الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وحدث أن نجوت...سيرة على إيقاع هموم الوطن

رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث

(Rasheed Alnajjab)

2023 / 1 / 18
الادب والفن


قدم الكاتب والمفكر عبد المجيد حمدان “أبو وديدة” ما يتعدى سيرة شخصية، إلى سيرة قرية، بل تضمنت ملامح سيرة شعب، جاء ذلك في كتابه الموسوم "وحدث أن نجوت " الصادر عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عَمَّان عام 2018
شغل فضاء عارورة "القرية التي ينتمي إليها الكاتب “ مساحة واسعة من السرد، واتسمت الكثير من التفاصيل بخصوصيات المكان والناس في عارورة، إلا أن القارئ سيلمح تشابها في تفاصيل حياة الناس مع ما يجري في العديد من قرى فلسطين على امتداد الوطن، ذلك أن الكاتب وضع تفاصيل الحياة الشخصية ضمن صور أكبر، شملت الإشارة إلى ملامح المجتمع الفلسطيني في المدى الزمني الذي غطته السيرة والبالغ ثلاثة عقود من الزمن، وإن امتدت بعض التفاصيل التي اقتضاها السرد إلى سنوات سبقت هذه الحقبة الزمنية أو تلتها، تتابع كثيف للأحداث في مرحلة حرجة من تاريخ فلسطين والمنطقة، ولعل ثورة فلسطين عام 1936-1939 والحرب العالمية الثانية، ثم نكبة فلسطين 1948، والنكسة 1967، وما بينهما تركت تأثيرا واضحا في الجيل الذي عايش هذه الأحداث بشكل عام ، إلا أن العين الفاحصة المتمعنة في التفاصيل، والفكر المحلل والناقد للكاتب قد ألقت الضوء على محاور هامة، منها ما راقبته عين الطفولة في الصغر، ومنها ما رافق تشكل الوعي ومعايشة الأحداث، وآخر صاغه “أبو وديدة” بخبرة المناضل المجرب، والباحث والمفكر . من هذه الأجواء انبثق هذا العمل الذي تميز بالتشويق في الأسلوب، الذي اتخذ طابعا ساخرا حيثما سمح الظرف بذلك، إضافة إلى الرصانة في الصياغة التي تأثرت بما سبقها من أعمال ذات طابع بحثي. وكانت الأمثال الشعبية حاضرة معبرة عن الظرف التي وردت فيه، مشيرة إلى مخزون ثري من هذه الأمثال في ذاكرة أبي وديدة. وقد أدرك صعوبة بعض المصطلحات المستخدمة في المجتمع الريفي، فعمد إلى تفسيرها حيثما وردت، كما استعان باللفظ كما هو في اللهجة المحلية أحيانا ربما ليجعل الصورة أكثر قربا من الواقع.
يلاحظ القارئ اهتمام المؤلف بعدد من المحاور الرئيسة في سياق السرد؛ التعليم، والمرأة، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وكان لا بد من الإشارة إلى الأحداث الرئيسة التي شهدتها المنطقة كالحرب العالمية الثانية، والنكبة والنكسة وغيرها، ولكنها جاءت في سياق السرد دون الخوض في كثير من التفاصيل.
اعتبر “أبو وديدة” أن الحظ حالفه بانتقال التعليم من نظام الكتاتيب إلى التعليم في المدارس مع بداية عهده مع الدراسة الابتدائية، إلا أنه تناول نظام التعليم من جوانب عديدة ملقيا الضوء على التحديات الأساسية التي واجهت التعليم في تلك المرحلة، وكان في مقدمتها ضعف البنية التحتية من حيث توفر المدارس، والهيئة التدريسية بمستوى مقبول من الكفاءة، ومحدودية فرص التعليم بعد المرحلة الأساسية، ناهيك عن أساليب التدريس التي تابعت ما بدأ به الكتاب من مهمة التلقين مع اختلافات طفيفة، واعتماد الضرب وسيلة للتربية، والأهم من ذلك انعدام فرص التعليم للبنات

أما عن هموم المرأة ومعاناتها فلم يكن غريبا أن يتجاوز “أبو وديدة” بفكره التقدمي مسألة التعاطف مع المرأة إلى الدفاع المبني على الفهم العميق لظروف النساء، وأسس وأسباب المعاناة التي يتعرضن لها بأشكال مختلفة في حيواتهن اليومية، وكان الجهل في مقدمة هذه الأسباب، وقد عرض الكاتب من خلال السرد صورا متعددة من المعاناة التي تواجهها المرأة في المجتمع الفلسطيني سيما في الفترة موضوع هذا الكتاب، وإضافة إلى ما سبق ذكره من الحرمان من التعليم في المجتمع الريفي على وجه الخصوص، فإن الأعباء والمسؤوليات المكلفة بها المرأة في البيت، وفي الحقل، لا يعفيها واحدهما عن الآخر، وعلى نحو يفوق ما يقوم به الرجل كما ونوعا، وفي افتقارها إلى النوم، والراحة، ولا يعني هذا ضمانا لحقوقها، وحصولها على ما يعادل هذا العبء، بل على العكس كانت مغبونة في الأجر عندما يكون العمل مأجورا ، تتقاضى نصف ما يتقاضاه الرجل، أو ثلثيه في أحسن الأحوال، وتفتقر إلى الحصول على الرعاية الصحية الملائمة، وتتعرض فوق هذا كله للمهانة وسوء المعاملة من الزوج ومن الأقارب.
اهتم الكاتب بالمواضيع الاقتصادية والاجتماعية، والعادات المتبعة في المواسم المختلفة، وتعمق في وصف تفاصيل العديد منها، وكانت المظاهر الإيجابية من هذه الصور مثار فخره واعتزازه، وإن كان يصفها بعين الطفولة المراقبة، ولعل في هذا الوصف من البراءة والصدق ما أضفى عليه الطابع المرح، بل والاحتفالي أحيانا.
وفي وصف الحياة الاقتصادية والاجتماعية تعرض للكثير من التحديات التي كانت تواجه الناس وتقلب أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية تبعا لذلك، وقد تناول كلا من الجوانب الإيجابية والسلبية للعلاقات الاجتماعية السائدة، فمن الجوانب الإيجابية كانت "العونة" و "المجاملة" من التقاليد التي وصفها الكاتب بكثير من التفصيل، خصوصا في مواسم الزيتون والحصاد، وعند البناء. والتي كانت تقلل من الحاجة إلى العمل مقابل الأجر.
ويشير الكاتب إل بعض الجوانب السلبية مثل “الطُوَشْ" التي كانت تجري بين العائلات المختلفة وبين أفراد العائلة الواحدة أحيانا، في غير مواسم الوفاق سابقة الذكر، وتفاهة الأسباب التي تكمن وراء إشعالها، وفداحة النتائج المترتبة عليها، ومنها غير خطر القتل والإصابات، والمحاكم، شهادات في المحاكم يُدفع لها الأطفال، دون إدراك أو اهتمام بتبعات هذه التصرفات على تربية الأطفال وقيمهم ومستقبلهم
الدراسة الجامعية في مصر كان لها نصيبها من السرد بحيث تضمنت التحديات التي سبقت البدء بالدراسة، ثم تحديات الدراسة والمحافظة على التفوق وفاء لما أبداه والده من موقف داعم لمتابعة مسيرته الدراسية بالرغم من صعوبة الشروط المفروضة. شكلت فترة الدراسة الجامعية فرصة للتزود بالمعلومات الثقافية من خلال السينما والوسائل الثقافية الأخرى المتاحة في مصر في ذلك الوقت، ويأتي في مقدمة ذلك توفر المطبوعات بأسعار في متناول يد الطلاب. وغني عن الذكر ما كان لنجم الناصرية الصاعد في تلك الفترة من أثر في الوعي السياسي للكاتب، والذي لبث لفترة بعيد عودته من الدراسة قبل أن يعود إلى مكانه في صفوف الحزب الشيوعي.
وقبيل الختام يضيف أبو وديدة ثلاث محطات رئيسة تضمنت شحنات عاطفية مؤثرة، أولها حديثه عن شقيقته، ومعاناتها من المرض الذي لم يعفها من معاملة قاسية من الزوج، وانتهت هذه المسيرة برحيلها، ثم رحيل والديه بطريقة وحشية على يد كمين إسرائيلي أثناء محاولة العودة إلى الوطن مع مجموعة من العائدين بعيد النكسة. وأخيرا تلك الصورة لقدوم أول مولودة له خلال الشهر الأول بعيد الاحتلال، وهذا الوصف الجميل الذي صاغه لوديدة لوجهها الصبوح، أي قوة استعان بها “أبو وديدة" لرسم هذه الصورة واستذكارها، كأنه أراد أن يحتفظ بهذه الصورة البهية كلما تذكرها لتشد من أزره، هي التي ذبلت وغادرت دنيانا ولما تزل طفلة، وفي ظروف شديدة القسوة.
ويختم “أبو وديدة” هذا الجزء من السيرة بصورة رأى فيها بارقة أمل نتجت عن نجاح جهوده ورفاقه في الحزب في ثني كثير من العائلات عن الرحيل استجابة لنداءات إسرائيلية مشجعة، نعم رحل البعض، ولكن الجهود أثمر ت في بقاء أخرين في الوطن هذا ما قاله “أبو وديدة”:
"هو فوز صغير في مواجهة مخطط شرير وكبير، ولكنه فوز على أي حال، فوز زرع في النفوس المكسورة أملا. كان أوله البقاء في الوطن"
وأعتقد يا أبا وديدة أنك زرعت في نفس القارئ أملا بقراءة أجزاء أخرى من هذه السيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة