الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المزيج الثقافي والتواصل الحضاري بين الإسكندرية وغيرها من المدن العالمية (قراءة في ضوء الظاهرة الأدبية )

ياسر جابر الجمَّال
كاتب وباحث

(Yasser Gaber Elgammal)

2023 / 1 / 20
الادب والفن


تعددت عناصر الظاهرة الأدبية في الإسكندرية إلى حد كبير بعد حملة بونابرت على مصر، إذ انفتحت الثقافة المصرية على الغرب في القرن التاسع عشر انفتاحًا رحبًا، وذلك بسبب البعثات العلمية والأدبية التي بدأت في عصر محمد على وتزايدت في عصور خلفائه، وكذلك سبب تزايد اهتمام الإنجليز والفرنسيين بمصر، وكانت الإسكندرية هي بوابة الدخول والخروج، فامتزجت عناصر أوروبية مختلفة مع العنصر العربي والمصري واليوناني، وتاريخ الأدب يشير إلى حضور البعد اليوناني تاريخيًا قبل ذلك وعلى امتداد التاريخ القديم والوسيط، " فإذا وصلنا إلى العصر الحديث وجدنا تراثا عظيمًا من شعر كفافيس، وهو أشهر من كتب باليونانية في هذا العصر‏، وشعر أونجاريتي وهو بلا منازع أبو الشعر الإيطالي الحديث‏، وشعر مارينيتي رائد المدرسة المستقبلية في الشعر والفن‏، وشعر سواهم من المصريين والعرب والأجانب‏.‏ تراث عظيم تجاوز أثره حدود الإسكندرية وحدود مصر ليلهم شعراء العالم في كل العصور‏، ومن المعروف أن الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس وأوفيد‏، ولا شك أن شعر كفافيس في هذا العصر كان مصدر وحي لشعراء كثيرين‏."( ).
والحقيقة أن العنصر اليوناني الذي كان مستقرًا في الإسكندرية قبل الاتصال الحديث بالغرب لم يقف، بل ظل قائمًا بقوة في نسيج الأدب، وذلك لطول زمن استقرار عدد كبير من اليونانيين في المدنية واختلاطهم بالناس، ولكونهم طبقة أصيلة في النسيج السكاني يتفاعل اجتماعيًا وفكريًا ويتأثر، وما زال صدى كفافيس قائمًا في الشعر السكندري حتى الآن، غير أن الباحث لا يستطيع أن يتجاهل التيارات التي وفدت إلى الإسكندرية من أوروبا ومن انفتاح الإسكندرية على الثقافة المحلية في أقاليم مصر المختلفة في القرن التاسع عشر بعدها" استعادت الإسكندرية جزءًا من مكانتها الحضارية في القرن 19م. حين صارت ميناءً تجاريًا ضخمًا، وصارت محطة للركاب منها يرتحل المسافرون، وإليها يفد القادمون من أنحاء العالم، فاحتك أهلها بأصحاب الحضارات الأخرى، واستقر بها كثير من الجاليات الأجنبية. لذلك لم يكن بمستغرب أن تنشأ بها الصحف والسينما وتتألق الفنون المختلفة"( ).
وعلى هذا لم تعد عناصر الظاهرة الأدبية بسيطة كما كانت، وإنما صارت معقدة تتكون من روافد أجنبية، وروافد عربية، وروافد مصرية من أقاليم مصر المختلفة بعدها صارت الإسكندرية منطقة جذب للمصريين من الجنوب والدلتا للعمل والإقامة" وقد ظهر بعض الشعراء في الإسكندرية في أواخر القرن 19م. ولكن الشعر الإسكندري اتخذ مكانه على خريطة الأدب العربي حين أنشئت (جماعة شعراء الشلالات ) على يد عتمان حلمي عام 1912م وضمت معه كلاً من عبد اللطيف النشار وزكريا جزارين وعبد الحميد السنوسي ومحمد مفيد الشوباشى وحسن فهمي وعبد الحكيم الجهني. ثم عاد عبد الرحمن شكري من بعثته في إنجلترا ليعمل بمدرسة رأس التين الثانوية، فصار رائدًا للجماعة بما حمله من أفكار في تطوير القصيدة العربية. "( ).
وتعد جماعة الشلالات نموذجًا لتأثير الجماعات الأدبية وبروز خصائص فنية مشتركة بين أعضائها على التغيير الإيجابي الذي لحق بالشعر السكندري، ولم يقتصر الأمر على جماعة شعراء الشلالات، وإنما تفرع منها جماعات وتكوينات أدبية أخرى واهتمت هذه الجماعة بسلاسة الشعر والابتعاد عن التعقيد اللفظي، واهتمت بالتعبير عن التجارب الذاتية، وطرق شعراؤها موضوعات مبتكرة، وعبروا عن البيئة الساحلية، فكونوا بذلك اتجاهًا فنيًا جديدًا للشعر في الإسكندرية.
واجتمع أكثر من ثلاثين أديبًا عام 1932 ليكونوا (جماعة نشر الثقافة في الإسكندرية) وكان هدفها النهوض بالمدينة ثقافيًا، والعمل على جمع شمل الأدباء ونشر إنتاجهم ورعاية مصالحهم، وقد دعا إليها الدكتور مصطفي فهمي ويوسف الجزايرلي، وتكوَّن مجلس إدارتها الأول من خليل شيبوب وعبد اللطيف النشار ومصطفي فهمي وداود حلمي، وكان القباني سكرتيرًا لهما، وتكونت لجان للتأليف والترجمة والنشر والمحاضرات والمهرجانات والفنون الجميلة، وقد ضمت الجماعة أصحاب الثقافة العربية الأصيلة وضمت أيضاً من انفتحوا على الثقافات الأجنبية، فحدث تمازج أتاح لجماعة نشر الثقافة أن تحقق ازدهارًا - بالفعل - في فنون الأدب بالإسكندرية، والتحق بعضويتها كل من د. حسين فوزي ود.عبد العزيز برهام وعبد الفتاح الطويل ونبوية موسى وإسماعيل صدقي وحسن سرور وحكمت فهمي.. وغيرهم"( ).
ومع استمرار القرن العشرين نجد صورة شديدة الوضوح للتفاعل الأدبي في الإسكندرية، بعد مختلف التيارات المحلية والأجنبية، وتعرفنا على نشاط غير محدود لجماعات شعرية وفنية تضافرت فيها أشكال الإبداع اللغوي الفصيحة وغيرها من اللهجات العامية "إذ أن بيرم التونسي‏، ‏وعبد الرحمن شكري‏، ‏وأحمد زكي أبو شادي‏، وخليل شيبوب‏، ‏ونقولا فياض كانوا أساتذة أجيال من الشعراء العرب المعاصرين‏.‏الإسكندرية إذن مدينة غنية بالشعر‏، ‏أو فلنقل إن الإسكندرية مدينة شاعرة تجذب الشعراء‏"( ).
استمر النمو الأدبي واتساع مجالات التفاعل بين التيارات الأجنبية والمحلية في الإبداع بعد إنشاء جامعة فارق الأول ثم صارت بعد ذلك الإسكندرية التي كان له دور كبير في إرساء رؤى وتصورات واتجاهات فنية وفكرية مختلفة بعد المد الثوري في مصر واستقلالها عن السيطرة الاستعمارية، وبدأ يكثر الشعراء الذين اهتموا بتكوين جماعات منهم تتميز بوحدة نسبية في الخصائص الفنية ورغبة مشتركة في تبني اتجاه دون غيره، وتكثر الجماعات وتتعدد الاتجاهات، ولذلك بدأت كل جماعة في اللجوء إلى مكان يخصها، فظهرت المقاهي الأدبية والنوادي "إن الذين يؤرخون للشعر السكندري وتطوره بعد الحرب العالمية الثانية، يفقدون الكثير إذا أهملوا دور رواد (قهوة النيل) بالمنشية من الشعراء الذين استجابوا لدعوة زميلهم الشاعر أحمد حسين شحاته - أمين مكتبة البلدية وقتذاك - "واتخذوا من هذا المقهى المجاور لمبنى الشهر العقاري منتدى أدبيا ليليًا وقد أعد صحابه- في ذلك الوقت في أحد أركانه ما يشبه الصالون المفتوح، وعرف رواد المقهى أن هذا الركن خاص بالشعراء، فأطلقوا عليه اسمهم، وقد استمر هذا الصالون يؤدى رسالته من بداية- الخمسينيات إلى نهاية السبعينيات من هذا القرن تقريبًا. وكان الذين لا يربط بينهم غير الشعر يجتمعون كل ليلة بهذا الصالون لسماع ومناقشة آخر الإبداعات الشعرية سواء أكانت من عمل رواة أو مما تنشره الصحف والمجلات أو صدر في دواوين"( ).
ويشير الشاعر عبد العليم القباني في دراسته عن واقع الحياة الأدبية وتاريخها القريب منه وتأثره شخصيًا برواد هذه المقاهي والنوادي الأدبية، فيقول" وإذا كان من الأفضل أن نعرف بعض أسماء هؤلاء الرواد الآن فإني أذكر منهم الداعي الأول أحمد حسين شحاته، حيث يدعو للأساتذة المرحومين عبد القادر العوا، والسقا الشناوي، ويوسف فهمي الجزايرلي، ومحمد عبد الرحيم إدريس، ومحمود عبد الحى، وإدوارد حنا سعد، وعبد الحكيم الجهني، وأنور شعلان، وصديق شيبوب، ومحمد محمود زيتون، وفوزي الميلادي، وأمل دنقل، وفتحي سعيد، ومن الذين أدعو لهم بطول العمر الأساتذة أحمد السمرة، ود. حسن ظاظا، ود. عمر الجارم، ورمضان بيومي، وعادل مخلوف، ومحجوب موسى، وبطبيعة الحال لم يكن لحضورهم مواعيد دائمة، ولا نفضي هذه الأسماء بأنهم لازموا الحضور وبصفة دائمة، وكذلك لم يكن الحاضرون جميعًا من الشعراء بل كان للغاوين نصيب أيضًا، كذلك كان يزورها بعض شعراء القاهرة والأقاليم إذا ما حضروا لزيارة الإسكندرية لسبب، ومن ثم وجدوا الفرصة سانحة لزيارة رفاق الطريق"( ).
وحين نستمر في قراءة المرحلة الزمنية التي يعمل عليها الباحث، وهي النصف الثاني من القرن العشرين نكتشف صحة التعددية، وبداية غلبة العناصر المحلية على غيرها، فقد بدأت الجامعة تستقبل طلابًا من الأقاليم بدءًا من جنوب مصر حتى ساحلها الشمالي؛ مما يفسر لنا كثرة الجماعات وتنوع اتجاهاتها، إذ إن إنشاء قصور الثقافة وانتشارها في ربوع المدينة أدى إلى احتضان الجماعات الأدبية وبداية انصهار الأفكار المختلفة في نطاق واحد موجه وهو الإطار القومي المصري الذي غذاه بقوة المَّد الثوري وأكسبه اتساعًًا ومنحه حرية في التعبير عن مختلف القضايا سواء كان ذلك التعبير موافقًا لأفكار هذا المد الثوري أو مختلفًا معه، ولقد" ظهرت بدائل للجامعة –حين انفصلت عن الأدباء - تمثلت في تجمعات أدبية في أوائل الستينيات ومنتصفها منها هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وجمعية أصدقاء الشيوخ وذوى المعاشات، وجمعية أدباء الشعب، وجماعة أدباء الرصيف - التي أنشأها محسن الخياط - وجماعة الأدب العربي، والنادي النوبي وجريدة السفير، ومقهى النيل.. وغيرها، ثم صار النشاط فعالاً من خلال قصور الثقافة، حيث انتعشت الفنون في قصر الأنفوشي تحت قيادة الفنان فاروق حسنى بينما انتعشت الآداب في قصر الحرية على يد محمد غنيم، كما قام الاتحاد الاشتراكي بدور فعال في الأدب بالمدينة، وكذلك المركز الثقافي السوفيتي، وجمعية الشبان المسلمين، وفي أوائل السبعينيات انضم الأتيلية إلى دائرة النشاط الأدبي، لكنه صار أكثر نشاطاً وفاعلية هذه الأيام على يد د. محمد رفيق خليل (رحمه الله)"( ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان