الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بأي معنى لستُ وطنيًا؟

وليم العوطة
(William Outa)

2023 / 1 / 13
سيرة ذاتية


إذا كنّا نعني بالوطن الشعور بالإنتماء إلى أمكنة وأشخاص وذكريات إيجابيةٍ(سواء أكانت ‏سعيدة أم حزينة) مرتبطة بهذه وهؤلاء، فأنا، بلا ريب، وطنيّ، ووطنيّ مخلصٍ طالما أنّني لا ‏أنفكّ أشعر لا فقط بالإنتماء إلى مكانٍ وزمانٍ وإلى آخرين في هذا المكان، بل أيضًا بالمسؤولية ‏تجاههم. لا همَّ إذا كان الوطن هنا حيّ أو قرية أو بلدة أو مدينة أو ما هو أوسع من ذلك أو ‏أضيق، فقد يكون مدرسةً أو بيتًا أو غرفةً فيه أو لقاءً أو مصافحةً أو حبًّا أو حزبًا أو ناديًا أو ‏دينًا أو عقيدةً أو قضيةً أو حتّى الأرض بأكملها..إلخ لا يتعلّق الأمر بالجغرافيا والامتداد ‏المكانيّ وبالأعراق البشرية وبأجناس الكائنات الحيّة، بقدر ما يتعلّق بالديناميات العاطفية ‏والذهنية والفكرية والجسدية المستمرة في الزمان والتي اعتملت فيّ وتمظهرت في حركتي ‏ومواقفي ولغتي وأنماط وجوديّ الخاصّ بالعلاقة مع ما هو خارجٌ عنّي، أي مع آخرٍ، سواء ‏أكان كائنًا حيًّا أو كيانًا ماديًا ذا دلالات تخصّ جماعة أو جماعات، ذات ذكريات مشتركة، ‏انتميتُ إليها. وطني هنا هو الموطن (بالمعنى الروحيّ أكثر مما هو بالمعنى الماديّ) بما هو ‏الشرط الأخير لوجوديّ ولكوني، بصحبة الآخرين، كائنًا مستحقًّا للكرامة والازدهار، أي هو ذلك ‏المشترَك الحيويّ الذي يمنحنا حيّزًا كافيًا لممارسات الحرية مع الآخرين، ويجعلنا نشعر بأنّ ‏العالم كلّه بيتنا وبأننا في ضيافة الآخرين وفي الآن عينه نستضيفهم فيه، والذي يقتضي منّا، ‏بالمقابل، مسؤوليةً أخلاقية-سياسية تجاهه بكلّ ما فيه.‏

أمّا إذا عنينا بالوطن ذلك الترتيب الترابي/الأيديولوجيّ والسّياسي-الاقتصادي الذي ينشأ فيه ‏وعنه قوميةٌ ما أو أمّةٌ ما أو مواطنون بجنسيةٍ قسريةٍ ما، أي الوطن المعروف بأعلامه وأناشيده ‏وحدوده البرية والبحرية وبرؤوسائه وملوكه وزعمائه (الوطنيين جدًا)، وبأساطيره التأسيسية عبر ‏تاريخه المختلَق، وبحروبه التحريرية المزعومة، وبإنجازات أبطاله العسكريين والديبلوماسيين ‏القوميين والوطنيين الفريدة، وبجيشه القويّ الجبّار وقواه الأمنية الساهرة على خدمة المواطنين ‏وبحرس حدوده، ومنتخاباته الرياضية...إلخ هذا الوطن الذي يُفرَض علينا كلّ يومٍ ويُراد منّا أن ‏نعامله كبديهة ومسلّمة لا يجوز التشكيك بها، والّذي يُراد لنا التضحية بحياتنا من أجله، والذي ‏لا يستمرّ إلاّ إذا كنّا دائمًا متأهبّين للدفاع عنه ضدّ أعداءٍ مفترضين من الداخل والخارج ‏يهددون وجوده، وإلاّ إذا سلّمنا بقدسية دولته ومؤسساته ودستوره..إلخ هذا الوطن الذي لم يكن ‏ليظهر إلاّ لأنه في لحظاتٍ تاريخيةٍ لبّى مصالح طبقات اجتماعية أقلوية ولكنّها عليا بيدها كلّ ‏مكامن العنف والقوّة المادية والاجتماعية والأيديولوجية على حساب مصالح طبقاتٍ أخرى، ‏أغلبية، ولكنّها جُرّدَت من قواها المادية واُغرِقَت بالفقر والاستغلال والتجهيل، وجرى التضحية ‏بها تحت اسم الوطن أو القومية والجنسية والحدود...إلخ وهذا الوطن الذي استمدّ ويستمدّ ‏شرعيته الدولية من كياناتٍ استعمارية واحتلاليةٍ رسمت حدوده بما يتوافق مع مصالحها ‏ومصالح وكلائها المحليين(الوطنيين حقًّا!)، وكسب ويكسب شرعيته المحلية من آليات تحكّمٍ ‏واستعبادٍ على شكلٍ ديمقراطيّ أو ديكتاتوريّ حزبيّ أو قبليّ أو دينيّ أو جهويّ..إلخ هذا الوطن ‏المختلّق والمفبرك والمصطنع رغمًا عنّي وعن أفكاريّ وانتماءاتيّ الصغرى والكبرى هو الوطن ‏الذي أرفضه. وعليه، وبهذا المعنى، لستُ وطنيًا ولن أكون. لن أكون وطنيًا طالما أنّ الوطن ‏ستُحدّد جوهره الدولة ورأس المال. ولن أكون وطنيًا طالما أنّ الوطن هذا يفصلني، عنوةً ورغمًا ‏عنّي، عن كلّ الأوطان والشعوب الأخرى. ‏

ولكنّ رفضي أن أكون وطنيًا لا يعني رفضي لمعارك التحرير الوطنيّ والاستقلال وتقرير ‏المصير طالما سترتبط ببرنامج لتحرير البشر، أيًّا كانوا، والأرض، أينما كانت، ضدّ كلّ ‏احتلالٍ[خارجيّ أو داخليّ]. قضايا التحرير الوطنيّ والاستقلال وتقرير المصير ترتبط عندي ‏بالفهم الأوسع للوطن كما أوردته في القسم الأوّل من نصّي هذا، ومن ثمّ يصبح حتّى الصراع ‏ضدّ الدولة(هذا الكيان البارانوي المعنِّف عدوّ الحياة) صراعًا للتحرير أيضًا، لا بل يصبح ‏النضال من أجل إلغاء الحدود والجنسيات والدول وجيوشها وأجهزتها القمعية نضالاً من أجل ‏تحرير أوطاننا الخاصّة والعامّة بما هي ذكرياتنا وخبراتنا مع الآخرين، بما هي ممارساتنا الحرّة ‏والمسؤولة مع الآخرين ومع الأرض مع كلّ ما عليها. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات الطلاب الأمريكيين ضد الحرب في غزة تلهم الطلاب في فرن


.. -البطل الخارق- غريندايزر في باريس! • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بلينكن في الصين.. مهمة صعبة وشائكة • فرانس 24 / FRANCE 24


.. بلينكن يصل إسرائيل الثلاثاء المقبل في زيارة هي السابعة له من




.. مسؤولون مصريون: وفد مصري رفيع المستوى توجه لإسرائيل مع رؤية