الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انقلاب ألمانيا وأزمة المسألة الأوربية والذات العربية

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 1 / 14
السياسة والعلاقات الدولية


شهدت نهاية عام 2022م حدثا ملفتا في أوربا بجانب استمرار الحرب الأوكرانية، ففي الأول من شهر ديسمبر 2022م جرت وقائع مشهودة شدت انتباه العالم أجمع نحو ألمانيا؛ حيث تم الإعلان عن إجهاض محاولة انقلاب عسكري في ألمانيا، تستلهم تجربة صعود هتلر للحكم وتحلم بعودة ألمانيا القيصرية القديمة وترفض الحدود الجغرافية الحالية لها.
وتورط في محاولة تغيير نظام الحكم في ألمانيا سبيكة واسعة من الطيف الألماني شملت؛ ورثة الطبقة الأرستقراطية الملكية القديمة- عسكريين سابقين وحاليين في مناصب رفيعة- وسياسيين رافضين للشكل الحالي للدولة الألمانية وموقعها في الاتحاد الأوربي وتبعيتها النسبية لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، وغيرهم.

عودة الرايخ/ الامبراطورية
وأشارت الأخبار الواردة عن هذه المجموعة بأنها تنتمي لما يعرف بـ "حركة مواطني الرايخ" وهي تجمع يرفض الشكل الحالي للدولة الألمانية ويدعو لاستعادة الرايخ/ الامبراطورية التي كانت حاضرة فيما قبل هزيمة ألمانيا بالحرب العالمية الثانية عام 1945م، وأشارت التقارير إلى صلة بين هذه المجموعات وبين حركة "كيو آنون" الأمريكية التي تعتبر إجمالا أن الليبراليين الأمريكيين تآمروا على ترامب لإزاحته من الحكم ضمن تصورات عديدة أخرى للمؤامرة.
وتكاثرت التحليلات ومحاولات الفهم عربيا وعالميا لأسباب ظهور مشروع انقلاب عسكري، في دولة مثل ألمانيا تتمع بقدر عال من الرفاهية والرخاء الاقتصادي والاجتماعي، وحقيقة رغم كثرة هذه المحاولات لفهم ما حدث في ألمانيا.. إلا أن معظمها ارتكن للتصورات التقليدية عن اليمين المتطرف في أوربا، ومحاولته الظهور في المشهد مجددا في تصوير كلاسيكي للتنافس السياسي بين اليمين واليسار الأوربيين، فلم تطرح معظم التحليلات قراءة ثقافية متعمقة تبحث عن النسق الثقافي الكامن، والمحتمل وراء ظهور حركة لانقلاب مسلح في ألمانيا أحد أبرز دول العالم الحديث رفاهية وتقدما.
وهنا سوف نطرح في هذه المقالة تصورا ثقافيا يقدم تفسيرا لما يجري في ألمانيا والعديد من الدول الأوربية الأخرى، رغم بساطته وسهولته ومباشرته إلا أن السبب في عدم ظهوره هو سيادة "نمط ثقافي" وحيد تدعمه "المركزية الرسمية" للدول الأوربية/ الغربية، وتحرك معظم دول العالم في سياق هذا النمط الثقافي وتفسيراته على المستوى الإعلامي والصحفي والأكاديمي والسياسي.

الليبرالية قيد ذهبي وقضبان حاكمة
والتصور البسيط والمباشر الذي نطرحه في هذه المقالة، هو أن الانقلاب الألماني جرى وسيتكرر في العديد من دول أوربا، لأن البدائل الثقافية/ السياسية/ الفكرية المطروحة أمام الشعوب الأوربية قد احترقت وووصلت لمرحلة الاستهلاك والانسداد، وذرورة عجزها عن التعبير عن تطور الحالة البشرية وتقدمها المستمر ودون وجود فرصة للتغيير الحقيقي، وأن ما يسمى الليبرالية الديمقراطية الغربية ليست سوى "قناع استبدادي" لتنميط البشر وفق تصورات معينة لـ"الحرية المقيدة" داخل أطر بعينها، وأن الليبرالية الغربية ونقيضها في الشيوعية التي فشلت بسقوط الاتحاد السوفيتي، أصبحا قيدا يرفض الاستجابة السلمية للتغيير، من ثم أصبح لزاما على الحالة الأوربية أن تتجاوزه عبر العنف والقوة والصدام، لأنه يسيطر سيطرة تامة على مفاصل المؤسسات الرسمية والاجتماعية الرئيسية، ويرفض طرح بدائل جديدة في نوع من جديد "الاستبداد المقنع" السياسي والثقافي، فالأمر أيضا ليس مثلما يتخيله أتباع الماركسية القديمة بأن التمرد على الليبرلية يعني استدعاء بديلها الخرافي/ الساقط الآخر، أي الماركسية والشيوعية.

المسألة الأوربية وانعدام البدائل
وكذلك لأن الأطروحات الثقافية الأوربية في مرحلة ما بعد الحداثة ليست أيضا سوى إطارا أو قيدا ضمن أطر الاستيعاب والاحتواء الهامشي، التي أصبحت طوقا تسعى الشعوب الأوربية إلى تجاوزه، معلنة يأسها من أطروحات اليسار القديم ويأسها من أطروحات اليمين الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي، فتسعى لتجاوز المسألة الأوربية الراهنة وبديليها الخرافيين، التي اعتبرت أن الرأسمالية والشيوعية هما الاختيار النهائي والمطلق والمقدس أمام البشر، من ثم كانت محاولة استعادة القيصيرية ليست سوى محاولة للتمرد على المسألة الأوربية وخرافة أن البشرية لم يعد أمامها سوى بديلين/ ديانتين مقدستين إما الرأسمالية أو الليبرالية، وكذلك فإن استعادة ألمانيا للقيصرية يمكن ان نضعه إلى جوار استعادة روسيا لمشروعها الامبراطوري القديم في شكل جديد تحت اسم "الأوراسية الجديدة"، سعيا للتمرد على خرافة نهاية التاريخ بين الرأسمالية والشيوعية (واللذان خرجا من ألمانيا أساسا من عند هيجل وماركس).

خرافة نهاية التاريخ بين الليبرالية والشيوعية والطبقات القديمة
استمرار "المسألة الأوربية" في شقها الرأسمالي والديمقراطية الليبرالية واعتبار أنها "نهاية التاريخ" وديانته المقدسة والمطلقة الجديدة، بعد انتصاره على الديانة المقدسة الأخرى والشق الآخر المتمثل في الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي، سيدفع الشعوب الأوربية للبحث في حاضنتها الثقافية و"مستودع هويتها" التاريخي، عن تمثلات وطبقات ثقافية أخرى لرفض فكرة نهاية التاريخ وأنه كان صراعا بين بديلين حصريين ومقدسين لا سبيل بعدهما، هما الليبرالية والشيوعية، وسوف تقدم لنا أوربا الكثير من أشكالها الثقافية الكامنة في محاولة للتمرد على خرفة المسألة الأوربية وهيمنة شقها الليبرالي وليست فرنسا الملكية ببعيدة عن ذلك، أو إيطاليا أو غيرهما.
العالم يبحث عن تجاوز المسألة الأوربية ومتلازماتها الثقافية واشكالها السياسية والاجتماعية القائمة حاليا، وفي هذا السياق تحضر فكرة الجغرافيا السياسية وتبدل حدود الدول بعد انهيار الشكل الثقافي أو "الجغرافيا الثقافية" القديمة التي أنتجتها، ورغم التقدم الكبير الذي أحرزته الصين من خلال مشروها للتمدد الجغرافي عبر مشروع "الحزام والطريق"، إلا أن الصين لا تقدم نموذجا ثقافيا جاذبا للعالم، فهي تنتصر للمسألة الأوربية ولو ظاهريا من خلال شعارات الحزب الشيوعي الحاكم.

الذات العربية والوعي بالحظة التاريخية والأمل العالمي
كان –ومازال- هناك نموذج ثقافي محتمل يحمل الأمل للبشرية شرط وعي أهله به وبناء توافق مجتمعي حوله، وهو مشروع الثورات العربية التي خرجت في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين رافضة شعارات اليمين واليسار والعربيين بما فيهما فرق الدين السياسي، ومطالبة بلحظة مفصلية جديدة تقدم مفصلية ثقافية جديدة.
الشعوب الأوربية سوف تستمر في التمرد على المسألة الأوربية، وهذا سوف يؤثر على الدول العربية ومؤسساتها العاملة بدرجة أو بأخرى، لأن تمرد الشعوب الأوربية سوف يؤثر على النظام العالمي المستقر منذ الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويجب أن تستجيب الشعوب العربية لما يحدث في العالم وتعيد إنتاج نفسها من جديد في متون وسرديات كبرى جديدة وفاعلة في القرن الحادي والعشرين، وإلا سوف تشهد الدول العربية اهتزازت ضخمة ومتوالية، على صعيد الجغرافيا السياسية وتقدم آخرين على حسابها، وعلى صعيد الجغرافيا الثقافية وتآكل حضورها لصالح آخرين، وعلى صعيد الجغرافيا الطبيعية وإهدار التنوع في الموارد الطبيعية العربية وتكاملها لصالح آخرين.
إن المسألة الأوربية واعتقادها بأنها ذروة التطور البشري ونهايته تتعرض للتشقق والتفكك، وكلما أسرعنا في استيعاب ذلك، كلما زادت فرصنا في العبور للمستقبل، بل وتقديم نموذج ثقافي جاذب ويمتلك سمات القوة الناعمة، له القدرة الكامنة والمحتملة على تقديم بصيص الأمل للعالم، في مرحلة ما بعد المسألة الأوربية، تمهيدا لأفولها وتجاوزها.
وذلك شرط الوعي بالذات وتحقيق التوافق المجتمعي على اللحظة الثورية التي قدمتها الذات العربية في القرن الحادي والعشرين، وتجاوز مرحلة الاستقطابات والتناقضات وتفجيرها للهروب من استحقاقاتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع


.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي


.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال




.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل