مُفَصَّلٍ عَنِ السِّيَرَةِ الذّاتِيَّةِ لِهَذِهِ القَامَةِ الأدبيّة الحِلّيّةِ، وَعَنْ إنتاجَاتهَا وَكُتُبِهَا فِي مُخْتَلِفِ مَجَالَاتِ العُلوم وَالمَعْرِفَةِ وَالَّتِي بَلغَتْ حَسبَ تَصْنِيفِ الدُّكْتورِ باقر مُحَمَّد أَزَيْدَ مِنْ 34 كِتاباً، إضافة إلى الدِّرَاسَاتِ والأطرُوحَات الجَامِعِيَّةِ وَالمَجَلّاتِ الأدَبيّة الَّتِي أشرَفَ عَلَيْهَا، إِلَى جَانِبِ أَنشطتِهِ وإسهَامَاتهِ الثّقَافِيَّةِ فِي شَتَّى مَجَالَاتِ الفِكْرَ سَواءً دَاخِلَ الحِلَّةِ أَوْ خَارِجَهَا، أوْ دَاخِلَ العِرَاقِ وَخَارِجَهُ (74).
وَحَسَبَ مَصَادِرَ أخْرى ذات طابَع صحَفيّ إخْبَاري، فإنّ الدّكتور صَبَاحْ نُوري المَرزُوق تُوفيّ فِي يومِه 17 كانون الثاني 2014 إثرَ تعرّضهِ إلى حادثِ سيْر ما بيْنَ العَاصِمَة بَغدَاد ومُحافظَة بابِل (75) ومِنْ فاجِعةِ وفَاة شيْخ المُؤرّخينَ، نبَعَتْ قصيدةُ الشّاعرِ سعد الشلاه والّتي وَسَمَهَا بِــ ((المَرْزُوق)) والّتِي تُعَدُّ بِحَقّ وثيقَة تَاريخِيّة تُؤكّدُ ما سبقتِ الإشَارَةُ إليْهِ مِنْ مَعْلومَاتٍ عنِ السّيرة الذاتية والعِلميّة الخاصّة بِهِ.
يقولُ سعْد الشلاه إذَن:
((ذات صباح مفعم بالنّور وتحت نفس السماء
بعد أن أكمل الفجرُ نداءَهُ اللاهوتي
ونحيبَه الأزلي في نفس هذه الأرض
تناول عصاه ذات اللون الحنّي الممزوج بنكهة حزنٍ باردة
همسَ عند رأسها: صباح الخير أيتها المتعبةُ من حِمل جسدي
أعدُكِ أنّكِ يوماً ما ستشعرين بالراحة من تراكم السنين
وربما ستشعرين بالشوق أو الحنين
لكفيّ التي تضغط بقوة على رأسِكِ الأملسِ
حين أمشي وحين أقومُ وأقعد
أنت تعرفينني جيداً كما أعرفك
فأنت الآن جزءٌ مني ولا أقوى على فراقك.
أتذكرين يا صاحبتي عندما كنتِ جزءاً من شجرةٍ خضراء
تحيطُ بكِ الأزهارُ من كلِّ جانب وتزورك الفراشاتُ آناء الليل وآناء النهار
انظري إلى الوراء قليلا
وتذكري ابتسامتك الأخيرة المتناثرة على الأغصان
كذرّاتِ الغبار حين يقتنصُها ضوءُ الشمس
تذكري كيف حزَّ أصلَك ذلك النجّارُ الجريء
لتكوني صاحبتي ورفيقتي التي لي فيها مآربُ أخرى
لا بأس عليكِ يا صاحبتي لا بأس عليك
نعم، أنا أشعرُ بأساكِ وبلوعتك
ولكنني سأبوحُ لكِ بسرٍّ دفين
أنتِ لا تعلمين أنني كنتُ أركضُ كالغزال
وألعبُ الكرةَ بمهارةٍ عالية
لم أكُ بحاجةٍ إلى خدماتِك الجليلة
نعم أنتِ حديثةُ عهدٍ معي ولا تعلمين
فقد سبقتُك بخمسين عاماً منذ الآن
كنتُ يا صغيرتي أتنفسُ الحروفَ والنقاط
وألتهمُ الكتبَ والمجلاتِ والجرائد
وما زلتُ أحتفظُ بكلّ ما قرأت
ودونما حاجةٍ إليك
لم أكن هكذا يا صاحبتي أبدا
أتذكرين عندما كنتِ تسألينني عن سرِّ أوراقي القديمة؟
كنتُ أشعرُ بسعادةٍ غامرة وأنا أشير بك إليها
إنها مدينتي وأنينُها و نسغُ نخيلِها وطهارةُ سدرِها
لا، لا، لا تبكِ يا صغيرتي لملمي دموعَك وادخريها ليوم آخر وأظنّهُ قريبا
عندما يكون الصمتُ شاهداً على الفراق.
ها يا صاحبتي ها نحن ذا عدنا إلى عشّنا الحلّيّ
وبعد قليلٍ سأتكئ على رأسك الأملس هذا
(والتسهيل بيد الله)
سأغفو قليلاً وراقبي يا صاحبتي من فضلك الطريق.
ولكنّ الطريقَ ملغومٌ بالمفاجآت
يهجمُ، بقوة، ذلك الظلامُ المهيمنُ الرهيب..
أيـن أنـت أيـها المرزوق؟
هذا رأسي الأملس قم واتكئ عليه
أأنينُك الساعة من يتكئُ عليه؟
أنزيفُك أيضاً يتكئ عليه؟ صباح أترى هذا النورُ؟
إنه نقيٌّ جداً لحظة الاحتضار
أتشعرُ بالسعادة الآن يا صاحبي؟
أيمكن أن نعيدَ عقاربَ الزمن إلى الوراء؟
لنختر لحظة وداعٍ أكثرَ إفصاحاً لعلاقتنا
ها أنذا قد ادخرتُ دموعي لهذا اليوم كما أوصيتني
فلا تقل لملميها ودعني أنحبُ مثل فجر هذا اليوم
وأرجو أن أسجّى بجوارك في روضك الفسيح)).

إِنَّ أَوَّلَ مَا يُشُدُّ الانْتِباهَ فِي هَذِهِ القَصِيدَةِ هُوَ عُنْوَانُهَا (المَرْزُوق)، وَهُوَ عُنْوَانٌ اخْتَزَلَ فِيهِ الشَّاعِرُ كُلَّ مَحَبَّتهِ لِصَدِيقِهِ وَابْنِ مَدِينَتِهِ صَبَاح نُوري المَرْزُوق أَوِ المَرزُوكْ كَمَا يلقّبُهُ آخرُون. وَإِذْ يَحْذِفُ الشَّاعِرُ الاِسْمَ فِي العُنْوَانِ يُعْلِنُ عَنْ مَدَى العَلاقَةِ القويّةِ الَّتِي تَجْمَعُهُ بِالفَقِيدِ، لَكِنّه سُرْعَانَ مَا يَعُودُ وَيُفْصِحُ عَنِ الاِسْم كاملا بِطريقَةٍ ذَكِيَّةٍ هِي أقْرَبُ مِنْهَا إِلَى اللّمعَةِ أو الوَمْضةِ العِرْفَانِيَّةِ فَيَقُولُ فِي أَوَّلِ بَيْتٍ مِنَ القَصِيدَةِ :"ذَات صَبَاح مُفْعَم بالنّور..." / [صباح/ نوري/ المرزوق]
وَالنَّصُّ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حوَارِيَّةٍ بَيْنَ المَرْزُوقِ وَعَصاهُ، صِيغَتْ بأسْلوبٍ دْرامِيّ فِي غَايَةِ السَّلاسَةِ وَالعُذوبَةِ. وَهِي قَائِمَة أيْ الحِوَارِيَّة عَلَى ثَلاثِ مَوَاقِفَ تَشْخِيصِيَّةٍ حَدَّدَ الشَّاعِرُ عَبْرَهَا تَطَوُّرَ العَطَاءِ العِلمِيّ وَالتَّارِيخِي لِلدّكْتورِ صَبَاح المَرْزُوق، وَهِي كَالتَّالِي:
(3) مِنْ البَيْتِ الأوّل إِلَى البَيْتِ الخامسِ مِنَ القَصِيدَةِ:
يَرْفَعُ الشَّاعِرُ فِي هَذَا المَوْقِفِ سِتَارَةَ العَرْضِ وَيُقَدّمُ لِلمُتَلَقِّي شَخْصِيَّةَ الحِوَارِ الأولَى وَيَرْسُمُ كُلَّ التَّفَاصِيلِ المُرْتَبِطَةِ بِالمَكَانِ وَالزَّمانِ الَّذَيْنِ تَدُورُ فِيهُمَا الأحْداثُ.
(4) الزَّمانُ: السَّاعَاتُ الأولى مِنَ الصَّبَاحِ الباكِرِ:(ذَات صَبَاح / بَعْدَ أنْ أكْمَلَ الفَجْرُ نِدَاءَهُ اللاهُوتِي)
(5) المَكَانُ: (تَحْتَ نَفْسِ السَّمَاءِ / فِي نَفْسِ هَذِهِ الأرض)، وَفِي عُنْصُرَي الزمَكَان هَذَا إشارةٌ مِنَ الشَّاعِرِ إِلَى الوَقْتِ وَالمَكَانِ الَّذينِ فَارِقَ فِيهِمَا المَرْزُوقُ الحَيَاةَ، فَالوَقْتُ كَانَ فَجْراً وَالمَكَانُ هُوَ الحِلَّة. الشَّيْءُ الَّذِي يَعْنِي أنّ القَارِئَ بصددِ حِوَارِيَّةٍ ذَاتُ بُعْدٍ مَاورَائي، أيْ مُفْصَحٍ عَنْهَا عَبْرَ تْيُوفانيّةِ التجَلّي، إِذِ المُتَحَدِّثُ هُنَا هُوَ المَرْزُوقُ بَعْدَ وَاقِعَةِ الوفاةِ:( تَنَاوَلَ عَصَاهُ ذَات اللَّوْنِ الحِنِيِّ المَمْزُوجِ بِنَكْهَةِ حُزْنٍ بَارِدَةٍ)
(6) مِنَ البَيْتِ الخامِسِ إِلَى البَيْتِ الثّانِي والأرْبعِين:
وَفِي هذا المَوْقفِ يَتَحَدَّثُ الشَّاعِرُ عَنْ عَصا المَرْزُوقِ عَلَى لِسَانِ هَذَا الأخِير عَبْرَ تِقْنِيَّةِ أنْسَنَة العَصَا حَتَّى تَتَحَوَّلَ مِنْ وِلاِيَةِ الجمَادَ إِلَى وِلاِيَةِ النَّبَاتِ وَمِنْهَا إِلَى وِلاِيَةِ الإنسَانِ فَيَحْدُثُ التَّكافُؤُ النَّوْعِيُّ بَيْنَ المُتحاوريْنِ. فَعَصَا المَرْزُوقِ هِيَ عَصَا حِكْمَةٍ لِأَنَّهَا مُكَلَّلَة بِتَاجِ المَعْرِفَةِ:( أنْتِ تعْرفِيننِي جَيِّداً كَمَا أَعْرِفُكِ)، وَهِي أيضاً عَصا تَرْتَقِي إِلَى مَدَارِجِ عَصا النُّبُوَّةِ:(لِتَكوني صَاحِبَتَي وَرَفيقَتي الَّتِي لِي فِيهَا مآرب أخرى)، بِاعْتِبارِ أنّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَة الأنْبِيَاءِ، وَالمَرْزُوق شَهِدَ لَهُ الجميعُ بِغَزَارَةِ العِلمِ وَوَقْفِ حَياتِهِ كُلّهَا لِطَلبَ العِلمِ وَتَدْرِيسِهِ وَنَشْرِهِ عبْرَ تأليفِ العَدِيدِ مِنْ أمّهَاتِ الكُتُبِ فِي التَّارِيخِ والأدبِ وَغَيْرَهِمَا مِنْ فُرُوعِ العُلُومِ الأخْرى:( كُنْتُ يا صَغِيرَتِي أَتَنَفّسُ الحُروفَ وَالنِّقَاط / وَألْتَهِمُ الكُتُبَ وَالمَجَلّاتِ وَالجَرَائِدِ / وَمَا زِلتُ أحْتَفِظ بِكُلِّ مَا قَرَأتُ). إضافة إِلَى هَذَا فَالشَّاعِرُ يُحَدِّدُ أيضاً عُمْرَ هَذِهِ الصَّدَاقَةِ القويّةِ الَّتِي أعْطَتْ لِحَيَاةِ شَيْخِ المُؤَرِّخِينَ مَعْنىً آخرَ لِأَكْثَر مِنْ ثَلاثَةِ عشر سَنَة، أيْ مُنْذُ أنْ صَنَعَهَا لَهُ أَحَدُ نَجَّارِي الحِلَّةِ الفَيْحَاءِ إِلَى أنْ وَافَتْهُ المَنِيّةَ فِي كَانُونِ الثَّانِي مِنْ سَنَةِ 2014:( نَعَمْ أَنْتِ حَديثَةُ عَهْدٍ مَعِي وَلَا تَعْلمِينَ / فَقَدْ سَبَقْتُكِ بِخَمْسِينَ سَنَةٍ مُنْذُ الآنَ).
(7) مِنَ البَيْتِ الثَّانِي والأربَعين إِلَى آخر القَصِيدَةِ:
وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الأجْزَاءِ تأثِيراً فِي النَّفْسِ لِمَا يَحْوِيهِ مِنْ لَحَظَاتِ بُكاءِ وَأَنِينٍ وَوَدَاعٍ بَيْنَ صَبَاح المَرْزُوق وَعَصاهُ، وَالَّتِي هِي فِي الأصلِ لَحَظَاتُ بُكاءٍ وَألمٍ وَتَأَلَّمٍ مِنَ الشَّاعِرِ عَلَى عَلَمٍ مِنْ أَعْلامِ الثَّقَافَةِ والأدَبِ لَا الحِلِّيِ فَقَط بَلِ العَالَمِيّ أيضاً.
2) عَبْدَ الجبّارِ عَبَّاس
وُلِدَ سَنَةَ 1941 فِي مَدِينَةِ الحِلَّة، وَفِيهَا تُوُفِّي إثرَ جلْطَةٍ دِماغِيَّةٍ يَوْمَ الخَمِيسِ 03 /12 / 1992 . يَقُولُ عَنْهُ الدُّكْتور عَلي جَوَاد طَاهِر: "عَبْد الجبّار عَبَّاس هُوَ فَتَى النَّقْدِ الأدبيّ فِي العِرَاقِ، وَأَنَّهُ النَّاقِدُ الَّذِي حَازَ هَذَا اللَّقَبَ بِحقٍّ، وَيَكْفِي أَنَّهُ وَهَبَ نَفْسَه لِلنّقْدِ وَحْدَهُ، لَمْ يُشْركْ بِهِ عَملاً آخرَ، وَلَمْ يشْغِلْ تِلكَ النَّفْسَ بِوَظِيفَةٍ تُقَيِّدُهُ، فَكَانَ بِذَلِكَ مُتفَرّداً بَيْنَ مَنْ زَاوَلَ النَّقْدَ فِي العِرَاقِ، أوْ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكونَ الأمرُ، فَالنَّقْدُ الأدبيّ نَشَاطٌ قَائِمٌ بِنَفْسِه، إذا أشركَ بِهِ جَارَ الشَّرِيكُ عَلَى الشَّرِيكِ. وَقَدْ أعدّ هَذَا الفَتى نَفْسَه لمُهِمَّتِهِ الَّتِي أحبَّهَا وَرِسَالَتِهِ الَّتِي آمَنَ بِهَا الإعدادَ المُنَاسِبَ مَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ الإعداد وَمَا اسْتَدْعَى مِنْ تَضْحِيّاتٍ وَاسْتَلْزَمَ مِنْ زُهْدٍ وإباءٍ وَتَعَفّفٍ" (76)
إذنْ هُو وحْدهُ هذَا الزّهْدُ، وهَذا الإبَاءُ مَا دفعَ الشّاعِرَ سعد الشلاه للكِتابَةِ عنْهُ لا كناقِدٍ فقط ولكنْ كَعَابِدٍ فِي مِحْرابِ الكلمَةِ والنّورِ (77).
يقولُ الشاعرُ في نصّهِ ((سكران)):
((يمشي وظلّهُ جنباً إلى جنب
يخرجُ من خطواتِهِ المتعثرة
وفجأة يدفعُه إلى فردوس أحلامِه
يشاركُه لحظة التحوّل السحرية
ويرسمُه خارطة زمن عاهر ممزقة
ظلّهُ سكرانٌ منعزل
يفضحُهُ ضوءُ عينيهِ المتعرِّج
كلّما اتجه إلى عمق سحيق
يلتمس الخمرة من روحِهِ
ويُعطّرُه بألق النشوةِ والمناجاة
عندما يشربُه ظلّه حتى الثمالة
لا يشعرُ بالجوع
ويقرأ الكلّ حروفَ رأسهِ بسهولة
يغني ويضحكُ كثيرا ولا يشعرُ بالجوع
تلك الفقاعاتُ المتناثرة من كأسِه
يراها ظلّه وهي تتسامى بلهفة
ولهذا لا يشعرُ بالجوع
هو من يصبّ الخمرة لظلّه
وهو الخمرة التي أدمنَ على شربها...
ولا يشعرُ بالجوع
ولا يشعرُ بالأرض)).
فِي هَذَا النَّصِّ يَضَعُ سَعْد الشلاه القَارِئَ أَمَامَ إشكاليّةٍ صُوفِيَّةٍ فَلسَفِيَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِي إشكاليةُ الظِّلِّ، فلمَاذا الظِّلُّ هُنَا وَمَا عَلاقَتُهُ بِفَتَى النَّقْدِ؟
يَقُولُ عَبْدُ الجَبّارِ عَبَّاس واصفاً حالَهُ:" يَطوِي شَوَارعَ المَدِينَةِ الفَقِيرَةِ؛ يشدُّ مَجَلَّةً أَوْ كتاباً؛ يُحَاذِرُ أَنْ يَلمَحَهُ العَابِرُونَ فَتَجْرحهُ كَلِمَة إنكارٍ أَوْ بسمة سُخْرِيَّةٍ ... يغْرقُ بَيْنَ سُطُورِهِ؛ فَيَنْسَى ضَجِيجَ الثَّرْثَرَةِ وَالمِذْيَاعِ والدّومينُو فِي المَقْهَى؛ حَتَّى إذا أقْبَلَ اللَّيْلُ تَرَقّبَ هَزِيعَهُ الأخيرَ؛ لِيَهْدَأ الزّقَاقُ وَيَنَامَ الأطْفال؛ فَيَقْبَع فِي زاوِيَةِ البَيْتِ؛ وَيَقْتَبِس وَيَخُطّ رَأياً هُنَا أوْ مَلاحظَةً هُنَاكَ" (78).
إِنَّهَا حالَةٌ مِنَ الانْقِطاعِ عَنِ العَالَمِ، وَالعَفَاف وَالزُّهْدِ فِيه، إِنَّهَا الحَيَاةُ الَّتِي اخْتَارَهَا وَعَاشَهَا عَبْدُ الجبّارِ؛ فَقَدْ عَاشَ فَقِيراً وَمَاتَ فَقِيراً، وَلَمْ يَقْتَرِبْ قَطُّ مِنْ عَالِمِ المَرأةِ رَغْمَ أَنَّهُ كتبَ عَنْهَا الكَثِيرَ مِنْ قصَائدِ الغَزَلِ. وَهُوَ قَبْلَ هَذَا وَذَاكَ أَعْلنَ رَفْضَهُ الدُّخُولَ تَحْتَ عَبَاءَةِ السُّلطَةِ وَبِطَانَتِهَا مِمَّا يُفَسِّرُ تَجَاهُلَ أهْلِهَا لَهُ ولإبداعِه الَّذِي بَلغَ عِنَانَ السَّمَاءِ رُغْماً عَنْ سِنِينِ الوَحْدَةِ وَالعُزلَةِ (79).
وحياةُ العُزلةِ هذهِ هيَ التّي تتضّحُ بجلاءٍ في نصِّ سعد الشلاه:
((يمشي وظلّهُ جنباً إلى جنب
يخرجُ من خطواتِهِ المتعثرة
وفجأة يدفعُه إلى فردوس أحلامِه
يشاركُه لحظة التحوّل السحرية
ويرسمُه خارطة زمن عاهر ممزقة
ظلّهُ سكرانٌ منعزل))
وَالظِّلُّ هُنَا هُوَ الشَّخْصِيَّة الرَّئِيسَة دَاخِلَ النَّسَقِ السَّرْدِيِ لِلنّصِّ بأكمَلهِ، وَهُوَ لِهَذَا يَضَعُ القَارِئَ أَمَامَ ثُنائِيّة مُتقابلةِ الطّرفَيْنِ، وَهِي المُشارِ إِلَيْهَا بِالظِّلِّ المَمْدُودِ أَمَامَ الظِّلِّ المَحْدُودِ. ذَلِكَ أَنّ الظِّلَّ المَحْدُودَ هُنَا يَعُودُ إِلَى مَصْدَرِهِ النُّورَانِيّ الَّذِي هُوَ فَتَى النَّقْدِ نَفْسه، وَالَّذِي بِدَورِهِ يُصْبِحُ اِنْعِكاساً لِصُوَرَةِ النُّورِ الأوّل الَّذِي هُوَ نُوَرُ الحَقِّ الَّذِي يَتَجَلَّى وَهَّاجاً كُلَّمَا ازْدَادَتْ مِرآة الإنسانِ صَفَاءً وَنَقَاءً، وَأقصِدُ بالمِرْآة هُنَا مِرآة رُوح النَّاقِدِ عَبْد الجبّارِ عَبَّاس كَمَا يَرَاهَا الشَّاعِرُ سَعْد الشلاه. لِذَا فَالظِّلُّ هُنَا يُصْبِحُ مُرَادِفاً لِلنّورِ، وَمَا دَامَ التجلي عَلَى الأشياءِ يَكُونُ بِطعمِهَا وَلَوْنِهَا وَرَائِحَتِهَا فَإِنَّ ظِلَّ النَّاقِدِ هُوَ عَلَى حالِهِ الرُّوحِيَّةِ، أيْ فِي اِنْتِشاءٍ خمْرِي عِرْفَانِي دَائِمٍ، بَلْ هُوَ الخَمْرَةُ ذاتها، لَا الكأس وَلَا حالَةُ السُّكْرِ، وَهُوَ لِذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِالجُوع لأيِّ شَيْءٍ، لَا لِجَاهٍ، وَلَا لِسُلطَان، وَلَا لآفاتِ الدّنيا بأسرهَا وَعَاهَاتِهَا:
((ولهذا لا يشعرُ بالجوع
هو من يصبّ الخمرة لظلّه
وهو الخمرة التي أدمنَ على شربها...
ولا يشعرُ بالجوع
ولا يشعرُ بالأرض))
وَمَاذَا يُمْكِنُ أنْ يُقَالَ خِتَاماً فِي هَذَا الدِّيوانِ وَعَنْهُ وَقَدْ تَمَّ التّرحَالُ بَيْنَ فَيَافِيِهِ شَرْقاً وَغَرْباً وَشمالاً وَجَنُوباً سِوَى أَنَّه عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الحَفْرِ الدَّؤُوبِ فِي شَتَّى مَعَانِيِهِ المُتَنَوِّعَةِ وَالمُتَغَيِّرَةِ باستمرارٍ، فَإِنَّهُ سَتَبْقَى هُنَاكَ سَاحَاتٌ وَوَاحَاتٌ عَذْرَاءَ لَمْ يَطَأهَا بَعْدَ قَلَمُ الدَّرْسِ وَالنّقْدِ، وَهِي عَدِيدَةٌ وَفِي تَعَدُّدِهَا هَذَا إشارةٌ إِلَى ثَرَاءِ النَّصِّ الشلاهي وَانْفِتاحِهِ عَلَى فَضَاءَاتٍ أخْرى مِنَ الإبْدَاع، خَاصَّة وَأَنّ سَعْد الشلاه فِي تَجْرِبَتِهِ الشِّعْرِيَّةِ الجَديدَةِ هَذِهِ، أَثبَتَ وَعَلَى طولِ نُصُوصِ ((كَفِّ أمِّي))، أنَّهُ مِنَ المُبْدِعِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ فِي التَّوَاصُلِ مَعَ القَارِئِ قَضِيَّتَهُ الأولَى، إِذِ الهَدَفُ الرَّئِيسُ مِنَ الكِتَابَةِ عِنْدَهُ، هُوَ كَيْفِيَّةُ بِنَاءِ العُشِّ الشّعْرِي دَاخِلَ نَفْسِ القَارِئِ بِاعْتِبارِهِ شَجَرَةٌ كَوْنِيَّةٌ عَظِيمَة تَحْتَاجُ إِلَى عِنَايَةٍ وَرِعايَةٍ أَكبرَ مِنَ الكَاتِبِ عُمُوماً وَمِنَ الشَّاعِرِ عَلَى وَجْهِ التّخصيصِ، لَأَنّ هَذَا يَعْنِي السّعْيَ عَبْرَ الفِعْلِ الشِّعْرِي الخَلاقِ نَحْوَ مَحْوِ السّلبِيَّةِ مِنْ حَيَاةِ الإنسانِ، لِذَا تَجِدُ الشَّاعِرَ قَدْ مَلَأَ الدِّيوانَ بِصُوَر وأسْماء عاشَهَا وعَاشتْهُ، وَلَيْسَ المَطلوبُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الصُّوَرُ دَقيقَة جِدّاً أوْ عَلَى قَدْرٍ عَالٍ مِنَ الوُضُوح، وَلَكِنّ الشَّيْءَ الأهمَّ هُوَ أَنْ تكُونَ قَدْ حَقَّقَتْ نَغَميّة مُعَيّنَة عِنْدَ المُتَلَقِّي، وَوَصَلَتْ إِلَى قَلبِهِ وَنَشَّطَتْ بِدَاخِلِهِ الفِعْلَ الخَيَالِيّ والتخليقيّ. لِذَا، فَمَوْقِفُ الشَّاعِرِ هُوَ مَوْقِفٌ كَوْنِي لِأَنَّهُ يعْلمُ أنّ دَاخِلَ شَجَرَةِ القَارِئِ يُوجَدُ عُصْفُورٌ صَغِيرٌ هُوَ روحُهُ، عَلَيهِ أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهُ عَبْرَ نُصُوصِهِ بِصَبْرٍ وَتَأَنٍّ وَحَذَرٍ حَتَّى يَكْتَشِفَ هَذَا العُصْفُورُ أَنَّهُ بِحَقٍّ أَمَامَ شَاعِرٍ يُحَدِّثهُ بِلغَةِ الحَرْفِ المُضِيءِ.

الهوامش:
(1) سعد الشلاه، قصيدة ((أنا شاعر بابلي)) بديوان (كفُّ أمّي).
(2) E. Benveniste, Struttura delle relazioni di persona nel verbo, Milano, Il Saggiatore, 1994, p. 302
(3) Arthur Rimbaud-correspondance, Lettre du Voyant, à Paul Demeny, 15 mai 1871.
(4) سعد الشلاه، تانغو ولا غير، ((معطف صوفي))، دار أريانّا للنشر والتوزيع، إيطاليا، 2014، ص. 46.
(5) الديوان نفسه، ((ثماني دموع))، ص. 68.
(6) Jacques Derrida, L Écriture et la diffèrence, Editions du Seuil, Paris, 1967, p.121
(7) Schleiermacher, Asthetik, Ed Odebrecht, pp.84
(8) St. Thomas, Summa Theologica, I, Ques, 34, and elswhere.
(9) انظر البيتين الشعريين اللذين كتبتُهما خصّيصا لهذه الدّراسة وافتتحتُ بهما هذا الفصل: ((أنتَ في عينِ عيْني نخلةُ القبس// وأنا بينَ يديْ يديكَ مُوسى والطّور)).
(10) وهي الأسطورة التي أشار إليها في أكثر من نصّ من هذا الديوان؛ انظر على سبيل المثال قصيدة (شهقة الجمر): ((أتشبث باللون المنتشر حول أيقونة السّطر الأول // من قصة الخلق والظل المقدس)).
(11) يرجى الاطلاع على قصيدة ((أربع مدن))، وقد ورد فيها مقطع يحمل كعنوان له اسم مدينة بابل.
(12) انظر في الملحق، جزء سعد الشلاه: الصورة رقم 01.
(13) سورة غافر، آية 36.
(14) الإصحاح 11/4 من سفر التكوين.
(15) ومن هنا عبارة (أنا شاعر بابلي "مغمور"):
(16) تمّ التركيز هنا على المعنى الذي أعطته معظم القواميس العربية لمعنى اسم نوح وربطه بالنواح أو كثرة مخاطبته لقومه للعديد من السنين دونما أيّة فائدة أو جدوى، إلا أنّ هناك من يقول من علماء أهل الكتاب بأن اسم نوح ينحدر من جذر (نوح) العبري الذي لا يكاد يختلف عن جذر (نوخ) بالعربية. وهو في كلتا اللغتين يعني الاستقرار والسكون والمكوث والعيش في مكان ما لأطول فترة ممكنة.
(17) وهذا هو الجزء الذي جاء فيه ذكر نوح مقرونا بمدينة بابل: "ذات يوم أراد أن يكون نوحاً بابليا / فغنى ليطهّرَ النهر من الآثام / وصنعَ بأعيننا طوْقاً تاه بين الضفاف" .
(18) تجدر الإشارة إلى أن اسم نوح في الجزء الشلاهي والبابلي تمّ اقتباسه من اسم نوح القرآني بغرض العمل على بنية القضية الجديدة التي أصبحت لها ثلاثة أبعاد فكرية مختلفة وجب إظهارها عبر التحليل والتفكيك: (انظر في الملاحق ج: سعد الشلاه. الصورة 02).
(19) (انظر في الملاحق ج: سعد الشلاه. الصورة 03).
(20) أندريه أيمار وجانين أبوا يته، تاريخ الحضارات العام، ج.1: الشرق واليونان القديمة، ترجمة فريد داغر وفؤاد أبو ريحان، منشورات عويدات، بيروت، 1986.
(21) سورة نوح، الآيتان 26/27:
(22) Fanny Vanzi Mussini, Cinquanta novelle dei fratelli Grimm, Hopeli, Milano, 1857
(23) Roland Barthes, Introduction à l’analyse structurale des rècits, Communications 8, 1966.
Tzvetan Todorov, Les catègories du rècit littèraies, Communications 8, 1966.
(24) (انظر في الملاحق ج: سعد الشلاه. الصورة 04).
(25) مارتن هايدغر، الكينونة والزمان، ترجمة د. فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديدة، بيروت، 2012، ص، 153.
(26) سورة الحجرات.
(27) انظر نصّ ((ثلاث لوحات)) الجزء الخاص باللوحة الثالثة: "قلمه الخشبي/ أطول من رصاصة المسدس/ التي أخطأته أمس بقليل"/ وكذلك قصيدة ((حمدي)): " ذلك الصدر الرحيب الذي عشش بين أضلعه جسم غريب/ وتنكّب أوّل بندقية غدر ورماه بإصرار عجيب"، واطلع أيضا على نصّ ((وجه الفجر)) كاملا.
(28) انظر قصيدة ((خيوط الرّوح))، البيت (30).
(29) د. فاضل عبد الواحد علي، عشتار ومأساة تمّوز، الأهالي للطباعة والنشر، ط.1، دمشق، 1999، ص. 25.
(30) انظر قصيدة ((هذيان الكأس الأخيرة)): (اذكريني، فأنا تموزُ آخر/ وبرأسي عالمٌ سفليّ آخر/ والحضاراتُ شواهد).
(31) يرجى الاطلاع على نصّ ((رباعيات)).
(32) اقرأ قصيدة ((عاشق أزلي)).
(33) انظر تجليات الرقم (7) في مقاطع القصيدة الثلاثة، وفيه إشارة لبلوغ مرحلة الكمال (7/ 14/ 43 التي هي في الأساس 4+3=7).
(34) باعتبارها جارة القلب والروح وقد وردت في نص الشاعر على درجتين: النفس الأمارة (التي تنتفض اختيالا)، والنفس المطمئنة (التي تُنبّه وترشد إلى سواء السبيل: قالت الجارة: أمّك فجثوت).
(35) وهو القاص العراقي أحمد محمد أبو خمرة وقد وافته المنية في يومه 28/04/2014.
(36) انظر مقطع (سجدة الفرح) من قصيدة ((سبع سجدات طوال)).
(37) من قصيدة ((واقفا)).
(38) انظر قصيدة ((خطوات وهمية مع النواب)): من البيت 40 إلى البيت 48.
(39) J. Bachofen, Myth, Religion and Mother Right, New Jersy, Princeton University, 1967, p. 115.
(40) انظر قصيدة قمرية: "أغلقتْ عشتارُ نوافذَ النخيلِ/ وأسدلتِ الستائرَ على ضمير التأريخ/ حدّقتْ بعينيَّ المتحجّرتين/ وحدّثتني ولكن/ بهمسٍ شديد/ قالت: يا ولدي أنت الآن بين تجاعيد النسيان/ فلا تنصتُ إلى فراغ ولا تلتفتُ إلى وراء/ تجرّدِ الآن من قيود جسدك/ خضّبْ/ حروفَكَ بأزهار الربيع/ وخذ قبضة من طين النهرين وابتسم/ شكّلها على هيأةِ حمامةٍ قُمرية".
(41) Robert Briffault, The Mothers: A Study of the Origins of Sentiments and Institutions, Vol.I, The MacMilan Co, New York, 1927, Pp. 27-28
(42) انظر المقطع الأخير من قصيدة ((أمّي)).
(43) انظر نصّه الشعري ((رباعيات)).
(44) اقرأ قصيدتيه: ((حمدي)) و((سبع سجدات طوال)).
(45) يرجى الاطلاع على نصّ ((سيدة النجاة)).
(46) Alan W. Watts, Myth and ritual in Christianity, Grove Press, inc, New York, 1960, Pp. 113-114
(47) سيتم في الفصول القادمة التوقف طويلا عند السبب الكامن وراء إعطاء هذه الدراسة عنوان ((يوسفيات سعد الشلاه بين الأدب والأنثروبولوجيا)).
(48) وأخصّ بالذكر مقطع (سجدة الفرح).
(49) (انظر في الملاحق ج: سعد الشلاه. الصورة 05).
(50) الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، باب معاني أسماء محمّد وعلي وفاطمة (عليهم السلام)، مؤسسة النسر الإسلامي، الحوزة العلمية بقم، 1982، ص، 54.
(51) انظر لوحة الديوان والكفوفَ الزرقاء فيها والتي حُفر في كل كفٍّ منها حرفاً من حروف وصية هذه الزهرة الزرقاء.
(52) انظر على سبيل المثال لا الحصر قصيدة ((شهقة الجمر)).
(53) لقد عملتُ على إبراز النسبة الذهبية الرياضية في الكف والسبّابة وذلك بغرض التركيز على عُلوية الخطاب الشلاهي عبر إشارة المكالمة التي باحت بها السبّابة وهي في حضرة المغيب كي تشرع للعالمين أجمعين باب حضرة الحائين والإمامين وتكتب بذلك النجاة لهم، هذه النجاة التي سبق الحديث عنها في الفقرة الخاصة بنوح الحبل المتين ونوح الإمامة.
(54) وهو نصّ مكمل وشارح لقصيدة ((كف أمي)) وإن كان قد كُتب بعْدهُ بسنين عدّة، ذلك أن عبارة "خافقي الأخضر" الواردة فيه ما هي إلا تأكيد لانتماء الشاعر وهويته الحسينية التي سبق وأن صرخ بها عاليا: "أماه، اطمئني يا أماه/ أبدا والله ما ننسى حسيناه". إضافة إلى الأبيات التي يتحدث فيها عن الميم الأنيق السعيد، الذي ما هو في نهاية المطاف سوى رمز لسيد البرية محمد صلى الله عليه وعلى آله. أمّا مقام الحائين فهو مقام الحسن والحسين، أو الفرقدين كما ورد في الحديث النبوي الشريف أعلاه.
(55) انظر قصيدة (أبو الزهراء).
(56) اطلع مشكورا على نص ((شاهد عيان)).
(57) الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، باب معنى الشمس والقمر والزهرة والفرقدين، مؤسسة النسر الإسلامي، الحوزة العلمية بقم، 1982، ص، 282.
(58) (انظر في الملاحق ج: سعد الشلاه. الصورة 06).
(59) يُرجى الاطلاع على لوحة الغلاف ففي الجزء الأعلى منها تظهر جلية قوس بيضاء تمّ تجسيدها وسَهْمَها عبر تجميع عدد معين من النونات القمرية المتداخل بعضها في بعض.
(60) يرجى الاطلاع على التالي من النصوص: ((أبو الزهراء))، ((هكذا أراه))، ((أربع مدن: بيت لحم)) و((سيدة النجاة)).
(61) قصيدة ((صورتك)).
(62) النصّ نفسه.
(63) يرجى الاطلاع على نصّ ((أسماء)).
(64) Anne, Gotmane, Blanchet et Alain, L’enquête et ses mèthodes: L’entretien, Paris, Editions Nathan, 1992, P.15.
(65) سعد الشلاه، تانغو ولاغير، منشورات أريانا، إيطاليا، 2014، (النسخة العربية) ص. 39 و68.
(66) انظر قصيدة ((سيد رحلتي)).
(67) محسن الجيلاوي، حلقات حلّية، الحلقة الثانية (جسر في الحلّة عمره 841 سنة)، مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية، 2009، ص. 39. انظر أيضا: ظاهر ذباح الشمري، محلات الحلة العتيقة، مجلة جامعة بابل، العدد 4، المجلد 15، بابل، 2008، ص. 1346.
(68) (انظر في الملاحق ج: سعد الشلاه. الصورة 07).
(69) د. أسعد محمد علي النجار، خصائص اللهجة الحلية، مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية، بابل، 2011، ص. 15.
كما تجدر الإشارة إلى أن الشاعر موفق محمد والذي تمّ الاحتفاء به في قصيدة ((المتحرر النبيل)) هو من أكثر الشعراء العراقيين كتابة عن مدينة الحلة وبالذات عن محلة الطّاق فيها، ولربما تكون قصيدته المطولة ((محلة الطّاق)) التي كتبها سنة 2007 أكبر شاهد على هذه الحقيقة الأدبية والتاريخية. ولمزيد من المعلومات يرجى تصفح كتاب "ما قاله الشعراء في الحلة الفيحاء" للدكتور صباح نوري المرزوق، مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية، بابل، 2012، ص. 42.
(70) د. علي هادي عباس المهداوي، الحلة في السالنامات العثمانية، دراسة تاريخية وثائقية، الحلة، مكتبة الرياحين، 2005.
(71) د. سعد الحداد، ديوان الحلة، أنطولوجيا الشعر البابلي المعاصر، منشورات بابل للثقافات والفنون والإعلام، بابل، 2012، ص. 294.
(72) أبو عبد الله ابن محمد اللاواتي (ابن بطوطة)، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، دار صادر، بيروت، 1992، ص. 220.
(73) د. سعد الحداد، موسوعة أعلام حلية، ج 1، مكتب الغسق، بابل، 2001.
(74) الدكتور باقر محمد جعفر الكرباسي، الجهد البيبلوغرافي عند الدكتور صباح نوري المرزوك، مجلة مركز بابل، العدد الثاني، 2011، ص. 56 ـ 69.
(75) رزاق إبراهيم حسن، جريدة الزمان الدولية، عدد 17/01/2014.
(76) د. علي جواد طاهر، الحبكة المنغمة (مقالات في نقد الشعر والنقد القصصي/ عبد الجبار عباس)، إعداد بالاشتراك مع الدكتور عائد خصباك، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1994، ص. 14 ـ 15.
(77) تجدر الإشارة بأن عبد الجبار عباس، أو أيقونة النقد العربي وفتاه الفريد ألهم العديد من الشعراء العراقيين فجادت قريحتهم بنصوص مختلفة ومتنوعة كقصيدة (الجبّ والعقرب) التي كتبها عنه الشاعر الحلّي موفق محمد، هذا الأخير الذي ورد اسمه أيضا في ديوان الشاعر سعد الشلاه لأكثر من مرّة، لذا وجب التنبيه إلى هذا الميكانيزم التوالدي والتفاعلي المستمر والمتجدد بين الأسماء التي تتحرك داخل هذه المجموعة الشعرية عبر خط سردي، يشبه حبلا سريا يربط العناصر الشعرية والبناء المعماري داخل كل نص من نصوص سعد الشلاه.
(78) سعد جاسم، في ذكرى رحيل فتى النقد العراقي، عبد الجبار عباس: حياة حافلة بالإبداع والحرمان، الحوار المتمدن، عدد 1410، 2005.
(79) لمزيد من التفاصيل الخاصة بالمسار الأدبي والإنتاج النقدي والشعري لعبد الجبار عباس يرجى الاطلاع على مقالة باسم عبد الحميد حمودي بعنوان (عبد الجبار عباس في ذكراه) وقد نشرت في صحيفة المدى، بالعدد 551، الاثنين، كانون الأول 2005.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب