الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصباح وحكايات الجُرن

شريف حتاتة

2023 / 1 / 13
العولمة وتطورات العالم المعاصر


الصباح .. وحكايات الجُرن
----------------------------------------
نفذت أشعة الشمس خلال جفونها فاستيقظت .. أزاحت البطانية الممزقة من على جسمها ، وجلست القرفصاء على الحشيش .. فركت عينيها بإصبعها ، وأحكمت ربطة المنديل المعصوب على رأسها .. وجهها عجوز حفر فيه الزمان بصماته بقسوة .. حملقت أمامها فى جمود منْ لا ترى ما يدور حولها .. دست يدها فى عنق الجلباب ، وأخرجت حزمة من الأوراق الباهتة الملتصقة ببعضها .. تعثرت أصابعها وهى تحاول عدها .. كانت أوراق من فئة العشرة ، والخمسة وعشرون قرشا بللها عرق جسمها .. حصيلة ما جمعته من أكواب الشاى فى الليلة الماضية . قرب السور الحجرى المنخفض الذى يمتد بطول الرصيف ، لمحت بطن البراد المعدنى المنتفخ ، تغطيه طبقة الهباب الأسود ، وموقد الغاز وأكواب الزجاج المصبوغة بلون الشاى القاتم وملاعق صغيرة ، وعلب صفيح ، وقطعة من القماش الأزرق انزلقت كاشفة عن أدوات النصبة .
بالقرب من المرأة العجوز ، امرأة ثانية دفنت نفسها تحت الأغطية ، فلا يبدو منها إلا عين ، وأنف مدببة .. جسمها ضئيل يكاد لا يرفع الغطاء عن مستوى الأرض .. فى لحظة يهيأ لها أن الحياة فيها تنتهى ، فحركة التنفس ضعيفة ، واهنة .. إلى جوارها ثلاثة أطفال وقطة . الأطفال نائمون ، ولكن القطة مستيقظة . حملقت فىَ بنظرة خضراء باهتة ، ثم أغلقت عينيها ، كأننى لا أستحق اهتمامها ..
تحركت الأم فجأة ، فانكشف وجهها ، وصدرها ، وبرز ثديها الضامر من فتحة ثوبها، كأنها نامت وهى ترضع الطفلة الراقدة إلى جوارها .. من تحت طرف البطانية برزت ساق نحيلة غطتها القذارة ، فاسود لونها ، لتبدو مثل فرع شجرة جافة احترق سطحها .. وعند الطرف الآخر ، ظهر رأس الطفلة الثالثة يحيط به شعر أشعث ، قذر .
أراهم كل صباح وأنا سائر إلى جوار النيل .. على يسارى منازل السفراء ، وعمارات أقامتها البترودولارات ، مغلقة السواتر ، نائمة فى حراسة العسكر ، وعلى يمينى المطعم الفرعونى العائم ، وبواخر الرحلات إلى الأقصر وأسوان وكازينوهات يلمع زجاجها فى شمس الصباح .. وعلى قطعة من الحشيش اليابس تمتد أمامها ، تبيت هذه الأسرة .. أسرة من الإناث بلا رجل .. امرأة عجوز وأم وأطفال ثلاثة ، وقطة .
تركتهم وسرت على الرصيف بخطوة مسرعة .. على بعد أمتار رقد رجل على ظهره ، واضعا ذراعه على وجهه .. ساقاه تطلان من تحت الجلباب ، وعلى إحداهما جرح غائر ، تزاحم فوقه الذباب الأسود .. وعلى مقعد من الحجر جلس شاب يرتدى بزة للتدريب زرقاء اللون ، باهتة تتدلى من حول جسمه كأنها صنعت فى الأصل لغيره .. كان يحملق فى الفراغ بنظرة شاردة ، نافثا من أنفه دخان سيجارته .
قفزت فوق درجات كوبرى الجامعة كالهارب .. خالطت أمثال هؤلاء مدة سنوات .. عشت بينهم فى المستشفيات ، وعنابر السجون ، ودخلت عششهم ..فى أعماقى كنت أنفر منهم ولكن حياتى ارتبطت بهم . مرت الأيام ، واتسعت المسافة التى تفصلنى عنهم .. أكتب عن معارك العدالة ، والحرية بكلمات فقدت رنينها ، مشدودا بين الأحلام وبريقها ، وبين رغبة فى الحياة بعد أن ولى شبابها .
طفلة صغيرة مثل عقلة الإصبع ، تتدحرج فى ثوبها .. شعرها فى لون القمح الناضج ، وفمها مضموم كالبرعم الأحمر .. خلفها يسير جدها ، ظهره منحن ، وخطواته تتعثر .. حياة تخبو وحياة تبعث .. دائرة تدور دون أن تتوقف .. ونيل ينساب بين شاطئيه دون توتر .. رأيته عند المنبع متدفقا . ولكن هنا أضناه المشوار الطويل ، واستأنسته السدود فلم يعد يتمرد .. صياد أسمر الوجه ينشر شباكه ، وامرأة تمسك بدفة الزورق .. وعند السور رجل تقى .. اللحية السوداء ، والصندل من الجلد ، وجلباب أبيض . على جبهته زبيبة الصلاة وفى يده المصحف .. وعاشقان يمران أمامه استيقظا مبكرا ليختلسا الزمن قبل أن يتنبه .. يقربان رأسيهما ، وأيديهما متشابكة ، ويتحدثان فى وله عن المستقبل .. فيرفع الرجل عينيه عن المصحف ليرنو إليهما ، ثم يعود ليقرأ بصوت عال فيه رتابة .
شاب يرتدى عفريته .. يروى نباتات الزينة وأحواض الزهور بخرطوم ، فيصيبنى رذاذ المياه المنعش .. أبطىء الخطوة فأنا أحب الرذاذ ، والمطر ، والوقوف على صخرة ميامى وعند السلسلة .. تصيبنى القطرات الباردة ، المالحة فأشهق .. أملأ بالهواء ، وأسرع الخطوة ..
على كوبرى الجيزة امرأة .. أراها وهى ذاهبة إلى عملها كل يوم .. متوسطة الطول ، ممتلئة الجسم ، يسترسل شعرها الغزير فوق ظهرها . ترتدى ثوبا بسيطا ، وحذاءا تآكل نعله .. تسير على مهل وقد مال كعبها .. شىء تغير فيها عن الأمس . سترتها الصوفية أنيقة ، وحذاؤها يبرق وهو ينتقل فوق الأرض بلونه الأحمر .. اجتازها وهى تسير على مهلها كأنها تسرح .. عندما أصبحت محاذيا لها ، التفت إليها وقلت .. مبروك الحذاء الأحمر.
اتسعت عيناها السوداوان .. صوبت إلىَ نظرة فاحصة فيها توجس .. لم ترد .. اجتزتها دون أن أتوقف ، ودون أن نتبادل كلمة أخرى .. وصلت إلى آخر الكوبرى .. أنحنى إلى اليمين هابطا على الطريق إلى كورنيش النيل .. لمحتها وقد توقفت عن السير ناظرة إلىَ من أعلى كأنها تتبع خطواتى .. لوحت إليها بيدى ، فومضت أسنانها بيضاء فى الوجه الأسمر ، والتقطت أذناى رنين ضحكاتها .
أحسست بخطواتى فوق الطريق تنتقل بخفة .. الألم الذى أعانى منه فى مفصل الركبة كف عن نبضه .. قدماها كالفراشات الحمراء تطير أمام عينى وفوق النيل. أخذت نفسا عميقا ، وأسرعت الخطوة ..
بترول فى طلمبة بلدنا
---------------------------
جلسنا على المصطبة الطينية ، خارج كوخ الغفير عند طرف الجرن .. الشمس مشرقة والحقول ممتدة .. على مقربة منا " عزبة الكوادى " .. كانت فى يوم ما أكواخا من الطين لسكن الأجراء ، أقيمت على أرض جدى الكبير .. الآن أصبحت بيوتا من دور أو دورين بالطوب الأحمر مطلية بألوان زاهية من الجير .. أخضر فستقى ، أو لبنى أو وردى تتوسطها الشبابيك .. فالأكواخ المبنية بالطوب النى والمونة الخضراء ، أصبحت مخصصة للخراف ، والماعز ، والجواميس .. فى المساحات الخالية بينها ، تقف الجرارات ، وآلات الرى ، والمقاطير .
فى كل مرة احضر إلى البلدة نعقد هذه الجلسة ، ويدور الحديث مع الشاى الداكن نصبه من البراد الأزرق فى الأكواب الصغيرة .. فعالم القرية موحى بالحديث .. فيه الحياة كلها ، والأشياء كلها تتداخل دون الفواصل التى أقامتها تكنولوجيا المدينة .. فيها الخيال ، والواقع اليومى والأساطير تتشابك خيوطها .. فيها الناس ، والحيوانات ، مساحات الأرض ومساحات السماء ، والطيور والجرذان ، والحمام ، وفيها الماشى ، والحاضر لا ينفصلان فى أمسيات الشتاء ، أو ليالى الصيف .. المدينة تجزىء المعرفة بحكم التخصص ، و إيقاع الزمن السريع ، ووسائل الانتقال ، والإعلام الحديث .. ليست هناك فرصة إلا للقول المبتسر ، للخبر ، للمعلومة ، للتفاصيل .. أما فى القرية فالوقت ما زال ممتدا ، والإنسان مازال جزءا من الطبيعة لا تفصله عنها علب من أسمنت ، والحجر والبلاستيك ، ولا يخدر عقله التلوث اليومى بالغازات والإفرازات ، والفضلات ، والأصوات ، والصور ، والأضواء الملونة فى إعلانات البيبسى كولا والبم بم .
بين رشفتين من الشاى ، ساد الصمت لمدة طويلة .. ثم سمعت الخولى " محمود النفياوى " يستأنف الحديث قائلا بصوته الهادىء . " فيه ناس بتجول أن الغربية فيها بترول كتير " .
التفتوا إليه كأنهم ينتظرون المزيد ، لكنه ظل صامتا محملقا نحو الغيطان بعينيه الجاحظين قليلا ، فسأله " متولى سويكر " أول السائلين دائما .
" يا شيخ .. وهو فين البترول ده ؟ " .
هنا .. فى المكان ده ، أو جريب منه ، أشار " محمود " إلى الجرن والحقول المحيطة به .. نظروا إلى بعضهم ، ومصمصوا شفاهم ، ثم استفسر أحدهم : " مين جالك كدة ؟ " .
ظل " محمود " دون أن يجيب مدة طويلة . وظلوا كعادتهم منتظرين .
" أول امبارح كنت فى المفرخة .. وأنا طالع على طريج الإسفلت لجيت عربية كبيرة واجفة فى وسط الطريج ، وطالع منها كابلات طويلة من ورا ومن جدام .. العربية يتنزل من بطنها دراع كبير يهبط لحد الإسفلت ويركن عليه .. فى آخر الدراع جللى المهندس فيه جهاز تصوير بيصور الأرض كلها .. فجعدت أتفرج لجيت العربية بتتهز بهزة شديدة كل م يشتغل جهاز التصوير " .
" مش معجول !! " صوت ينبعث من وسط المجموع بينما يتنحنح الآخرون .. " والله زى ما بجوللكم كده .. والعربية لما تخلص حتة تنتجل على الحتة التانية .. وماشية كدة على طول من " بسيون " لحد " دسوج " . العربية من ألمانيا واللى شغالين عليها من مصر .. جالوا انه جبل كده أمريكان صوروا الغربية كلتها بالجمر الصناعى ، ولما خلصوا حبوا يتفجوا مع الحكومة على استخراج البترول .. جالوا خمسين فى المية لهم ، وخمسين للحكومة . رفضت وعشان كده جابوا عربية الألمان عشان تصور لهم اللى الأمريكان صوروه ..لكن الألمان حيحمضوا كل الصور عندهم هناك فى بلدهم ، ومش حيسلموا حاجة للحكومة إلا لما يخلصوا خالص ... " .
حملقوا فى الأرض مدة طويلة كأنهم يستوعبون ما قيل لهم .. تنهد الرجل العجوز الجالس إلى جوارى ، يرنو إلى بعينه الوحيدة ، كأنه يريد أن يستشف أفكارى . ثم قال :
" هوه معجول يبجى فيه جاز هنا ؟ .. " وأضاف .. " ربنا يستر .. أول حاجة حتعملها الحكومة ، أنها تجلنا هاتوا الأرض دى .. وإذا حصل ده ، حنعيش إحنا منين يا ولداه ؟ " .
التفت إلى " محمود " وسألته .. " وأنت رأيك إيه يا محمود ؟ ".
" أنا فاكر من زمان ستى جالتلى انهم دجوا ترمبة ميه فى الحتة الفاضية إلى كانت ورا دارنا ، وطلع مع الميه جاز ، فراحوا ردمينها بسرعة لحسن الحكومة تيجى تاخد منهم الدار ، وجيراتين الأرض اللى حيلتهم ... ".
" والكلام دا من كام سنة ؟ " .
فكر قليلا ثم قال :
" ييجى اثنين وعشرين سنة كدا .. أنا كان عمرى خمستاشر سنة اياميها " .
" وحكاية الطرمبة دى كانت امتى ؟".
" ستى كانت بتجول من تجريبا خمستاشر سنة كدة .. " ثم نظر إلىَ وأضاف ..
" والله يا داكتور شريف ستى حلفتلى أن بلدنا صالحجر فيها جاز ... " .
----------------------------------------------------------------------------
من كتاب : " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا