الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجليات لصورة الواقع في نص (يوميات عبد الأمير الحصيري) للشاعر جابر السوداني

داود السلمان

2023 / 1 / 21
الادب والفن


التفاتة تُعد موفقة من لدُن صاحب النص، أعني به الشاعر جابر السوداني، ألا وهي تدوين لشاعر مهم طالما كتب قصائد رفيعة المستوى (قصائد وجودية، وجدانية، تهكمية ضد الواقع المعاش، للإنسان المهمش في فضاء الوجود...الخ)، قصائد حملت في طياتها احتجاج في وجه القبح الذي فرضه الواقع، كنوع من التسامي وانتشال الذات من ذلك الواقع المزري، بهدف تخليص الذات الإنسانية مما عُلق بها من ادران ذلك القبح.
نعم، يُولد الإنسان وهو مكبّل بضجيج الحياة، فتتلقفه متاهات العيش، وظنك الدنيا ودروبها الخطرة، وما عليه إلّا أن يغامر، وربما يقامر، كي يفض نزاعات هذه الحياة، المفروضة عليه (يقول شوبنهور: لقد خدعتنا الطبيعة، يعني بذلك الوجود) فأصبحنا عبيدًا لهذا الوجود، بأعتبارنا نعيش بين الارادة والقوة: ارادة الموت، وقوة الحياة، لتفضي، الاخيرة بنا الى الوجود، والاولى هي الموت، ليذهب بنا الى الاضمحلال، كون الموت هو العدم، إذ الذي يرحل لن يعود تارة أخرى الى جحيم الوجود، وقد حلّ بعوالم أخرى لا ندرك كنهها، نحن بني البشر الذين جئنا مرغمين لنلعب لعبة الحياة، تلك اللعُبة التي زهقنا منها، وسئمنا جدواها الفارغة، وارادتها الجوفاء.
الحصيري كواحد من البشر المحتج دائمًا على هذا الواقع، فهو كشاعر، يعي ويدرك، وبإحساس مفرط، ويفلسف الأمور بعمق ودراية، رفض لهذا الواقع وعبّر عنه في معظم قصائده، بل هو يُعد أفضل من الذين احتجوا ورفضوا من خلال احتجاجاتهم على نواميس القدر.
الإنسان، هذا المُكبّل بالتقاليد (تقاليد البيئة التي يعيش في ظلها وما يصاحبها من متاهات) لا يمكن أن ينفك عنها وقد ارتشق مائها الآسن دون أن يعلم، واعدّ ذلك مُسّلمة من المسلمات، وحقيقة ساطعة لا يتسرّب اليها الشّك، ويظل يرزح تحت ظل هذا القهر ولا يستطيع أن ينفك عنه، لكونه قيّدَ بقيده الذي لا ينكسر.
الإنسان، احيانًا، ربما هو الذي يجلب لنفسه القهر، نتيجة معرفته واصراره على البقاء في دهاليز الجهل، فهو يتمتع بعقل لا يفكر وبفكر لا يعي، في عمق القضايا، وبذهن لا يستوعب، وبنفس لا تستجيب، فيبقى بالهامش فهو إنسان هامشي.
والصورة ايضاح لما نحن بصدده، اعني أصرار الإنسان على الهامشية والعيش في ظلالها أبكم.
لذلك عبّر الشاعر السوداني ما في قريحته، عن ارهاصات الحصيري وهو يرسم صورة واقعية تتجلى فيها المعاني السامية، بكل ابعادها:
لا شيءَ سوى الليلِ
وبريقِ المطرِ
على إسفلتِ الشارعِ وأنا
تقذفُـني الحانةُ مخموراً
ظلمة الليل هي رمزية لواقع لفّ حباله حول وجودية الإنسان، ورسم قدره بصورة ضبابية قاتمة، وهي صيرورة الإنسان ذاته، وفُرض عليه حياة من الصعب أن يعيشها، لكن الإنسان هذا عاشها بتحدٍ إذ لا مفر من ذلك، إلا اذا كان البديل الانتحار، أعني انتحار انعزالي، فالسوداني أوجز بقوله:
لا شيءَ سوى البرد.
وأنينِ الحافلةِ التعبى
يتواترُ عبرَ مئاتِ الامتار.
بيتي مسطبةٌ
في آخرِ هذا الشَّارعِ
ثم يتنقل الشاعر من صورة ضبابية قاتمة، يوصف بها حال الحصيرة وهو مكبّل بواقع يعيشه على مضض، انتقالة خيالية، كون الشاعر هو الأكثر من سواه من الذين يستخدمون الخيال، فهو يوغل بالخيال، لرسم ابعاد يريد منها ايضاح هشاشة الواقع. والخيال يعني: "خلق صورة، ويقتضي خلقها الاختيار، من بين ما لا يحصى من المعطيات والحوادث، فئة بعينها ما تلبث أن تترتب وتنتظم وفقا لصورة أو مثال نجد فيه المعنى والدلالة. بالخيال هو الذي يصوغ القوالب التي يستخدمها الإنسان ليفرغ فيها معطيات الواقع الغليظة وحوادثه الغفل (الغفل تعني: الكلام الذي لم يُعرف صاحبه) من المغزى، ويعدها في نماذج تحقق له أهدافه". (راجع: الدكتور صلاح قنصوة، فلسفة العلم، ص 176، منشورات الهيئة المصرية العامة، بدون ذكر سنة الطبع). الصورة التي رسمها الشاعر السوداني مسُلّمة يفرضها الواقع، عبّر عنها المعري من قبل، ورسم لوحتها نيتشة وأستاذه شبنهور في عصرنا الحاضر:
عندَ الجسرِ
تأوي كلُّ همومِ الليلِ إليها
حين أعودُ وحيداً
من غربةِ يومي بينَ
وجوهِ الناس.
تمتـدُّ إليَّ أكفٌّ من أعماقي
يصرخُ بي
شيطانُ طموحي
ومع ذلك يظل الإنسان يعيش على بصيص من الأمل، حتى وإن نفدت اسلحته في مقاومة الخذلان، ولم يعُد يجاري الحياة بشق طريقها الرتيب، والوصول الى الضفة الأخرى، لأنّ خيبات الأمل تعني الهروب الأبدي، ومن ديدن الشاعر الصمود والاصرار والتحدي، ومواجهة الشدائد بكل ما يملك من صبر. لهذا ترى الإنسان لا ينفك عن الطموح، فهو يطمح في مسايرة الحياة على علاتها، ليس ارضاءً للحياة نفسها، بقدر ما يروم الانفلات من "كماشتها" كأن يهرب الى عالم آخر عالم غير مثالي، وهذا الطريق اختاره الحصيري، وتشبث به كنوع من الرفض، واختاره قبله كثير من الشعراء امثال عروة بن الورد وحسين مردان واضرابهما، وهو افضل طريقة عالج فيها الحياة، فلاسفة ومفكرين وشعراء، فهو بمعنى آخر هروب من الخيبات التي تترى، لدخول عوالم لا يدرك كنهها سوى تلك الثلة التي ادركت معنى الوجود، تفاديًا لخيبات الأخرى.
وهنا يظهر نوع من التجلي للشاعر بحيث صوّر، بكاميرا ابداعية، حالة الإنسان عمومًا، وحال الحصيري على وجه الخصوص.
ويضع جابر السوداني خاتمة لنصه، يصف فيها الأحلام مع الخيبات، مع الأمل الذي اسرج خيوله على ناصيات الريح، يريد أن يرى من خلال اللا معنى، وجدوى التيه الذي وقع في مأزقه الإنسان، وهو يتشبث بواقع مرير لا يمكن أن تغيّره الأدباء وسواهم، لأنه واقع ضحل، إلّا إن الشعراء يحاولون تغيره حتى وأن كان على الورق، أو على شكل فرضيات، لعلها تتحوّل هذه الفرضيات، في يوم من الأيام، إلى نظريات تصرخ بالحقيقة، وتنفث ما في دواخلها من صدق مكبوت.
أتوثبُ
أسرجُ
كلَّ خيولي
أغرسُ
في النسماتِ حرابي
فأعودُ يغالبني
الليلُ بقيةَ صحوي
يسلـبُني آخرَ ما تركتهُ
لي الأقداحُ
لأطبقُ جفنيَّ
على طيفِ امرأةٍ
عابرةً مرَّتْ هذا الصبح.
والخاتمة هذه اختزل فيها الشاعر، ارهاصات الحصيري وآلامه المبرحة، بل وتعاسته التي ظلت تلقي بظلالها على واقعه الذي عاشه، وسط أحلام مذبوحة، وآمال تتعثر بخيبات جامحة، تريد أن تنفك ولا تنفك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-