الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كافكا والحرب الخاسرة ضد البيروقراطية

يحيى البوبلي

2023 / 1 / 10
الادب والفن


بعد انتظار دام ثلاث ساعات، جاء دوري أخيراً لتقديم طلب الحصول على دفتر عائلة جديد. توجهت للموظفة وألقيت عليها التحية. لم ترد ولم تنظر إلي. قدمت لها الأوراق، فتفحصتها بشيء من القرف وقالت: أين دفتر عائلة الأب؟ - ماذا تقصدين؟ سألتها وقد علت وجهي نصف ابتسامة خرقاء. – دفتر عائلة أبيك! أحتاج نسخة منه، قالت بنبرة حادة. أخبرتها بثقة أن هذا لم يذكر في المتطلبات الموجودة على الموقع الالكتروني، فقالت: يا أخي لا تغلبني، اذهب وأحضر نسخة كما قلت لك وارجع، ثم عادت لتنظر لشاشة الكمبيوتر وجاء دور الشخص التالي. شعرت بالغضب وبرغبة في الصراخ، لكنني لم أفعل. سيكون علي العودة مرة أخرى والانتظار، على أمل أن تكون معاملتي كاملة. إن عزائي في تلك اللحظة كان بتذكري لأبطال روايات أحد الأدباء المفضلين لدي، فرانز كافكا. إن ما مررت به لا شيء مقارنة بما حصل لغريغور سامسا أو لجوزيف ك.

البيروقراطية موضوع مركزي في أدب فرانز كافكا. اشتهر كافكا بقصصه التي تستكشف علاقة الفرد بالسلطة بطريقة توصف غالباً بأنها "كابوسية"؛ حيث تمر شخصيات قصصه بمواقف عبثية تتنافى مع المنطق، وبنفس الوقت يستحيل الفكاك منها كشعور الإنسان باستحالة استيقاظه من كابوس مزعج. في العديد من أعماله، يصور كافكا البيروقراطية على أنها قوة لا يمكن التغلب عليها، تحطم روح الإنسان وتجرده من إنسانيته. إن تصوير كافكا للبيروقراطية هو انعكاس لتجاربه مع الأنظمة البيروقراطية في عصره. لقد رأى كيف يمكن استخدام البيروقراطية لقمع الأفراد والسيطرة عليهم، وكيف يمكن استخدامها لإحباطهم وتشويشهم. كتب كافكا أعماله في بدايات القرن العشرين، ولا تزال ظلالها حاضرة في حياة الفرد في أيامنا هذه.

أحد أشهر أعمال كافكا، رواية التحول (أو المسخ في بعض الترجمات العربية)، تدور أحداثها حول بطل الرواية غريغور سامسا، الذي يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة. على الرغم من هذا التحول، يظل غريغور هو نفس الشخص، بمشاعر وأحاسيس إنسانية مسجونة في جسد حشرة، ويواصل محاولة الوفاء بالتزاماته باعتباره المعيل لأسرته. ومع ذلك، فإن بيروقراطية وظيفته تجعل من المستحيل عليه توصيل وضعه لرؤسائه، وفي النهاية يتم تجاهله وإساءة معاملته من قبل الجميع من حوله، وتنتهي المعاناة بموت غريغور.

في رواية كافكا "المحاكمة"، يروي لنا قصة رجل يدعى جوزيف ك الذي تم اعتقاله ومحاكمته بتهمة ارتكاب جريمة مجهولة. طوال الرواية، يخضع جوزيف ك لسلسلة من الإجراءات والعمليات البيروقراطية التي لا يفهمها. يتم نقله من مسؤول مجهول إلى آخر، ويتنقل بين المكاتب الحكومية التي توجد في أكثر الأماكن غرابة، وفي الكثير من الأحيان يستقبل معلومات متضاربة من المسؤولين المختلفين. على الرغم من بذل قصارى جهده للدفاع عن نفسه والمرافعة في قضيته فإن جوزيف ك لا يقدر في النهاية على الهروب من القوة الساحقة للبيروقراطية، ويتم إعدامه دون أن يعرف (ودون أن نعرف نحن كقرّاء) ما هي تهمته.

في رواية القلعة، يروي كافكا قصة رجل اسمه ك. يصل ك إلى قرية نائية حتى يعمل كمساح أراضٍ. يحاول ك خلال أحداث الرواية الوصول إلى القلعة التي تلوح في الأفق فوق القرية، في محاولة للحصول على تأكيد أنه سيتم توظيفه. تحيط بالقلعة هالة من الغموض وعدم التأكد، ويجد ك نفسه في وضع يجبره على التنقل في شبكة معقدة من المسؤولين والقواعد واللوائح. على الرغم من إصراره، لا يستطيع ك أبدًا الدخول إلى القلعة أو حتى مقابلة المسؤولين الغامضين المقيمين هناك. مات كافكا دون إكمال هذه الرواية، إلا أنه أخبر صديقه ماكس برود بالكيفية التي تنتهي بها. يموت ك دون الوصول للقلعة ودون معرفة وضعه في القرية، وبعد وفاته يصل خبر من القلعة يفيد بتعيينه مساح أراضٍ في القرية.

في كل من المحاكمة والقلعة، يستخدم كافكا البيروقراطية كاستعارة للطرق التي يمكن من خلالها قمع الأفراد والسيطرة عليهم من قبل أنظمة السلطة. يتم تصوير البيروقراطية على أنها قوة هائلة غير شخصية تسحق الفرد. دائماً ما تكون شخصيات كافكا عاجزة في مواجهة هذه البيروقراطية، وغير قادرة على فهم قواعدها وأنظمتها. ويلاحظ أن البيروقراطية في أعمال كافكا مجهولة وبلا وجه. يصور كافكا المسؤولين والإداريين كشخصيات مجهولة الهوية وقابلة للتبادل تفتقر إلى الفردية والشخصية. في المحاكمة على سبيل المثال لم يتمكن جوزيف ك أبدًا من رؤيه وجوه المسؤولين الذين يقاضونه. يشار إليهم دائمًا من خلال ألقابهم أو مناصبهم، ولا يعرف جوزيف ك أبدًا أسمائهم أو شكلهم. وفي أحد مشاهد رواية القلعة، يتلصص ك من خلال فتحة الباب على أحد الموظفين المهمين في القلعة لكنه لا يتمكن من تمييز ملامح وجهه.

لا مفر من البيروقراطية عند كافكا؛ فهي قفص كبير يبحث دائماً عن طيور جدد ليحبسهم دونما مخرج، وهي شبكة عنكبوت لا مرئية تلتف حول عنق كل من يتعثر بخيوطها. إن القدرة اللانهائية للبيروقراطية وطابعها الغامض في أدب كافكا يجعلنا نفكر بتأويل أعمق في عالم فوق العالم الذي نعيش فيه. لقد ألقي بنا نحن البشر في عالم بارد بلا معنى، وبحثنا عن غاية لحياتنا يجعلنا نتطلع لعالم آخر. إن هذا العالم موجود في مكان ما في أدب كافكا، لكنه عالم لا فرق فيه بين النعيم والجحيم، ولا ينبغي للإنسان أن يبحث فيه عن الخلاص المنشود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه


.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان




.. الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت في مهرجان -كان- بفستان بـ-ألو


.. مهرجان كان 2024 : لقاء مع تالين أبو حنّا، الشخصية الرئيسية ف




.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول