الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 54 الحلقة الأخيرة

علي دريوسي

2023 / 1 / 19
الادب والفن


بعد الدفاع عن أطروحتي رجعت إلى ألمانيا واشتغلت هناك لخمس سنوات متواصلة في شركة كبيرة لتصميم وإنتاج علب السرع الكوكبية. بعد ذلك تم تعييني بصفة بروفيسور في معهد تصميم عناصر الآلات التابع لجامعة برلين التقنية.

ها قد مضت الآن عشر سنوات ونيف على دفاعي عن إطروحة الدكتوراه وأكثر من اثنتي عشرة سنة على لقائي الأخير مع سابينه. وها أنا من جديد في إنكلترة، لكنني هذه المرة برفقة عائلتي، جئت إلى جامعة "برايتون" لتنفيذ بحث علمي مشترك لستة أشهر.

في ظهيرة يوم الأحد، في السابع والعشرين من شهر أغسطس، كنت عائداً من أحد المطاعم بالقرب من كاتدرائية "ساوثوورك" ليس بعيداً عن جسر لندن القديم لنهر "التايمز". وأنا في طريقي إلى محطة قطارات "جسر لندن" متمتعاً بأشعة الشمس المشرقة على استحياء، راحت عينايّ تبحثان في زحمة الناس عن شبيهٍ لي أتحدّث إليه قليلاً بأريحية.

وحيداً أطوي المسافات الطويلة والقصيرة في الشوارع اللندنية الإفعوانية، تائهاً ترافقني أفكاري الثقيلة والخفيفة، عارفاً أن ثمة محطات تنتظرنا وقطارات تحثنا على الصعود أو النزول، مدركاً تماماً أن ثمة تغييرات لا إرادية تهاجمنا، تشغلنا باندفاعها وهديرها المفاجئ، تقتلعنا من الجوّ المعتاد، تضعضعنا في جذورنا، تزلزلنا، تدفعنا للحلم، تجبرنا على البحث عن حقيقتنا وتوهمنا بضرورة إعادة بناء ذواتنا، ثم ما نلبث أن نكتشف أنَّنا كنا حمقى مسرنمين في عبق إرهاصات التغيير، منوَّمين بالوعود والأمنيات، فنعود وبفرحٍ لا حدود له إلى ما اعتدنا عليه، إلى الهدوء (الكاذب) الذي صرنا نفتقده في زمن الثورة الصناعية الرابعة.

وأنا أجتاز الشارع المفضي إلى عتبة المحطة صادفتها، توقف السير، إشارات المرور صارت خضراء، إنها تعبر الشارع، إنها لا ترى السيارات، إنّها لا تراني، إني أراها ولا أتجاهلها، إنها لا تعرفني، إني أعرفها، رأيتها مرات كثيرة معي، طويلة، بيضاء، فارعة، غزالة، جميلة مثيرة كعادتها، اِرتدت فستاناً خفيفاً أسود اللّون بتفاصيلٍ أنيقةٍ هادئة، اِنتعلت في قدميها اللتين طالما أحبّهما قلبي حذاء قماشياً مريحاً بلّونِ أحمر شفتيها وعلّقت حقيبةَ يدها الجلدية في كتفها الرشيق.

سألت نفسي وأنا أبتسم: ما الذي يفعله هنا هذا المخلوق الكوكائيني الساحر؟

لعلّها أغلب الظن، وكما عرفتها طويلاً، قد أمضت المساء والليل بالقرب من هنا، برفقةِ شخصٍ ما يشبهني، في إحدى غرف أوتيل جسر لندن العريق، أو في بار ومطعم "جيميس واين" جانب الأوتيل، أو في صالة "كوارتير" التابعة للأوتيل.

لمحتني، نظرتْ إليّ بشوقٍ، زلزلتْ كياني، بادلتها النظرة بتلهُّف عارمٍ، كانت على يمينها اِمرأة حلوة في مقتبل العمر، لعلّها هنيلوري جديدة، أومأتْ سابينه لي برأسها، غمزت بعينيها، ظننتُ أني رأيتُ دمعةً نقيةً تسيل على وجنتيها، كلّمتها مرافقتها هُنيهةً ثم توجهتا إلى رصيف القطار المسافر إلى مدينة "باث" جنوب غرب إنكلترة.

هَزَزْتُ رأسي بحبٍ وحنينٍ كما كنت أهزّ في طفولتي غصن شجرة التوت، رفعتُ رأسي عالياً ناحية اللوحة الإلكترونية المضيئة لأنظر إلى قائمة مواعيد القطارات المغادرة، كانت الساعة الرابعة ظهراً، تناولتُ بطاقة سفري من جيب سترتي، دَقَّقتُ رقم القطار وموعد اِنطلاقه، مضيت ساهماً إلى بوابة الدخول المؤدّية إلى الرصيف رقم ثمانية، سيغادر قطاري في الساعة الرابعة والربع إلى مدينة "برايتون" في الجنوب، حيث أعيش مؤقتاً مع عائلتي الصغيرة، زوجتي مانويلا وأولادنا الثلاثة، ريثما ينتهي قريباً فصل البحث العلمي الذي أنجزه في مخابر جامعة "برايتون".

صعدت إلى إحدى عربات القطار المسافر من محطة "جسر لندن" إلى مدينة "برايتون". حركة الناس في هذا الوقت بطيئة، لم يغادروا مواقع عملهم بعد، العربة رقم تسعة فارغة إلا من بضعة مسافرين جلسوا متفرقين وقد أمسك أغلبهم في يده كتاباً.

كان يومي مضنياً كالعادة، كنت مشاركاً في ورشة عمل لتقييم نتائج بحوثنا، بدأت يومي بالإنصات إلى محاضرات تقنية جافة وثقيلة وأنهيته بالمجادلات العلمية مع الزملاء خلال تناول طعام الغداء في أحد المطاعم الموزعة بالقرب من كاتدرائية "ساوثوورك".

في عربة القطار مارست العادة التي أدمنتها في الغربة: مسحت بعيني الذكيتين سكان العربة باحثاً عن تقاسيمَ وجوه فيها من المرونةِ والطيبة والجمال ما يكفي كي أتشجع على محادثة أصحابها خلال السفر دون تكلُّف، عاملاً بالقاعدة البحترية: "ورفيق رافقته في طريق .. صار بعد الطريق خير رفيق". لمحت امرأة جالسة في مقعدٍ مزدوجٍ، مشيت باتجاهها، دنوت منها كما تدنو السفينة من الشاطئ بعد رحلة طويلة وجلست قبالتها. نظرت صوبها خلسةً، لكنها لم تعر نظراتي انتباهاً، استرخيت في مقعدي، أغمضت عيني باستلذاذ وأنا أتسأءل بدهشة وبراءة:

هل وُجِدَ هذا الكائن الكوكائيني المُسمى "سابينه" في حياتي حقاً؟ أم كان حلماً جميلاً من أحلام وخيالات طالب شرقي معزول ضائع في غربته!؟

وأنت يا صديقي هل أمتعتك الرحلة الطويلة في قطار آخن؟

أَتُراكَ كنت مثلي يا صديقي؟ مرّةً مَهِيضَ الجناحين، لا تقوى حراكاً، عيناك غائمتان، حولك عيون، عيون باكية، عيون شامتة، وأخرى ترقبُ لحظةَ انتهائكَ، وأنتَ لا تعلم أنَّك سقطت، لا تدري كيف وأين ولماذا سقطت ؟ ومرّةً تفردُ جَناحيك، تطلقهما للريح وتطير بخفّةٍ، ترقص بعيداً عالياً، ولستَ ترى حولكَ سوى فراشات ملونة، أطواق ياسمين وأقواس قزح. ينبعثُ سَناءٌ شفيفٌ سَّاطع من وراء الشّجر والمسافات، يكاد يَنْفذ إلى أعماقكَ، فيكشف أغوار نفسكَ وخفايا روحك، وتُشرق كشمسٍ عند الغروب، فتبتسم بسكينةٍ وطمأنينة. أيُّ سِحْرٍ هذا الذي ينقلكَ من حفرة عميقة في الأرضِ، مختنقاً أو تكاد، إلى جبلٍ شامخٍ، لكأنّك تملك كلَّ النور والشمس والنار والأرض والهواء والماء!؟

***


تمت
والله ولي التوفيق
ألمانيا – الغابة السوداء – 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا