الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التراث الإشتراكي في مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي

جاسم الحلوائي

2006 / 10 / 12
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ليس بالجديد على الحزب الإشارة، بهذا الشكل أو ذاك، الى الإستفادة من التراث الإشتراكي في وثائقه الأساسية منذ مؤتمره الخامس، مؤتمر الديمقراطية والتجديد. ولكن الإشارة جاءت بارزة هذه المرة في مشروعي البرنامج والنظام الداخلي المطروحين للمناقشة، بإعتبار "سائر التراث الإشتراكي" مرجعا فكريا إضافة للفكر الماركسي، مما أثار مناقشات وتساؤلات حول ماهية هذا التراث. هذه مساهمة في النقاش، من خلال القاء الضوء على هذا الموضوع، عسى أن تكون مفيدة.

إستخدم أتباع الإشتراكي الطوباوي الإنكليزي روبرت أوين لأول مرة لفظة (إشتراكي) في المجلة التعاونية في عام 1827، ثم وردت في مجلة "الكرة" عام 1832 كتسمية لأتباع الفرنسي سان سيمون. وفي عام 1841 صار لقب "الاشتراكيون" عنواناً رسمياً لأتباع أوين من الإنكليز، وبدأ يشيع استعمال مصطلح "اشتراكية" كنقيض للفردية، وكعنوان للنضال ضدّ نظام التنافس المنفلت الضاري، وإحلال طريقة جديدة في الحياة تقوم على التنظيم الجماعي.

وقد صاغ الرواد الأوائل للإشتراكية كلمة (إشتراكي) من لفظة إجتماعي (Social) في مواجهة لفظة فردي (Individidual) وذلك لوضع المسألة الإجتماعية في مقدمة مسائل حقوق الإنسان محاولين بذلك مقاومة المبالغة لدور الفرد كعنصر إجتماعي في العلاقات الإنسانية.

وقد وصف كارل ماركس وفردريك انجلز في البيان الشيوعي أتباع هذه المذاهب بالاشتراكيين الطوباويين. والإشتراكية الطوباوية تعني : تنظيماً جماعياً لشؤون الناس قائم على أساس تعاوني، ويهدف إلى سعادة الجميع ورفاهيتهم وليس بالإستناد الى "السياسة"، ولكن الى الإنتاج وتوزيع الثروة، والى تعزيز العوامل المشتركة في تربية المواطنين على أسس تعاونية،لا تنافسية، من السلوك والمواقف لبناء مجتمع جديد يلغى فيه إستغلال الإنسان للإنسان. و يعمل كل إنسان في هذا المجتمع حسب قدرته، ويتلقى حسب عمله، ولا وجود هنا لسيادة الأقلية على الأكثرية. وقد ثمن البيان الشيوعي نزعة الاشتراكيين الطوباويين النقدية للنظام الرأسمالي وأهمية ذلك في رفع وعي العمال. وفي عين الوقت إنتقد البيان مشاريعهم الطوباوية (الخيالية) وإعتبرها قصورا مشيدة على رمال. ورأى بأن ظهورها تعبيرعن الحقبة الأولى الجنينية من الصراع بين البروليتاريا و البرجوازية.

وإذا كانت الإشتراكية ككلمة قد صاغها طوباويو النصف الأول من القرن الثامن عشر فإن الكثير من أفكارها، كما سنرى وجدت قبل ذلك بكثير. وكانت تلك الأفكار إنعكاسا لظروف الإستغلال اللإنسانية القاسية التي كان يعاني منها العمال وكافة الشغيلة، حيث كانت ساعات العمل تمتد الى 12 ساعة في اليوم، وفي ظل ظروف عمل سيئة للغاية، مع تشغيل الأحداث على نطاق واسع جداً.

قبل حوالي ستة قرون توصل السياسي الإنكليزي توماس مور (1478-1535)، والذي إشتهر بكتابه يوتوبيا (المدينة الفاضلة)، إلى أن الملكية الخاصة وسوء توزيع الثروة هما السببان في بؤس وحرمان بعض فئات المجتمع. وإعتبر إن المساواة وسعادة الناس وتطور مزاياهم الجسمية والعقلية، وبالقدر نفسه العدالة الاجتماعية والتسيير الرشيد لشؤون المجتمع، لا يمكن تصورها ما دامت الملكية الخاصة قائمة وما دامت الثروة التي يخلقها عمل الأكثرية ، تقع في أيدي الأقلية. ولذلك دعى مور إلى إقامة مجتمع لا وجود فيه للسادة ولا للعبيد، مجتمع يقدم فيه المواطن عمله ويحصل لقاء ذلك على حاجته فقط. كما دعا مور إلى توزيع الثروة بين الناس بالتساوي. وجاء بعده العديد من الرواد الأوائل الذين ينتمون بأفكارهم للإشتراكية الطوباوية في أوربا مثل الإيطالي تومازو كامبانيللا (1586-1639) والفرنسي جان ميليه (1664-1739) وصولا الى الرواد الذين وصفوا بالإشتراكيين. ومن الجدير بالذكر إن العمال والشغيلة ناضلوا نضالا مديدا ومجيدا من أجل تحقيق تلك الأفكار الإشتراكية. ويفسر لينين أسباب نشوء الإشتراكية الطوباوية وفشلها بالآتي: " عندما دُك النظام الإقطاعي، ورأى المجتمع الرأسمالي "الحر" النور، تبين فورا ان هذه الحرية تعني نظاما جديدا لإضطهاد الشغيلة واستثمارهم, وعلى الفور اخذت تنبثق شتى المذاهب الاشتراكية انعكاسا لهذا الاضطهاد واحتجاجا عليه. ولكن الاشتراكية البدائية كانت اشتراكية طوباوية. فقد كانت تنتقد المجتمع الرأسمالي وتشجبه وتلعنه، وتحلم بازالته وتتخيل نظاما افضل منه. وتسعى الى اقناع الاغنياء بأن الاستثمار مناف للاخلاق. ولكن الاشتراكية الطوباوية لم تكن قادرة على الاشارة الى مخرج حقيقي. ولم تكن تعرف كيف تفسر طبيعة العبودية المأجورة في ظل النظام الرأسمالي، و لا كيف تكتشف قوانين تطور الرأسمالية، ولا كيف تجد القوة الإجتماعية القادرة على الإنتصار والخالقة للمجتمع الجديد.( 1 )

أعتقد إن الحديث عن التراث الإشتراكي في مشروع برنامج الحزب لا يذهب، من الناحية التاريخية، أبعد من الإشتراكية الطوباوية التي إنبثقت مع ظهور النظام الرأسمالي والطبقة العاملة، والتي دعت وسعت، ولكن بأساليب غير واقعية، الى بناء مجتمع جديد يلغى فيه إستغلال الإنسان للإنسان. وفي هذا المجتمع، يعمل كل إنسان حسب قدرته ويتلقى حسب عمله. وأعتقد إن هذه أفكار جوهرية لا يمكن الإستغناء عنها في أي تعريف للإشتراكية. وهكذا نرى إن النظام الإشتراكي طرح كبديل للنظام الرأسمالي وليس لنظام آخر ومع ظهور الطبقة العاملة التي يعتبر الحزب الشيوعي العراقي حزبها أولا وقبل كل شيء، وإن تراثه الفكري الإشتراكي هي الأفكار التي ظهرت قبل حوالي ستة قرون وإنبرت للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وطموحاتها في نظام جديد خال من إستغلال الإنسان للإنسان. وبما أن جوهر الإشتراكية هي العدالة والمساواة والحرية، فإن الإشتراكيين يستلهمون التراث الفكري والنضالي لجميع الحركات والثورات التي ناضلت من أجل تلك الأهداف. إن هذا التراث هو تراث إنساني عام تستلهمه جميع الأحزاب والحركات التي ناضلت وتناضل بصدق ضد الإضطهاد والعسف واللامساواة. فلا غرو أن يشير مشروع برنامج الحزب في مقدمته الى أن الحزب "يستلهم، وهو يضع برنامجه، الإرث التقدمي لحضارة وادي الرافدين والحضارة العربية الإسلامية وعموم الحضارة الإنسانية، فضلا عن تراث الشعبين العربي والكردي والقوميات والمكونات الأخرى في وطننا، ورصيدها النضالي."

أما نعت الحركات والشخصيات،التي دعت وناضلت وسعت الى تطبيق نوع من العدالة والمساواة والحرية قبل ظهور الرأسمالية، بالإشتراكية، فإنه وصف مجازي وغير علمي. لقد كان العراق زاخرا بتلك الحركات لا سيما في القرنين الثالث والرابع الهجري/ الثامن والتاسع الميلادي. فعلى تخوم العراق الشرقية الشمالية إندلعت الثورة البابكية الخرميّة التي إستمرت 22 عاما، لتليها ثورة الزنج في البصرة التي دامت 15 عاما. ولم تكن ثورة الزنج قد إنتهت بعد، حتى بدأت حركة القرامطة في الكوفة والتي نمت وإنتشرت طوال النصف الثاني من القرن الهجري الثالث في ربوع العراق وسورية والبحرين، حيث بسطت ظلالها على القرن الرابع الهجري وما بعده.( 2 )

ويذهب الدكتور على الوردي أبعد من ذلك، في إستخدامه كلمة الإشتراكية، عندما يعتبر الصحابي أبو ذر الغفاري قائدا لحركة إشتراكية في عهد الخليفة عثمان بن عفان. فقد كان أبو ذر يجوب الشوارع صائحا بالأغنياء أن يوزعوا أموالهم كلها على الفقراء. وكان يردد آية من القرآن وهي: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم..) وقد نُفي من أجل ذلك مرتين: مرة الى الشام ومرة أخرى الى الربذة حيث مات فيها.( 3 )

ومبعث هذا الإستخدام المجازي هو أن الإشتراكيه تستهدف في التحليل الأخير نظاما إجتماعيا تطبق فيه العدالة والمساواة التي فقدت منذ إنقسام المجتمع الى طبقات جراء ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ومع فقدانها إنبثقت نزعة المطالبة والنضال من أجل العدالة والمساواة هذه النزعة التي تضرب جذورها عميقا في التاريخ البشرى وكما يقول كاوتسكي:

ـ في الواقع، ما أن يظهر انقسام المجتمع إلى طبقات حتى يبدي الإنسان حنينه إلى الحياة المشاعية القديمة. ونجد تعبيرات هذا الحنين في حلم "العصر الذهبي" الذي يقال أنه ساد عند فجر وجود البشرية على الأرض والذي وصفه الأدباء الكلاسيكيون الصينيون، شأنهم في ذلك شأن الكتاب الإغريق واللاتينيين."

أعتقد إن الحنين الذي يشير اليه كاوتسكي هو الذي يفسر لنا نزوع الكثير من المفكرين والمثقفين نحو أهداف العدالة والمساواة وإنحيازهم للطبقات والفئات الإجتماعية المستغلة وتقديمهم تضحيات جسيمة في هذا الطريق عبر مراحل التاريخ المختلفة.

ويضيف كاوتسكي:

ـ أمّا الأفكار الشائعة التي تتردد دائما والقائلة أن التفاوت الاجتماعي يجد جذوره في تفاوت مواهب الأفراد أو كفاءاتهم، وأن انقسام المجتمع إلى طبقات هو نتاج "أنانية الإنسان الغريزية" وبالتالي نتاج "الطبيعة الإنسانية"، فهي أفكار لا أساس علمي لها. إن اضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ليس نتاج "الطبيعة الإنسانية"، بل نتاج تطور تاريخي للمجتمع. إنه اضطهاد لم يكن موجودا دوما ولن يبقى إلى الأبد. فلم يكن ثمة أغنياء وفقراء دوما ولن يبقى أغنياء وفقراء إلى الأبد.( 4 )

والى جانب التيارات الإشتراكية الطوباوية، التي كانت منتشرة في اوربا أواسط القرن الثامن عشر ، كانت هناك منظمات وتيارات إشتراكية عديدة أخرى من أبرزها: البرودونية والباكونية والتريديونية. وقد تميزت تلك الفترة بإندلاع الثورات الديمقراطية في اواسط أوربا وبعض من شمالها. في هذه الظروف ظهرت الإشتراكية العلمية . ونسبت لماركس رغما عنه، فقد رفض ذلك في حياته وصرح بأنه ليس "ماركسيا".

في ايلول /سبتمبر سنة 1844 جاء فريدريك انجلز الى باريس لقضاء بضعة ايام فيها فأصبح منذ ذلك الحين الصديق الحميم لماركس. وقد اسهم كلاهما بأشد الحماسة في الحركة الثورية التي كانت آنذاك في باريس وخاضا نضالا حادا ضد مختلف النظريات والتيارات الاشتراكية المذكورة في أعلاه، وضد الإتجاه اليميني في اللاسالية. و في ربيع 1847 انتمى ماركس و انجلز الى جمعية سرية للدعاية هي "عصبة الشيوعيين". وقاما بقسط بارز في المؤتمر الثاني لهذه العصبة المنعقد في لندن. و في تشرين الثاني/نوفمبر 1847 وبناء على تكليف من المؤتمر، وضع ماركس و انجلس "بيان الحزب الشيوعي" المشهور. وهكذا ظهرت الإشتراكية العلمية مستندة الى فلسفة جديدة هي المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، التي إستفاد مؤسسوها من كل ما هو صحيح في الفلسفة الألمانية ممثلة في لودفيغ فورباخ وفريدريك ويلهلم هيغل، والإقتصاد الإنكليزي ممثلا بآدم سميث وريجارد ريكاردو، والتجارب الإشتراكية الفرنسية. وكانت هذه البلدان الثلاثة هي الاكثر تقدما في العالم. وليس من مهمة هذا المقال القيام بعرض للنظرية الماركسية، فهناك عرض مركز ولكنه وافي يقع في أكثر من 20 صفحة للماركسية بقلم لينين يجده المرء في موقع "الطريق"الصفحة الفكرية وموقع "الحوار المتمدن"، والرابطين مثبتين في نهاية المقال.

إن الإشتراكية العلمية، بإعتبارها علما، لا يمكن أن تكون، كأي علم آخر، كاملة في يوم ما. ويتطلب الأمر تطويرها بإستمرار وبمختلف الإتجاهات بما في ذلك منهجها، وتشذيبها من الأجزاء التي لم تزكها الحياة، مع المراعاة الدقيقة للظروف الخاصة في كل بلد عند تطبيقها.

وهكذا فإني أعتقد بأن "سائر التراث الإشتراكي" التي وردت في مشروعي البرنامج والنظام الداخلي تعني الإشتراكية الطوباوية وتراث الأمميات الثلاث وكل المدارس الإشتراكية التي رافقت الماركسية وتبعتها، بما في ذلك التجربة السوفيتية الفاشلة في بناء الإشتراكية. ويسترشد الحزب بما هو صحيح في هذا التراث في ضوء فهمه للفكر الماركسي وتجاربه الغنية. ويحترم الحزب ويتعايش مع كل الأحزاب والتيارات الإشتراكية الموجودة على الساحة العالمية،بدءا بالأحزاب الإشتراكية الديمقراطية وإنتهاء بالأممية الرابعة مرورا بالأحزاب الشيوعية والإشتراكية. ولايقلد الحزب الشيوعي العراقي أحدا، ولا يلعن ويشتم ويخوّن من لا يتطابق معه في الرأي، كما كان الأمر سابقا في الحركة الإشتركية العالمية. ولا يتنازل الحزب عن حقه في نقد ما يراه خاطئا. ويعمل على"المساهمة في نضالات ومؤتمرات القوى والفعاليات السياسية والاجتماعية اليسارية والتقدمية والديمقراطية في سياق حركة أممية، ديمقراطية النهج والأطر والأساليب، من اجل التقدم والعدالة الاجتماعية." كما جاء ذلك في مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي.

http://www.iraqcp.org/fakri/mar7.htm
http://www.rezgar.com/m.asp?i=32
________________________________________
[1] - لينين، مصادر الماركسية الثلاثة واقسامها المكونة الثلاثة. موقع الطريق الأليكتروني، الصفحة الفكرية
[2] ـ إنظر حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفية العربية الإسلامية، الجزء الثاني ص 12.
[3] ـ أنظر الدكتور علي الوردي: "وعاظ السلاطين" ص 76 و110 .
[4] ـ كاوتسكي، " التفاوت الاجتماعي والنضالات الاجتماعية عبر التاريخ" الفصل الأول









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو