الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القنينة: الكتابة والحواس

فتحية دبش
كاتبة، روائية، ناقدة ومترجمة

(Fathia Debech)

2023 / 1 / 15
الادب والفن


شرّفتني الأديبة والناقدة التونسية فتحية دبش بهذه المقالة الجميلة عن "القنينة"، ولسعادتي الكبيرة بما كتبت

تصدير:
* " كلّ ما تعلّمته عن تفكيك الألغام ينحصر في تحديدها وتفجيرها عن بعد" ( القنينة، )
* ‏*"ق.غ يجب أن يحاكم،يجب أن يحبس...يجب يجب." نفس المصدر، ص 17
منذ العنوان يلج القارئ منطقة ملغومة باللّذائذ تمتدّ على كلّ نصوص المجموعة القصصيّة القصيرة بدءا ومنتهى.
لئن اختار الكاتب أن يجنّس مجموعته قصصا قصيرة فإنّ النّصوص تفاوتت في حجمها. فكان منها ما طال ومنها ما قصر. غير أنّ هذا التّفاوت في الطول لا يطرح مسألة التّجنيس والفروقات بين نوعين قصصيّين: القصير والقصير جدّا ولا ما يميّز كلّ منهما عن الآخر. ولكنّه يضع القارئ أمام لذّة الوجيز (المعنى هنا يراد به حجم النّصّ وبلاغته) ومخاتلاته. فالنّصوص الوجيزة تُوجِد لنفسها استراتيجيات متعدّدة تنفذ منها إلى ذهن القارئ وتخرجه من منطقة الرّفاهيّة إلى منطقة الفعل والإنتاج القرائي. وقد اختارت "القنينة" شوارع الحواس استراتيجيّة للقاء بقارئها..
هناك شيء من قبيل الإثارة يعتمل في الذّهن حين التّوقّف عند "القنّينة".
‏ تستدعي اللّفظة ذاكرة الحواس من بصر ولمس وتذوّق وشمّ. تماما كما يفعل متذوّقو الخمور لا بدّ من أن يتبنّى القارئ طقسا معيّنا كأن يمسك بالقنينة ويقلّبها مالئا ناظريه من ألوانها المتغيّرة، ثم يدنيها من أنفه ليسأل الرّائحة أو الرّوائح التي فيها قبل أن يضع منها بعض قطرة يحتفظ بها على لسانه للحظات ويبحث في ذاكرته عن كلّ ما يعرف منها وما لا يعرف. بعد ذلك يستسلم للصّمت المهيب القادر وحده على اقتناص أعلى درجات اللّذّة. تحضر كلّ هذه الحواسّ بينما في الظّاهر تغيب الحاسّة الخامسة أو تكاد. ولعلّ استدراج العنوان للقارئ نحو معارج الحواس يبدأ من كلّ شيء وينتهي عند الصّوت الذي هو غاية الأمر تعبيرا عن بلوغ لذّة القراءة.
‏ومع أنّ الجملة الأولى من النّصّ الأوّل في القنّينة تقول:" قمت مفزوعا..." حيث يتمّ استدعاء مشاعر الخوف والفزع وتحوّلات النّفس من حالة إلى أخرى إلاّ أنها استهلال مفكّر للمجموعة ككلّ. وضع القارئ ومنذ المفتتح في حالة من الفزع وعدم الاستقرار مثيرٌ فعّال لغريزة حبّ البقاء ومنها يتأتّى فعل التّفكير غير المؤدلج من أجل البحث عن الخلاص من هذا الشّعور السّالب.
‏يبقى القارئ أو على الأقلّ القارئ المنتج لهذه القراءة مشدودا إلى حبال القصص حيث يتآلف الضدّان: الشّعور بالفزع والشّعور بالطّمأنينة أيضا. وحتى أستخدم ذات المرجعيّة الغيلانيّة في اللّغة يمكنني أن أسمّي هذا الشّعور باللّذّة حيث يتماهى الألم والعنف مع السّكينة.
‏يستدرج غيلان قارئه إلى ساحات المشاعر والأحاسيس باستنفار الحواس. يلجأ إلى الوصف فتصبح اللّغطة ألوانا وأصواتا وحركات تتبعها العين والأذن وتتهجّاها الأنامل، ويستعيد الحدث حيويّته انسيابا وعودا إلى الوراء واستشرافا. وليس المقصود هنا الوقوف على اشتغالات الزّمان في القصص بل وخاصّة الاشتغالات والانشغالات الفنّيّة والأجناسيّة التي تتقاطع وتتداخل وتعيد إنتاج لذائذ القراءة.
‏عبر الحواسّ ولغتها تنشغل المجموعة القصصيّة بقضايا مصيريّة تتراوح بين العاري والمتواري، وتورّط القارئ عبر استخدامات للغة مشحونة بالرّمزيّة والإحالات والإشارات مخاتلة لقانون الصّمت السّاري على جملة من المواضيع. هذه اللّغة البسيطة في ظاهرها تغوص عميقا في وجدان الفرد والجماعة وتأخذ على عاتقها كشف ما يحيط بها من تساؤلات الوجود والوجدان والعقل.
‏نلاحظ هيمنة قواميس الجسد ونداءاته، ليس من أجل استدراج القارئ إلى لعبة الإثارة البهيميّة بل إلى جادّة التّفكير في قضايا الكبت والضّمور الفكري والحسّي والتّفقير المتعدّد للفرد في مجتمعات تحكمها بعد جملة من التّصوّرات والتّمثّلات.
‏ففي نص الولاّعة الزرقاء مثلا في الصفحة 18، يعرض الكاتب ثينة الفحولة المهددة.
‏يطرح جملة من الإشكاليات في ثوب هزلي ولغوي يجعله من النّصوص المتفرّدة حيث يناقش الكاتب مسألة الزواج في مجتمع لا يرى فيه غير مناسبة لإعلاء شأن الفحولة.
‏ ففي الثّقافات التّقليديّة وحتّى لا أقول المحافظة - لأنّ هذا المصطلح الأخير يقع في تقابل بين محافظ ومنفلت وهما حكمان أخلاقيان قائمان على علوية أحدهما على الآخر. بينما تقع المقابلة بيت التقليدي والمتمدن كما أعنيهما بين المتعلق بالنمط الواحد وبين المتعلق بالأنماط المخلفة- ليس غير مسألة فحولة و ديك يذبح لسببين اثنين على اعتبار أنّه على الزّوجة أن تذبحه في حال لم تكن عذراء أو في حال كان الزوج عاجزا جنسيّا. في الحالتين إذن تكون التّضحية بالدّيك هي الضّامن للاحتفال بالدّم. تلك المنطقة من الجسد تحكم مسار حياة الفرد والأسرة والمجتمع. ما يحدث في السّرّ ليس مهمّا، أمّا المهمّ فهو الحفاظ على ماء الوجه في العلن. ورغم غبش المشهد في هذا النّقطة بالذّات فإنّ النّصّ يمنح بارقة أمل تظهر في الاتّفاق بين الزّوج وزوجته على أخذ الحيطة وإحضار الدّيك. إذ غالبا لا تمنح الثّقافات التّقليديّة للزّوج فرصة الاعتراف بعجزه ولا للزوجة فرصة الاعتراف بفقدان عذريتها.
‏هاتان الرّؤيتان توضّحان الهوّة بين الذّات الفرد والذّات الجماعة. فالذّات الفرد تتوق إلى الحقيقة بينما تكرّس الذّات الجماعة نسق الخداع والتّموية والكذب حتى لاتنهار الانساق التّقليدية المتحكّمة بمصير الفرد أنثى كان أو ذكرا.
‏أمّا في قصّة صورة تذكاريّة (ص37/38) فقد دفع غيلان بالأسئلة إلى مداها. حيث استخدم صورة الرِّجل كعضو من الجسد للإحالة على الجسد كاملا والمدلولات التي يحملها الكشف والغطاء لهذا الجزء الدّالّ على الكلّ. إذ يصبح الغطاء عراء والعراء غطاء في نفس الوقت للإحالة على هوس سدنة المعابد بالجسد الأنثوي. فيسعون إلى تغطيته من اجل تعريته.
خلف هذه المجموعة القصصيّة المرحة النّزقة يختفي لسان يؤمن بأنّ للكلام فعله تعرية وتفكيكا وإعادة تشييد. ولعلّ القصّة الشّاهد تكمن في نص بطلة (ص17). انتهج غيلان في هذه القصّة نهج التّخييل الذّاتي . فهو شخص من شخوص القصّة ولا يعني القارئ أن يكون النصّ سيرة بقدر ما يعنيه أن يضع الكاتب نفسه عبر التّخييل في وضعية لم تحدث ولكنّ حدوثها محتمل.
القنّينة وعبر عنقها تملأ الحكايات وتفرغها لتمتلئ من جديد وتكون مثار أسئلة البناء والمضمون ولذّة القراءة الباعثة على التّفكير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمر عبدالحليم: نجاح «السرب» فاق توقعاتي ورأيت الجمهور يبكي ف


.. عمر عبدالحليم: كتبت لفيلم «السرب» 23 نسخة




.. أون سيت - 7 مليون جنيه إيرادات فيلم السرب في أول 3 أيام فقط


.. لا تفوتوا متابعة حلقة الليلة من The Stage عن الممثل الكبير ا




.. بعد أن كانت ممنوعة في ليبيا.. نساء يقتحمن رياضة الفنون القتا