الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آلِيسُ فِي بلادِ عجائبِ منال ديب: سَفَرٌ وقراءَةٌ فِي قُدْسِ الرّوحِ، بيْنَ التّشْكِيلِ والفوتوغرافِ الرّقميِّ.

أسماء غريب

2023 / 1 / 18
الادب والفن


(1)
النزولُ إلى كَهْفِ منال
*
((لمْ يظهرْ أيُّ شيء يا سيّدي في هذه العُزلة، ولم يأتِ أحدٌ إلى هنا سواكَ، ولكنْ لا تقلقْ فسأدلُّكَ على طريقٍ معروفة)).
(غريزليدس) من حكايات شارل بيرّو (ص 39).
*
في معارض منال ديب على الشّبَكة العنكبوتيّة وبين لوحة وأخرى أجدُني مشدودةً إلى اللّون، وضربات الفرشاة، والأعيُنِ التي تَرى ولا تُرى، وإلى الحرفِ المُنْصَهِرِ في الوجوه الأنثويّة، أتصفّحُ كلّ التفاصيل الدّقيقة، أقرأها حرفاً حرفاً، وضربةً ضربةً، ونوتةً ونوتةً، لكنّنِي حينما أشربُها نسغاً نسغاً، يُصيبُني دوارٌ شديد يحملُنِي إليْها؛ أعني إلى منال، لا تلكَ الّتي يعرفُها الجميعُ ويعاينونَ بالعين المجرّدة لوحاتِها التي تحكِي همومَ الوطن والقضيّة، ولكن إليها هيَ كعالمٍ جوفيٍّ مفعمٍ بالدّهشة والأسرار، فيحدثُ لي ما حدثَ لآليس بطلة رواية لويس كارول (1): أسقطُ في بئرِهَا وأنفاقِها العميقة التي تجذبُني إلى حيثُ لا نهاية للنزول، وأجدُني أصرخُ قائلة كما آليس: ((نزول، نزول، نزول ألا توجد نهاية لهذا السقوط؟ [...] كم ميلاً قطعتها في سقوطي حتى الآن؟ لا بدّ أنني أقترب من مركز الكرة الأرضية!)) (2).
نعم، إبداعات منال التشكيليّة قادرة على فِعْلِ هذا وأكثر، إنها تجذِبُ إلى حيثُ مركز الأرض، هناك حيث تبدأ الأسفارُ في عوالم المجهول للبحث عن مساراتٍ تقودُ إلى المعرفة واكتشاف كلّ ما هو جديد وجدير بالقراءة بعين الإعجاب والانبهار والمحبّة، بهدف تحقيق الصّعود إلى عالم السموّ والانطلاق والحريّة.
لكن قبل هذا وذاك، والآن وقدْ وصلتَ معي أيها القارئ العزيز إلى مركز الأرض؛ أرض منال، لا بدّ من الوقوف ملياً أمام كلّ هذه الأبواب التي عثرنا عليها ما إن وطأتْ أقدامُنا هذا الطّميَ الخصيب، ولنتساءل بالضبط كما فعلتْ آليس وهي في كهف الأرنب عن سبب وجودها، وعن أيّة المفاتيح أقدر على فتحها وشَرْعِ وشَرْحِ أسرارها لنا؟!
من المؤكّد أنّ فكرةَ كلّ إنسانٍ عن المفاتيح أنّها عادة ما تكون مصنوعة من تركيبة معدنية ما، ولها شكل معيّن يسمحُ بفتح فوهة ما، وبالتالي الدّخول إلى غرفة أو مكان ما، أو أيّ شيء آخر قد يكون صندوقاً صغيراً، أو درج مكتبٍ، أو خزانةٍ إلى غير ذلك من الاحتمالات المفتوحة على أمدٍ واسع من اللّانهايات. وليستِ المفاتيحُ وسيلة فقط لفتحِ الأبواب، وإنّما تمنحُ للإنسانِ أيضاً سُلْطةَ امتلاك الشّيء والتحكّم فيه وإغلاقه، أو إظهاره أو إخفائِه، وكلّ هذا لا يتأتّى إلّا بمعرفة أسرار الرّموز والحروف التي هي أساس كلّ رحلةٍ عرفانية. لكن، يبقى العنصرُ الوحيد المشترك الذي يجمع عادة المفتاح بأيّةِ فوهة أو فتحة باب ما، هو رغبة الشّخص في اكتشافه لشيء ما كان يشغل باله ويبحث عنه منذ زمن بعيد، وعليه فقد يبدو المفتاحُ في كثير من الحالاتِ غير ذي أهمّية، بقدر ما يكونُ العثور على الباب الصّحيح هو أوّل الخطوات وأذكاها من أجل بلوغ الهدف الحقّ، لذا، فإنّ البداية ستكون من خلال طرحنا لسؤال رئيس: هل يوجدُ حقّاً شيء اسمه ((أبواب))؟
يكفي أن نعرفَ أنّ أبواب رحلاتِ التاريخ المعرفيّ الإنسانيّ كثيرة فهناكَ مثلا باب الإسراء، وباب العوالم السّبعة، وباب الجحيم، ثم باب الموتى، وكلُّ بابٍ من هذه الأبواب يحفظُ سرّاً من الأسرار الماديّة والروحية على السواء، وكلّ سرٍّ يُحَدِّدُ حاجزاً ما، أو فاصلاً بين الشّيء وغيره، أو بين زمن وغيره أو بين مكان وآخر. وتدلُّ الأبوابُ أيضاً على الأحوال والمقامات التي على السّالكِ أن يجتازَها عبر مراحل معيّنة من حياته، لكن تبقى الأبواب الضّيّقة هي وجهةُ كلّ قارئٍ أو مسافرٍ حقّ، ذلكَ أنّ الأبواب الواسعة لا تقودُ عادة إلّا إلى مزيد من التيه والهلاك، وهي التي يسلكُها الكثيرُ منَ النّاس، وقلّةٌ هم أولئك الذين يعثرونَ على الباب الضيّقِ ويلجونهُ على الرغم ما فيه من متاعب وكرب وأحزان وإنِ اشتدّتْ فإنها تؤدّي لا محالة إلى الرّاحة الأبديّة والعثور على ملكوت السلام والمحبّة الصّادقة(3)، ولأجل هذا كلّه، فإنَّ أشدّ أبواب منال ديب ضيقاً هو بابُ الطّفولة، وبه سنبدأ الرّحلة، ونحاول أن نفتح معاً مغاليقه وكشف أسراره من خلال معاينة بعضٍ من لوحاتها التشكليّة منها أو الرّقميّة.
(2)
باب الطّفولة

((اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأطفالِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ)).
إنجيل متّى: 18-3
*
وكيف أحدّثُكُم عن منال يا صحبي الكرام إذا لمْ أتحدَّثْ إلى الطّفلة فيها، فكلُّ شيءٍ يولد من هناك، من طفولة كلّ قلبٍ وروح، أيْ من رمس الذاكرة الفرديّة التي تتشكّلُ بها ومن خلالها الذاكرةُ الجمعيّة، ولا يمكنُ لأيّ إنسانٍ أبداً أنْ يُنْكِرَ هذه الحقيقة، لأنّها تسكُنُنَا جميعاً جسداً وقلباً وقالباً. ومنال الإنسانة قبلَ الفنّانة، تَعِي هذا جيّداً، وتعرفُ أنّ رحلةَ الشّفاءِ عبر الفنّ تبدأُ من هذا الباب الضّيّق جدّاً، الذي يجبُ الحفرُ فيه عن كلّ ما هو بعيد وقديم، عن كلّ ما هو شرخ وألم، وعن كلّ فرحة وبهجة، وعن كلّ سواد وبياض، وعتمة ونور، لتبدأ رحلةُ التّشكيلِ الكبيرة عبْرَ اللون والصوت والحركة والضوء واللاضوء والعطر والدّم والدّخان، ولتبدأ حكايات الطّفل الدّاخليّ الرّابض فيها، والذي ظهرَ هنا بشكلٍ مُبْهرٍ في هذه اللوحة المختارة ضمن تشكيلة متنوعة من لوحاتها (4).
تقول منال إنّ اسْمَ لوحتها (قبّة الأرض)، وإنّي لأرى أنّ الاِسمَ لوحده معضلة كبرى، فما بالك باللوحة كاملة! نعم، إنّها قبّة الأرض، ولكنّها نابتة وساكنة في سماء من مطر وخير عميم، وهذا ما يوحي بهِ اللّونُ الأزرقُ الذي تعوم فيه بقيّة عناصر اللوحة. والأرضُ رحمٌ، أيْ أمٌّ معطاءة عطوفة، والماءُ أبٌ ودود كريم، والطّفل بينهُما جنينٌ مَتَمَسِّكٌ بأهدابِ الحياةِ، وحَبْلُهُ السّرّيّ عَلَمُ الانتماءِ والهويّة الملتحمةِ جذورُها بطفولة ومشيمةِ شعبٍ بأكمله، وهُوَ عَلَمٌ أوْ حَبْلٌ يتغذَّى مِنْ قُدْسِ الرّوحِ. وهذا يدفعني إلى التّصريح بأنني لستُ أمام طفلٍ عاديٍّ، بل أمام طفلٍ كونيٍّ، يطرحُ أمامي قضيّة انتماءٍ إلى عائلة كونيّةٍ وجوديّةٍ تنحدرُ أصولُها مِنْ والِدَيِ الخليقةِ الأولى؛ حوّاء وآدم، عبر ما سأسمّيهِ برباطِ الكوكباتِ النّظاميّةِ المُعتَمِدَةِ على تقنيّة الوقوف العائليّ الجذريّ، والتي بموجبِها ترتبطُ كلّ روح إنسانيّة بضمير ووعي جمعيّ باطنيّ يُحَرِّكُهَا ويُغذِّيهَا ويَجْعَلُهَا ترفضُ أيَّ شكلٍ من أشكال العزلة، أو النّسيان، أو الرّفض والإهمال. وعليه، فإنّهُ حينما يحدثُ أنْ تتعرّضَ أيّةُ روح إلى الإقصاء أو الأذى فإنّ الشّرخَ يُصبِحُ عميقاً ويتمدّدُ إلى أن يطال نسيج كلّ الكائنات الحيّة داخل منظومة العائلة الكونيّة الكبيرة، ومن هنا تنبعُ مشاكلُ الإنسانية الحقّة، والتي بسببِها أيضا ظهرتِ النزاعاتُ والخصاماتُ وانفجرتِ الحروبُ في كلِّ ركنٍ من أركان الأرض.
فمنال إذن، لا ترومُ تقزيمَ تجربَتِها الفنّيّة بِحَبْسِهَا فقط في ماهُوَ سياسيّ محْض، وإنما تسعى بروحانيّة وصوفيّةٍ عاليّة إلى الوصول بها إلى الجذور الأولى، إلى الإنسانِ الطّفْلِ الجريح، منذُ أولّ قطرة دم سقطتْ من جسد هابيل، والذي وإن كان العديد من الناس يتظاهرون بنسيانه فإننا ما زلنا نحملهُ جميعاً في جيناتنا الرّوحيّة، لأنهُ أخونَا الأوّل الذي قُتِلَ بِيَدِ أخ آخر لنا هُو قابيل، وهُمَا معاً عائلتُنَا الأولى، وجُرحُنا القديم الذي لم يندمل أبداً. وعليهِ فإنّ قُبّةَ الأرض، ليستْ فقط القدس بمعناه المتعارف عليه لدى الجميع، وإنما هي قلبُ الإنسان وعرش الله الذي لا مكان سواه يتسع لجلال نورهِ وبهاء وجهه وحضوره الكريم (5)، ودليلي فيما ذهبتُ إليه من تأويل سيميائيّ عرفانيّ يوجدُ في هذه اللّوحة والتي تحمل اسم (قبّة القلب)(6): وهي القبّة التي دفعتْ منال إلى النّزولِ أكثر وأكثر في أعماق بئرها الجوّانيّ، منْ أجل الإفصاح أكثر عن خباياها والتي يُعَدُّ الحرفُ أولَاهَا كما يبدو هنا في هذه اللوحات التشكيليّة والرقميّة، والتي سأوزّعها على مرحلتين؛ مرحلة الوعي بوجود الحرف، ثم مرحلة الرؤية الدّاخلية:

- مرحلة الوعي بوجود الحرف (7):

غالباً ما لا يكونُ للتّاريخ الكرونولوجيّ للعملية الإبداعيّة أيّة قيمة تُذْكَر في حياة الأدباء والمبدعين والفنانين، إذ كثيراً ما لا يعني تاريخُ إنجازِ العملِ الإبداعيّ الموعدَ الحقيقيّ لولادته، لأنّ الولادة والظّهور يكونان متعلّقانِ بشكل حميميّ بالولادة الدّاخلية، لا الخارجية أو المادّية، وأصدَقُ دليل على ما أقوله هو لوحة منال (رقم 03)، التي على الرّغم من كونها أَجَدّ وآخِر ما أنْجَزَتْهُ مِنْ لوحاتٍ في هذا العام (تشرين الأول 2017)، إلّا أنّها وجدانيّاً أعتبرُهَا أوّلَ ما أنجزتْه في حياتها الإبداعيّة كاملةً، ولهذا أدرجتُها ضمنَ ما يُسَمّى بمرحلة الوعيِ بوجود الحرف، باعتبارها أسْبَق حتّى من لوحة (ذهبيّة) (رقم 04) ولوحة الطفلة ذات الفستان الأحمر (رقم 05)، وذلك لأنّ منال في طريقها لتحقيقِ هذا الوعي الحُروفيّ توقّفتْ ثلاث وقفات رئيسة، أسمِّي الأولى بوقفة النّظْرَة الذّهبِيّة الكُلّانية المتكاملة، والمتمثّلة بحركَة الأعينِ المُشْرعَة إلى ما لانهاية والمحدّقة باهتمام وفضول شديديْنِ ضمنَ اللّوحات الثّلَاث بعدَ أنِ انْغَمَسَتِ الرّوحُ الرّائية في ذَهَبِ شمسِ المعرفة المُتدفِّقَةِ من أعلى الأعالي. وهذه النظرة لها ثلاثُ أبعاد يتسّمُ بعضُها بالتشظِّي، والآخرُ بالسّيطرة والتحكُّمِ، والأخيرة بالتّفصيل والتدقيق الجُزئَانِيِّ المُتَّحِدِ بمركَز الوعي الإنسانيّ الجديد.
أمّا الوقفة الثانية فهي وقفةُ التّفكِير الجانبيّ الشُّموليّ الجامعِ بين ثلاثة عقول، هي العقلُ الحروفيّ، والعقلُ العرفانيّ ثمَّ العقلُ الإبداعيّ الخلّاق، الّذي يقودُ مباشرةً إلى الوقفة الثالثة التي فيها يتحقّقُ التّواصلُ بين كلتا الوقفتيْن السّابقتيْن بهدف امتلاكِ القُدرَةِ على التطوُّرِ والتّقدُّمِ أكثر فأكثر من أجلِ بلوغ القلبِ الطّفل عبر التدرُّجِ من مرحلة شيخوخة الروح إلى طفولتها الواعية ذات الوجه الصّبوح صاحب العينيْن المغمّضتيْن، أو ما سأسمّيه بمرحلة الرّؤية الدّاخلية.

- مرحلة الرّؤية الدّاخلية (8):

تتطلّبُ هذه المرحلة إغلاقاً كاملاً للعين الخارجيّة لتتحقّق الرؤية الدّاخلية عبر عين الرّوح أو الطّفل الدّاخليّ بغرض الوصول إلى مركز الأنا، ثمّ الذّات الخالصة، ثمّ قُدس القلب حيثُ يتمُّ الاحتفال بزفاف العقل والرّوح في حضرةِ كلّ عناصر منظومة الشخصيّة الداخليّة المتمثّلة بالفصّ الجبهيّ الحاوية لباحات برودمان، والمسؤولة عنِ التوازن النفسيّ والعقليّ للإنسان، وكذا عناصر الوعي الذاتيّ بالزمان والمكان، ثم منظومة منطق اللغة والذّاكرة التطوريّة للحرف. وهذا هو النّوع من العملِ الذي يقومُ بهِ عادةً الرّوحُ القدُس ممّا يُفَسِّرُ كُلَّ هذه الكشوفات الحروفيّة المتهاطلة بلوحات منال ديب كوعيٍ منها بحقيقة الوجود الإلهي المطلق، باعتبار أنّ الحرفَ أداتُه في الخلق والخليقة القائمة بين الكاف والنون، ولهذا نجدها، أيْ منال، تتعاملُ بحذر شديد مع الحرف ولا تُسْرِفُ في استخدامه، مادامت تحرصُ على كشف سَفَر الإنسانيّة الكبير خطوةً خطوةً، وليْسَ دفعة واحدة، انطلاقاً من أنَّ الحرفَ نفسه لا يفصحُ عنْ نفسِهِ إلّا إلى خاصّة الخاصّة الذين يرونَ فيهِ حياةً جديدةً، وقراءةً أَجَدّ لكُلِّ ما هو جامع بيْن العِلْمِ والإيمان، بغضّ النّظر عن الحرفِ الأوّل الغائبِ واللّغة التي مازالتْ لليوم محجوبةً عن الكثيرِ منْ أهْلِ العرفان والذّوْق الصوفيّ. وأقولُ هذا، لأنّي وجدتُ أنّ منالاً قدْ حقّقتْ في سَفَرِهَا الحروفيّ هذا ما لمْ يُحَقِّقْهُ قبلَها العديد من فنّاني عصرها من خلال جَمْعِهَا اللّاشعوريّ في اللوحة (رقم 06) بيْنَ ما فيه شبهٌ كبير بالوجه المصوّر في كَفَنِ يسوع (09) وبيْنَ البسملة التي هي أمُّ الكتاب الثالث وعرشُ اللهِ المتمثل بـ (كُنْ)؛ أو بفعل الكينونة الّذي بهِ أظهرَ الخالقُ الموجودات وفَتَحَ الخيرات مِنْ كَنْزِ عنايته. ولأجلِ هذا نجدُها تسعى عبر فنِّهَا إلى الاتّحادِ بالحرف لأنّهُ العدلُ الذي يحلمُ بتحقيقه كلّ إنسان، ولأنّهُ الرّحمةُ والمغفرة، ولأنه ذخرُ الذّاكرين، وحرزُ المُسْتَضْعَفين الذي بهِ لا يضيعُ الحقُّ، ولن يكونَ الخيرُ بدون مقابل، ولأنه أيضاً سرُّ البهجة والسّرور، لا هَجْرَ فيهِ ولا غَدْرَ، ولا ضياع ولا وحشة، وإذا غاب اشتاقتْهُ القلوب من أهلِ لا إله إلا هُو، صاحبَ الحقيقة المتجلّية في لوحات منال عبر الوجه الأنثويّ طفلاً كان أو راشداً بالغاً.

(3)
وعُلِّمْنَا منطق الطّير
((وَالصَّافَّاتِ صَفّاً، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ))
سورة الصّافّات: 01-03
*
وبتجلّي الحرفِ عند منال تتجلّى أيضاً طيورُها، التي عُلِّمْنَا مَنْطِقَهَا في العديدِ من لوحاتها، والتي اخترتُ منهَا هذه المجموعة وذلكَ لظهور طيور شجرة الجَسَدِ الكونيّ فيها عبر شتّى مراحل التطوّر الإنسانيّ، بدءا من الشيخوخة إلى الطفولة الأولى (10). وإذ أقولُ شجرةَ الجسد فإني أعني بها تلكَ الشجرة المباركة الزّيتونة اللّاشرقية واللّاغربية التي يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، لأنها بيتُ الله الّذي أذِنَ أَن يُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيه اسْمُهُ ليُسَبِّحَ لَهُ الإنسانُ فيهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وهُو الذِّكْرُ الّذي لا يمكنُ حدوثه وإعلاءُ صرحه ما لمْ تنفُضِ الرّوحُ غبارَها، وتخلعْ قُشُورَ الظّلمة والهمّ والغمّ والأحزان والذكريات الأليمة، ومالمْ تُغادِرْ سِجْنَهَا الأرضيّ لتصبحَ أكثر قدرة على قيادة كلّ قواها الرّوحية وطيورها النورانيّة التي تُصبحُ طائعةً بين يديْها، تأتيها بالمُدْرَكَاتِ الكُلّيّة والكمالات والعطاءات، وتَحْشُرُ لها كلَّ الجنودِ القلبيّة ظاهرها وباطنها، إلى أن تصلَ إلى مرحلة ظهور حمامة روحِ القُدُسِ في مركز قلبِ الشّجرة، بعد أن تبلغَ طفولتَهَا الكاملة بشكل نهائيٍّ ومطلَق، كما هو واضح في هذه اللوحة (11) التي اكتملَ فيها الإسراءُ مِنْ ظلمة الغواشي عبر التّنْزيهِ عن كلِّ اللّواحق والنقائصِ النفسيّة، بهدفِ العروج مِنْ مقام القلبِ المكنون إلى أقصى الرّوح لمعاينة تجلّيات النّور الإلهيّ بين صفوفِ السّالكين في سبيل طريقِ التوحيد الزّاجرين لكلّ مظاهرِ العتمة النفسيّة بالذِّكْرِ المستمرّ عبر هطولات حروفيّة تسري بالرّوح إلى ملكوت الرّحمن حيثُ لا كدر، ولا دموع، ولا عذاب، بسرّ ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (12).
الهوامش:
(1) Lewis Carroll, Alice nel paese delle meraviglie-Alice nello specchio, a cura di D. Ziliotto, A. Lugli, illustratore, J. Tenniel, Salani, Collana Istrici d’oro, 2015.
(2) لويس كارول، آليس في بلاد العجائب، وآليس في المرآة، ترجمة سهام بنت سنية وعبد السلام، مراجعة سارة بنت نهاد وعناني، دار التنوير، ط1، 2013، ص 11.
(3) إنجيل متّى 7/ 13-14.
(4) انظر في الملاحق، الجزء الخاص بمنال ديب، اللوحة رقم 01.
(5) د. أسماء غريب، مقام الطفولة، من ديوان (مقام الخمس عشرة سجدة)، ط1 دار نووفا إيبسا إيديتوره، إيطاليا، 2013، ص 46. ط 2، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2016، ص 47.
(6) انظر في الملاحق، الجزء الخاص بمنال ديب، اللوحة رقم 02.
(7) انظر في الملاحق، الجزء الخاص بمنال ديب، اللوحات رقم 03، 04 و05.
(8) انظر في الملاحق، الجزء الخاص بمنال ديب، اللوحتين رقم 06 و07.
(9) وأعني بها القطعة الكتّانية التي يقال إنّها كانت الكساء الذي كُفِّنَ به السيد المسيح. والتي تمَّ الاحتفاظُ بها منذ عام 1578 في المصلّى الملكيّ بكاتدرائية سان جيوفاني باتّيستا في مدينة تورينو الإيطالية.
(10) انظر في الملاحق، الجزء الخاص بمنال ديب، اللوحات رقم (08)،(09) و(10).
(11) الملاحق، اللوحة رقم (11).
(12) الإسراء: 01.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب