الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم الخير

علي فضيل العربي

2023 / 1 / 13
الادب والفن


صقلتها الليالي الطوال بالصبر و الثبات . أم الخير اسم على مسمى . امرأة جذورها عميقة ، ثابتة في قلب العزة ، و فرعها ضارب بجذوره في أعنان الشموخ . لم تلن لها قناة ، و ما انكسر لها رمح و لا سيف في وهج المعركة . ما استكانت لحظة بعدما أدركت أنّ الحياة الكريمة تُؤخذ غلابا ، و لا تُوهَب . شهد لها رفاق السلاح بالشجاعة . حملت بندقية الجهاد . لم يتزحزح لها بال حتى رأت بعينيها المحتل الغاصب يجر أذيال الهزيمة و الخسران نحو بلاده . هي امرأة لا تعرف المستحيل .
قيل لها :
- الجبال و الوديان و القمم و الفجاج للرجال .
قالت بكل تحد و عزيمة :
- الجهاد لم يشرّع للرجال دون النساء .
انتفضت في وجه المتخاذل و المحتل . صارت بطولتها حكايات ترويها ألسنة الجدات و الأمهات .
قالت أم الخير :
- كنا في زمن الثورة قلبا واحدا ، و يدا واحدة . اقتسمنا الحزن و الجوع و المرض و كل ألوان العذاب . لكن يدا شيطانية تسللت في غفلة بيننا .
و مازالت أم الخير على عهدها مع الأرض لا تبرحها إلا مكرهة . لقد نيّفت على الثمانين و لمّا تزل تصارع نوائب الدهر . تسرح ببقراتها ومعزاتها ، و تتفقد أشجار التين و الزيتون و تحث الأبناء و الأحفاد على خدمة الأرض شبرا شبرا . تذكرهم بتضحيات الأبطال من الرجال و النساء الذين صدقوا الله وعده في بذل الأموال و النفوس بسخاء لا مثيل له .
و في ليلة ليلاء اقتحموا عليها بيتها المتواضع . كانوا أربعة أنفار مدججين بالسلاح . اقتادوا ابنها و واسطة عقد ها إلى وجهة مجهولة . حاولت منعهم بكل ما تملك من قوة
و رجاء و توسل و حيلة . لكن قواها انهارت أمام جدار الصمت و الإصرار .
قالت لهم متوسلة :
- أنا امرأة مجاهدة ، ارحموا كبدي .
وكان الردّ الصمت و الرفس و الدفع بأعقاب الرشاشات .
لم تصدق ما رأت . عاد بها المشهد إلى الزمن الماضي الأسود . تساءلت مبهوتة القلب
و اللسان :
- أين أنا . أهذا حلم أم حقيقة . ألم نطرد المحتل الغاصب من أرضنا لنعيش في عزة
و كرامة ؟ أم أن الاستدمار عاد و نحن في غفلة من أمرنا ؟
وها هو يمر العام الثالث عشر . سنة تجر سنة . و فصل يدفع فصلا . لم تر لطارق ظلا منذ تلك الليلة المشؤومة . كأن الأرض ابتلعته . طرقت كل الأبواب ، و ملأت خطواتها الواهنة جلّ السبل .
وما وهنت عزيمتها لحظة لمعرفة مصير ابنها طارق . ترحل كل أربعاء لتنضم إلى مثيلاتها ممن فقدن فلذات أكبادهن في العشرية السوداء . هناك في ساحة الشهداء بقلب العاصمة تحاصرها العمارات و ضجيج السيارات و عيون المارة و كتائب الذكريات . ينفتح كراس الذاكرة . تتأوه. بالأمس كان المحتل الغاصب يطاردها ، يحاصرها ، يدفعها بفظاظة ، ينعتها بأقبح الأوصاف . لكنها لم تكن تخشاه . الحياة و الموت سيّان عندها . و اليوم يفعل ابن البلد مثل ذلك . لكنها تخشى أن يزهق روحها متهوّر ، لم يُسق من منبع أول نوفمبر . أو ربما كان أبوه حركيّا ابن حركيّ . تلك إذن هي الطامة الكبرى .
تردد في سرّها :
- كفانا فرقة و اقتتالا . ارموا السلاح جانبا و تعانقوا .ازرعوا الحياة أملا و حبا .
حملته وهنا على وهن . سمته (طارق ) تيمنا بفاتح الأندلس ابن زياد . انتظرته بعد سبع سنوات من زواجها . عاشت فيها ويلات العذاب . لولا الصبر و الأمل ، لقضت نحبها من وخز النظرات و الهمسات و النمائم و مكائد النسوة .
ولما استوى الساق و أينع ، و نضج الحلم ، و برأ الجرح . هبت على وطن الشهداء عاصفة الشؤم ، و غرق في لجج الدماء . لكنها دماء الإخوة ، أجج نيرانها الجهل و الحقد
و الطمع و الأنانية .
خرج طارق ولم يعد ، كأنه قطعة ثلج باغتتها شمس حامية .
- نحتاج ابنك لعشر دقائق ثم يعود .
اعتقدت أنهم رجال عاديون . لكنها أوجست خيفة بعد طول انتظار . تناسلت الدقائق إلى ساعات . و الساعات إلى أيام . و الأيام إلى شهور . و الشهور إلى سنين .
قيل لها :
- سيعود ابنك .
- لكن ، متى ؟
و ينفتح أمام عينيها بصيص أمل .
- ملف المفقودين تحت الدراسة .
- إلى متى يا بن الحلال ؟
- إنّه ملف شائك . لابد من الصبر .
- طال بنا الضر و الانتظار .
و مرة تلو المرة تبوح بأوجاعها . تتسلل منها الكلمات عنوة .
ـ أخذوه من البيت فجرا . لم يكن ابني من أولئك الخارجين عن القانون . لم يحمل خنجرا . لم يفجّر قنبلة . لم يكره أحدا . لم تكن له لحية . كان وطنيا . حفظ النشيد ( قسما ) منذ الصغر.
بحّ صوتها من الشكوى . لم تدع مكانا إلا و قصدته ، و لسان حالها يردد :
- يا رب ، يا خالق الجنّ و الإنس ، فرّج كربتي .
تغمرها أمواج من الشوق . تتفحص أشياءه بعناية فائقة . تحتضنها كما كانت تحتضنه قبل الفطام . كتبه ، كراريسه ، صوره منفردا ، ومع أصدقاء الكلية ، بطاقات معايدة من زملائه و زميلاته ، رسائل ، ربطة عنق ، ساعته التي فقدت يد صاحبها ، فأضربت عقاربها عن الدوران ، كأنّها ملّت الوحدة و الانتظار .
و مازالت أم الخير - كعادتها – تفتح نافذة غرفته لتصب الشمس في قلبها دفئا ، و تعبقها نسائم الفجر بعطرها .
ومازالت أم الخير واقفة في محطة الانتظار . تمني نفسها المكتويّة بنار الفراق بعودة طارق سالم الروح و البدن . يومها ستولم بشاة أو شاتين ، و توزع الطعام على الجيران وذوي القربى ، و الفقراء و المساكين و الأيتام . و تدعو (الطلبة ) ليقرأوا القرآن حتى الفجر ، و تصنع لهم الشاي و ( الرفيس ) . ستشرق الشمس على الربوع التي طالما حجبتها الغيوم السوداء .
طال حبل الانتظار ، و أم الخير معتصمة به . لا تستطيع التفريط فيه . هي مؤمنة إيمان العجائز بأنّ ابنها طارق سيعود إليها راجلا أو محمولا في نعش . لا بد أن يعود . لقد ألهمها الله روحا تسع الجميع .
قيل لها :
- لو كان ابنك عندنا لأطلقنا سراحه ؟
- أنا متأكدة بأنّه عندكم .
- لكن كل سجلات المعتقلين خالية من اسمه ولقبه .
- هل أعلمت الجهات المكلفة بملف المفقودين ؟
- أجل . لقد أعلموني بأنّ الحكومة ستدفع تعويضات لضحايا المأساة .
- هذا أحسن حل لطيّ هذا الملف نهائيا .
- أنا أريد ابني فقط . لا أريد تعويضا.
- العني الشيطان . نحن نريد أن نطفيء هذه النار إلى الأبد . لا جدوى من النفخ في الرماد . لقد احترق أهل البلد جميعا . لم ينج أحد من لهيبها . انظري إلى الأشقاء في بلاد الشام
و اليمن و العراق و السودان و ليبيا . لقد جرفتهم الفتنة ، ورحلت من ربوعهم حمائم السلام و الحب .. تحوّل ربيعهم المزعوم إلى فصل دمويّ أسود لا قرار له .
أطرقت أم الخير هنيهة مطبقة الشفنين ، كأنّ رؤيا عنّت لها فجأة ، فغرقت في لجتها . طفقت تحدّث نفسها قائلة:
- إن كان الأمر كما تقول يا بنيّ ، فإنّني أحتسب ابني طارق شهيدا لأجل هذا الوطن المفدّى . ثم قالت بصوت جهوريّ :
- هي هكذا إذن . لم أكن أعلم بأنّ الشياطين يريدون حرق البلد باسم الربيع المزعوم . فليتركوننا و شأننا . شتاؤنا ، صيفنا ، خريفنا ، أجمل من ربيع بلا زهور ، بلا أطفال يلعبون بكرات الثلج . آه ما أحلى منظر الثلج على رؤوس جبالنا .
كأنّ أم الخير استفاقت من كابوس مجهول المنتهى . إن كان ابنها طارق على قيد الحياة ، فإنّه عائد لا محالة . فهو يعرف طريق العودة . و إن كان قد لقيّ ربّه فإنّ لكل كتاب أجل . الموت و الحياة بيد الله . هو يحيي ويميت و يحيي . لا أحد يقتل الآخر إلاّ إذا أقبل الأجل .
أدركت أم الخير حجم المؤامرة التي تُحبك في دهاليز أعداء الوطن ، من خونة الخبز
و الملح و الملة ، و الحالمين بالعودة ، و الذين مازالوا يعظون على أناملهم منذ بصقهم وطن الشهداء مطأطئي الرؤوس .
قالت لها إحداهنّ :
- نرفع قضيتنا لمنظمة حقوق الإنسان العالمية .
رمقتها باستغراب ، ثم قالت :
- ومن هؤلاء كي ينصفونك ؟
- يقولون : أنّهم يعطون لكل ذي حق حقه.
- و أين حقوقنا التي أخذوها منّا قهرا . أكلوا قمحنا و شعيرنا ، و سلخوا جلودنا ، وسلبوا أرضنا الطيبة ، واغتصبوا حريتنا و كرامتنا ، وأحرقونا في المغارات و الكهوف و الدشور . أعدموا من شعبنا الطيّب ، البريء الملايين .. آه يا غافلة ، إنّك كمن يحتمي بلهيب النار من حرّ الشمس ...
- لكن حكومتنا لم تسمع لنا .
- ولكن ، لا ننشر غسيلنا في ساحة الأعداء . متى كانوا يحبون لنا الخير ؟
- لكن ...
- بدون لكن ، فوّضي أمرك لله . إن كان فقيدك حيّا سيعود يوما . و إن كان قد قضى نحبه ، فإن الأعمار بيد الله . هو الذي يفعل ما يريد. و سيظهر الحق مهما طال الزمن .
ومازالت أم الخير تكثر من الدعاء في صلواتها . تفتح نافذة الأمل على مصراعيها ، لعلها تسترق وقع خطوات ابنها طارق .




( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة