الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب/سليمان النجاب7

محمود شقير

2023 / 1 / 17
الادب والفن


كان زماناً قاسياً حينما جئت.
الناس خارجون من هزيمة والانكسار بادٍ على حركاتهم وسكناتهم، والحزن في العيون.
كأنني أصف نكبة العام 1948 ، أو كأنني أصف نكسة العام 1967 ! وفي كلتا الحالتين جئتَ للاضطلاع بالمسؤولية التي ألقيت على عاتقك.
جئتَ بعد النكبة إلى صفوف الحزب عضواً جديداً. وجئتَ بعد النكسة إلى خلايا الحزب السرية المبعثرة، تلملم مع رفاقك، الصفوف من جديد. كان الحزب تلقى ضربة قاسية العام 1966، فاختفيتَ عن أنظار أجهزة الأمن وانخرطت في العمل السري، بعد عام من مغادرتك سجن الجفر الصحراوي، الذي غيبك عن أسرتك ثماني سنوات.
قابلتك أول مرة بعد النكسة بشهر واحد أو أكثر قليلاً. كنتُ سمعت باسمك من قبل. جئتَ إلى قريتي التي سيكون لها شأن غير قليل مع الفكرة التي آمنا بها (كيف تصاعد حضور الحزب في القرية طوال سنوات! كيف تراجع هذا الحضور إلى حدود التلاشي هذه الأيام!)، وسنعود، أنت وأنا، إلى تلك الزيارة الأولى، نتذكرها ونحن في المنافي، ونبتسم لأن الذكرى أصبحت موغلة في البعد. جئتَ للإشراف على اجتماع لخليتنا التي تشكلت بعد الهزيمة بأسابيع.
وأعود بذاكرتي إلى السنوات التي قطعناها معاً في صفوف الحزب، وأتوقف عند عدد من الرفاق الأوائل الذين اتسموا مثلك بسمات تستحق الانتباه. وحينما أتحدث عن هذه السمات، فإنني لا أتحدث عنك وحدك، لكنني لا أنكر أنك الأكثر تعبيراً عن السمات المعنية والأكثر تمثيلاً لها كما أعتقد.
شكلت أفكار الحزب هاجسك اليومي، وشكلت في الوقت نفسه مشروع حياتك. انتسب إلى الحزب أشخاص بدوا في زمن ما من ألمع المناضلين وأنشطهم، فاعتقدتُ أنهم ملتزمون به إلى النهاية. ثم أثبتت التجارب أنني كنت على خطأ، إذ تخلى عنه أشخاص ما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك.
ربما اهتزت قناعاتهم لسبب أو لآخر، وربما اختلفوا مع الحزب حول هذه القضية أو تلك، فلم يعودوا من المنتسبين إليه. بعضهم اعتزل السياسة وراح يهتم بشؤونه الخاصة، وبعضهم واصل نشاطه السياسي عبر تنظيمات أخرى أو بشكل مستقل.
وأنت بقيتَ مخلصاً للفكرة، شأنك في ذلك شأن عدد آخر من قادة الحزب الأوائل.
لعل للمرحلة التي تفتح فيها وعيك على الحياة، علاقة بما أصبحتَ عليه لاحقاً: نموذجاً للمناضل الذي لا يتراجع ولا تهتز قناعاته. فأنت واحد من الذين دخلوا معترك الحياة في زمن حققت فيه الاشتراكية انتشاراً واسعاً، باعتبارها طريقاً للخلاص من الاضطهاد والاستغلال، وكان الشعب الفلسطيني في الوقت نفسه، يعاني من القتل والتشريد على أيدي الغزاة (لم أسألك عن الخلية الأولى التي انضممت إليها، ولم أسألك عن اسم مسؤولك الحزبي الأول. كان العمل السري يتطلب كثيراً من الإصغاء وقليلاً من الأسئلة).
أبصرتَ المأساة من جانب، وأبصرت نجاحات الفكرة من جانب آخر. وبقدر ما تألمتَ لمأساة شعبك، اندفعتَ إلى تبني الفكرة.
التحقتَ بصفوف الحزب في مطلع شبابك. في تلك الفترة، أوائل الخمسينات من القرن الماضي، تعرض المبشرون بالاشتراكية للقمع والاضطهاد من الأجهزة الأمنية التي لا تروقها الفكرة، فأمعنتْ في تلطيخها بالكثير من التهم والأكاذيب، وفي تضليل الناس البسطاء، وفي دفعهم لإساءة الظن بالمناضلين من أمثالك، لإحداث شرخ بينهم وبين الناس، تمهيداً لعزلهم والانفضاض من حولهم.
كان لديك الاستعداد الشخصي المتمثل في حب المعرفة وفي التوق إلى البحث عن كل جديد. ووفرت لك علاقات أخيك الكبير وثقافته، جواً مواتياً للاطلاع على كتب ومجلات حملت ما هو جديد بالنسبة لك. ووفرت لك علاقات أبيك الاجتماعية، ووفرة صلاته بالناس وحبه لهم، فرصة لأن تواصل هذه الصلات بالقدر نفسه من الحب، ما جعل بسطاء الناس في الريف الفلسطيني يمزجون بين شخصك وبين الفكرة، يحبون الفكرة وينجذبون إليها لأنهم يحبونك، ويصدقون ما تحمله إليهم الفكرة من وعود ونبوءات، لأنهم يصدقونك أنت بالذات.
وكنت تنتمي إلى جيل حمل على عاتقه عبء المأساة.
تجمعت روافد كثيرة على هذا النحو أو ذاك لتحتشد في صدور الصفوة من أبناء هذا الجيل، الذين ورثوا أفضل ما تركته لهم الحركة الوطنية الفلسطينية، وما قدمته لهم قوى التحرر والتقدم والاشتراكية في العالم، من تجارب غنية، ثم انطلقوا يضيفون إليها، تجارب جديدة مغموسة بالتضحية وبأجمل سنوات العمر التي التهمتها السجون والزنازين، فلم يتراجعوا، بل إنهم واصلوا النضال بأفق أوسع وبقدرات أكبر خلال الستينات وما تلاها من عقود، حتى أصبحوا أعلاماً في السياسة وفي النضال الوطني والاجتماعي، بحيث لم يعد ممكناً تأمل النصف الثاني من القرن العشرين، الذي تحققت فيه مكاسب وطنية واجتماعية، ووقعت فيه هزائم وانكسارات، دون التوقف ملياً عند أسمائهم. ولقد كنت أنت واحداً من أبرز هؤلاء الأعلام.
تأثرتْ بك وتعلمتْ منك أجيال من الشباب خلال العقود الخمسة المنصرمة. وكنتُ واحداً من الذين تأثروا بك وتعلموا منك. كانت لك علاقات شخصية حميمة مع الذين يعملون معك، لم تطق العلاقات الشكلية الباهتة. كنت تكثر من الأسئلة التي لا يغيب معناها ولا تغيب دلالتها، الأسئلة التي تنم عن حس أخلاقي بأهمية التواصل بين البشر، فتسأل عن الأهل والأقارب جميعاً كأنهم أهلك وأقاربك، ومع مرور الأيام والسنين، أصبحت لك علاقات واسعة في العديد من القرى والمخيمات والمدن.
لم يكن انتماؤك السياسي مجرد انتماء بارد جاف، بل كان مزيجاً من القناعات ومن العواطف الإنسانية الدافئة. وبقدر ما أغرمت بطرح الأسئلة، كنتَ قادراً على الإصغاء، تصغي لمن يعرض عليك فكرة أو اقتراحاً أو لمن ينقل لك تفاصيل واقعة أو خبر، ثم تبدأ في تفكيك الكلام الذي استمعت إليه جملة جملة، وكلمة كلمة، مدفوعاً بالرغبة في المعرفة.
غير أنك كنت تغضب في بعض الأحيان أثناء الحوار، ثم تراجع نفسك بعد ذلك، لأنك تعرف أن الغضب لا يساعد على إدارة حوار ناجح بنّاء (عرفت فيما بعد أنك انقطعت عن حضور اجتماعات المكتب السياسي فترة من الوقت من باب الاحتجاج، بسبب خلاف نشب بينك وبين الدكتور مصطفى البرغوثي، أحد أعضاء المكتب، واستغربت ذلك منك، لأن الانضباط الحزبي لا يسوغ لك هذا الانقطاع). ويبدو أن ما تحملته من عزلة وضغط نفسي أثناء العمل السري، ومن تعذيب في زنازين الجلادين، ومن غربة وتشرد في المنافي، ترك أثره إلى حد ما، على أعصابك ومزاجك وردود أفعالك، لكنه لم يقلل من فاعليتك ومن حضورك فوق ساحة العمل الوطني.
ويبدو لي أن ثمة سبباً آخر يقف وراء هذا الغضب الذي كان ينتابك بين الحين والآخر، يتمثل في اندلاع حالة مفرطة من الحوار في صفوف الحزب، بعد أن مال إلى الأخذ بأفكار الانفتاح والتجديد، وإشاعة الديمقراطية في حياته الداخلية، حتى أن بعض الرفاق راحوا يحذرون من مغبة تحويله إلى مقهى للثرثرة، أو مطية لبعض الرغبات الخاصة.
ويبدو لي أن هذه الحالة المفرطة من الحوار الذي كان يصل حد العبث في بعض الأحيان، لها علاقة بانفلات غضبك، خصوصاً وأنت الذي عرفناك على قدر كبير من الجدية والانضباط في عملك الحزبي. ومع ذلك، فإنني لا أبرر لك غضبك، لأن الغضب مدخل إلى قمع الحوار.
ولقد جئتَ إلى قريتي بعد هزيمة حزيران مباشرة، للإشراف على أول اجتماع تعقده خليتنا الحزبية بعد الهزيمة، وكنتَ ما زلت شاباً في الثالثة والثلاثين من العمر، تسبقك ابتسامتك وسخرياتك الظريفة، ويميزك شعر كثيف اختلط سواده ببياضه، فبدوت كأن سنوات السجن والاختفاء زودتك بخبرات ومعارف لا تتوافر بسهولة لمن هم في سن الشباب.
كان الاجتماع طويلاً، اختلطت فيه أحاديث السياسة بخطط التنظيم ببعض النوادر التي رافقت أيام النضال (اعتاد أعضاء الحزب الذي قضوا في سجن الجفر الصحراوي ثماني سنوات، التحدث عن صمودهم هم ورفاقهم في السجن، وسرد طرائف ونوادر أبطالها من المعتقلين أنفسهم عن فترة السجن وما قبلها، وكان ذلك كله يُقدم في إطار الدعاية للحزب، ولجذب الأعضاء الجدد إلى صفوفه، مثلاً: نظم الحزب ذات مرة أوائل الخمسينات من القرن الماضي مظاهرة في نابلس هتف فيها المتظاهرون: مطالبنا الشعبية/ خبز وسلم وحرية. ثم صعد أحد المتظاهرين على كتفي زميله وهتف: نريد الخبز، نريد الخبز. فاندفع زميله، وهو فلاح بسيط جديد على ساحات النضال، يلح عليه قائلاً له: وقل لهم بدنا اغماس كمان) وكان علينا في ذلك الاجتماع أن نختار أسماءنا الحزبية السرية، وأن ننشط لمقاومة الاحتلال، ولنشر سياسة الحزب بين الناس.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا