الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قِحَابٌ وَلَكِنْ...

عزالدين بوروى

2023 / 1 / 21
الادب والفن


قصة قصيرة


…واصطف الجميع ،وأنا واحد منهم، على طول الرصيف الرابط بين حي الإسماعيلية وقنطرة "بربحية" ننتظر قدوم أرباب مزارع تافراطة لنبيع عرق الجبين بدراهم بخسة. كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحًا وزمهرير ديسمبر اخترق أعماق عجائزنا، كلٌّ يختبئ في ملابس نديمه. دخان السبسي يلوح في الأفق، حتى أن القادم إلى المدينة والمار على "مُوقفْ الاسماعيلية " يخال نفسه بشوارع لندن أو مانشستر. لم يكن ذلك الضباب إلا دخان سبسي عمي اعمر وآهات وآمال أولئك الكادحين الذين تنكرت لهم الحياة ومارست الرذيلة عليهم واحدًا تلو الآخر.
بدأت المحلات على طول الشارع الرئيسي تفتح أبوابها ، عمي العوينة هنا يزيل قطرات الندى المتساقطة على عربة الديطاي خاصته والآخرون هناك يفتحون في وجه الزبائن.
أما أنا فكنت لاأزال أجلس على الرصيف بمحاذاة عمي التازي .
عمي التازي هذا ، رجل سبعيني أخذ الزمن منه ما أخذ، وتساقطت أسنانه كلها ولم يبقَ له إلا اللسان الأحمر الطويل . قال لي يومًا أنه شيوعي، قلت له يا عم ! وهل تعرف ما معنى الشيوعية ؟
قال لي بالحرف الواحد :
- اسمع يا ولدي ، رغم أنني لم أدرس يومًا واحدًا بالمدرسة ، إلا أنني تعرفت فيما مضى على ثلة من صحابي كانوا قد درسوا بالجامعة في سبعينات القرن الماضي أخبروني أن الشيوعيه تعني أن تكون ضد القهر وضد الاستغلال ، ومن ثم أعلنتُ نفسي شيوعيا.
عمي التازي كان أبًا لطفلين أنجبهما في أرذل العمر، وأقسم بدماء الجماهير الكادحة بمدينة جرسيف وبعرق جبين كل الفلاحين عبر العالم أن يوفر لطفليه ما أرادا حتى يوارى الثرى.
أشرقت الشمس وبدأت الشاحنات والسيارات من نوع 207 تمتلئ بالكادحين وتنطلق صوب مزارع تافراطة، أما أنا وعمي التازي وقليل من الآخرين فقد كنا ننتظر بفارغ الصبر ألا نعود بخفّي حنين إلى منازلنا. انتظرنا حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى بدلوه معنا بخصوص ثمن بيع عرق الجبين ليوم واحد ، تفاوضنا كالعادة ، لكن بدون نتيجة. قال لنا أنه لن يستطيع أن يستجيب لهذا القدر من الأجر، فركب سيارته وقصد "موقفًا " آخر ، فربما يجد من يبيع نفسه بدراهم بخسة .
مرت الدقائق ونحن ننتظر على أحر من الجمر حتى وقفت علينا للمرة الثانية سيارة أخرى، هبط صاحبها وبدأ يدقق النظر فينا واحدًا تلو الآخر، كان يبحث عن الشخص الذي تتوفر فيه شروط العبودية ؛ الشخص الذي يمكنه أن يعمل لساعاتٍ طوال دون أن يشتكي حر الشمس ،هبوب الريح الشرقية بالمساء ،أو الثمن الزهيد. ظل لمدة من الزمن يدقق في ملامحنا التي شوهتها أزاميل الأيام…تأخر رب المزرعة في الإعلان عن خبر العبد الذي زُيِّن له الفوز بيوم من العمل الشاق، فهمس حكيم الموقف ، عمي التازي، بأذني قائلًا:
- مال هذا كيختار فينا ، واش حنا قحاب ؟؟
كانت العبارة بليغة جدا وثقيلة من ناحية المعنى على أذني، وظلت تتردد على مسامعي حتى في أيام قراءاتي المعمقة لروايات الأدب العالمي…
قرأت قدرا لا بأس به من أعمال الأدب العربي ،الفرنسي،الروسي ، والإنجليزي، ولم يحدث أن وجدت عبارة أو سؤالًا بليغًا كهذا!
ظل سؤال " واش حنا قحاب؟" يزعزع ذهني كلما تذكرت الموقف ، الكادحين، وعمي التازي !
هل نحن حقا بغايا حتى يسخر منا القدر هكذا ويجعل لآخرين السلطة علينا كي يختاروا من أحق بالعمل : علي أم معاوية ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب