الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وفاء عبد الرزّاق وديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) بين مطرقة الترجمة وسندان النقد

أسماء غريب

2023 / 1 / 22
الادب والفن


(I)

ترجمة ((من مذكرات طفل الحرب)):
المعنى والسبب والطريقة.

1) المعنى
ما معنى أن أترجم حرفَ الأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق؟ سؤال لطالما طرحته على نفسي منذ أول لقاء كان لي مع حرفها الشعري حينما قرأتُ لها قبل فترة قصيدتها (بيت الطّين) (1). كنتُ آنذاك لم أطّلع بعدُ على ديوانها هذا ((من مذكرات طفل الحرب))، إلّا أنني شعرتُ لأول وهلة بأنّي أمام حرفٍ لا ككلّ الحروف، وأمام بوحٍ له بصمة خاصّة مغرقة في الأصالة والانتماء. وفاء عبد الرزاق هي باختصار؛ نخلة أصلها ثابت وفرعها في السّماء. والنّخلة لها معان وأسرار لا يقوى عليها أيّ دارس أو باحث أو سالك ما لم تكن في مزودة سفره كسرة الصّبر وجرّة طول النفس، وشمعة قوة العزيمة، غير هذا فإنه لن يناله من فيافي نصوص وفاء سوى حفنة من سراب باهت وظلال بلا لون ولا ضوء.
في (بيت الطين) (2) وجدتُ وفاء وحضن أمّها، وكُتُبَ أبيها ومحبّة جدّتها، ويدَ جدّها وقلبَ وطنها المضمخ بعطر الماضي والتاريخ والحضارة العريقة. وليس هذا فحسب، لقد عثرتُ على اللوح الذي كتبت فوقه وفاء تاريخ شعب بأكمله بمسامير سومرية حملتني إلى زمن الكتابة الأول. ووجدت أيضا جسدَها وجسد الوطن المثخن بالجراح، وأخيرا وجدتني في كل نصّ من نصوصها، وهذا له معنى واحد لا غير: صوت وفاء هو صوت الأمّ الأرض، وحينما تتحدثُ الأرض يصخي أبناؤها السّمع، لا فرق فيهم بين الأبيض أو الأسود، ولا بين العربي أو الأعجمي، ولا بين مُعْتقِدٍ في الله الواحد الأحد أو غير مُعتقِدٍ في أيّة ديانة توحيدية كانت أم لا، فالكل هنا معنيّ بالأمر. الكل عليه أن ينصت لحرف وفاء بأذن القلب، والكل عليه أن يقرأها بعين الرّوح، لأنّها تروي مأساة وآلام الإنسانية جمعاء. هذا هو معنى أن أترجم لوفاء عبد الرزاق؛ أن أحمل حرفها إلى أبعد الحدود، أن أقرأ لها أكثر وأكثر، وهذا ما قمتُ به فعلا: أيْ أنني قرأتُ المزيد والمزيد من نصوصها. إلا أنّه حينما وصلني منها قبل أشهر ديوانها ((من مذكرات طفل الحرب)) شعرتُ أنه أصبح عليّ لزاما أن أنتقل بقلبي من بحر القراءة وأدخل به إلى محيط الترجمة. لأنّ الأمر غدَا رسالة، بل حمامة يجبُ عليّ أن أطلقها كي تطير بجناحيها عاليا وتصل إلى هنا: إلى إيطاليا. وهو ذاته مفهوم الرسالة والمسؤولية الذي عبّرت عنه بشكل عميق ومؤثر جدّا الأستاذة هادية دريدي (3) حينما كتبت تقول في إطار حديثها عن ضرورة ترجمة ((من مذكرات طفل الحرب)):
«Il m’est apparu indispensable que ces magnifiques poèmes soient traduits, même s’il est dit que traduire est une forme de trahison. Il m’a semblé que ne pas traduire c’était encor pire, comme si j’abandonnais cet enfant seul, perdu quelque part…
Faire connaître cet ENFANT aux lecteurs français et francophones, c’est partager un peu avec Wafaa le droit à l’affection et à l’amour pour cette enfance qui ne devrait semer en nous, adultes que l’innocence afin de pouvoir récolter une certaine beauté et jouir d’une vraie paix dans nos cœurs et sur TERRE» (4)


2) السبب

لماذا ترجمتُ هذا الدّيوان؟
لا أعرفُ إلى أيّ حدّ يمكنني أن أعتبر نفسي محظوظة أو لا، حينما وجدت بين يديّ لا النسخة العربية فقط لـ ((من مذكرات طفل الحرب)) (5) ولكن النسخ الفرنسية والإسبانية ثم الإنجليزية! الأمر الأكيد طبعا هو أنّ تعدد النسخ هذا وبلغات مختلفة يعني عملا مضاعفا يقتضي ضرورة الاطلاع عليها جميعا مع التركيز على بعض التفاصيل فيها والمتعلقة خاصة بطريقة عمل كل مترجم على حدة. وأعتقد أن هذا الأمر أعطاني طاقة أكبر وزاد من تعلقي بحيثيات الديوان في لغته العربية، لأنّه تحوّل بين يدي إلى قبعة سحرية كلّما أدخلت يديّ في فوهتها أخرجتُ المزيد من المفاجآت التي كانت تتوالد باستمرار لا متناه وبشكل أصبحت معه الترجمة إلى اللغة الإيطالية أمرا ممتعا للغاية، سيما وأنّي بتّ في حوار لا ينقطع مع وفاء عبر حرفها الشعري، وازدادت قناعتي أكثر وأكثر بأنّ العديد من النصوص وإن كان المتلقي يقرأها بلغته الأمّ، فإنّ وردة حرفها في كثير من الأحيان لا يفوح عطرها الحقيقي إلا إذا قرأها بلغة أخرى يتقنها غير اللغة الأم. ذلك أنّه ثمة من المعاني التي لا تفتح أسرارها للمتلقي إلا إذا فكّكها حتى آخر حرف في جملها أو كلماتها، وما الترجمة إلا إحدى هذه المفاتيح التي لا يمكن الاستغناء عنها أبدا. وأظنّ أنّ هذا هو السبب الحقيقي الذي دفعني إلى التمسك بترجمة ((من مذكرات طفل الحرب)).

3) الطريقة

الترجمة رهان صعب، ومحنة ما بعدها محنة، والسفر بين صفحات ديوان وفاء لم يكن بالسّهل أبدا، لقد كان أشبه بالصعود إلى قمّة جبل بعيد جدا مشيا ثم العودة من هذه القمّة ركضا. وأعني بهذا الأمر؛ الصعود بخطى وئيدة إلى النّص ثم النزول منه جريا حيث الجملة والكلمة ثم الحرف وعلامات الترقيم والفراغات البيض الموجودة بين أبياته دون إهمال وقفات الكلام وصمت الأسطر أحيانا. وعملي هذا كان يستدعي منّي أيضا الحرص على تعويض بعض الخسارات التي تكون قد حدثت سواء أثناء عملي داخل مسبك الحرف أو في ما سبق من الترجمات الأخرى التي صدرت للديوان نفسه، مما جعلني أشعر أحيانا بالإقامة بين نارين: نار الوفاء والحرص على الدقة في المعنى، ونار الشكّ في مدى دقة ما ترجمْتُه وما تمّت ترجمَته آنفا إلى لغات أخرى. وهذه مشكلة عويصة غالبا ما أصادفها في النصوص الشعرية، لأنّ الهمّ الأساس هو محاولة الحفاظ على نوع من الاتحاد بين المعنى والصوت، ثم بين الدال والمدلول وهما ينتقلان بين يديّ من نص الانطلاق إلى نصّ الوصول مرورا بنصّ ثالث لم يكن موجودا آنفا، ولكنّه وُلد أثناء محاولتي أن أقول نفس ما قالته وفاء عبد الرزاق في بعض الأجزاء من نصوصها ولكن بطريقة مختلفة: أيْ بعلامات وكلمات وأشكال نحوية مختلفة لدرجة أصبحتْ معه الكتابة من اللغة العربية إلى اللغة الإيطالية كتابة وطنية وعالمية في الوقت ذاته، ولعلّها الإشكالية عينها التي سبق أن أثارها الفيلسوف والعالم اللغوي الألماني (فيلهلم فون هومبولدت) (Wilhelm Von Humboldt) حينما قال متحدثا عن هذا الطابع الوطني والعالمي للغات:
«…que la diversité des langues excède une simple diversité des signes, que les mots et la syntaxe forment et déterminent en même temps les concepts, et que, considérés dans leur contexte et leur influence sur la connaissance et la sensation, plusieurs langues sont en fait plusieurs visions du monde» (6)

وتعدُّ قضية تحقيق نوع من توازن الدلالة بين مصطلحين من لغتين مختلفتين تماما من بين أعقد الصعوبات التي واجهتها أثناء رحلتي الترجمية هذه، ذلك أنّه كان عليّ بداية أن أبذل قصارى جهدي كي أدخل حضرة التماهي الروحي والعقلي مع ما كان يدور بخلد الشاعرة أثناء كتابتها لقصائد هذه المجموعة دون إهمال تصوراتها المستقاة من حياتها وتجاربها ومخزونها الفكري والحضاري. وحرصي على تحقيق هذا النوع من التوازن الدلالي لا يعني أبدا الطمع في تحقيق التعادل المطلق للمعنى بين ألفاظ تنتمي إلى لغتين مختلفتين؛ العربية والإيطالية سيما وأنّني أدرك تماما أنّه لا يوجد شيء في اللغة اسمه تعادل مطلق بين وحدتين من وحدات الشفرات اللغوية. لذا، كان عليّ أن أركّز في ترجمتي على إعادة صياغة الشفرة اللغوية الخاصة برسائل نصّ الانطلاق ثم إعادة إرسالها بصيغة أخرى إلى نصّ الوصول، وهكذا أكون قد حصلتُ على رسالتين متعادلتين بشفرتين مختلفتين لأنهما تنتميان إلى نظامين مختلفين في تقسيمهما للواقع وتحديد الأفعال والصفات والأسماء عبر مستويات مختلفة للمعنى أهمها المستوى الشعوري، الذي غالبا ما يهتمُّ بتجليات المعنى المختلفة والتي تولد عبر ما يحدث بين الكلمة والأشياء من تلاقح وانسجام داخل سياق الجملة أو خارجها، ثم المستوى اللغوي بكامل شجرته التي يزهر فوق غصن جملتها الاسم أولا ثم يتبعه الفعل ثم اللواحق النحوية واللغوية الأخرى، وأخيرا المستوى الإحالي الذي لا تخضع فيه العلاقةُ الدلالية لقيود نحوية، بل لقيود دلالية محضة تقتضي تطابق الخصائص الدلالية بين العنصر المحيل والعنصر المحال عليه، فيقع التماسك عبر استمرارية المعنى التي تتحقق من خلال سماح الإحالة بحفظ المحتوى مستمرّاً في المخزون الفعّال من دون الحاجة إلى التصريح به مرّة أخرى (7).
إلى هنا يبدو مسار ترجمة قصائد ديوان وفاء لا غبار عليه، فهو يخضع حتّى اللحظة بشكل أو بآخر لقواعد الترجمة الأدبية المتعارف عليها بشِقّيْهَا الكلاسيكي والمعاصر، لكن ثمة حقيقة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها: في كثير من الأحيان كانت قصائد وفاء تستدعي منّي التجرّد من كُلّ شيء، لا، بل التعرّي تماما: نعم، هذا ما حدث، لقد كانت الأبيات والكلمات تضطرّني إلى القيام بعملية تحديث كاملة للمخزون العقلي الذي كونتُه في ذاكرتي سابقا عن تجربة وفاء عبد الرزاق الشعرية: كان عليّ أن أنسى من تكون صاحبة الدّيوان، وفي أيّ بلد ولدت، وفي أية دولة تقيم وكم من الدواوين والروايات كتبت. خلاصة القول: كان عليّ أن أنسى كل ما قرأته عنها ولها، وأعتبرَ أنني عثرت على ديوان ((من مذكرات طفل الحرب)) في مكان ما، لنقل في حديقة من حدائق مدينتي السّاحرة، فأنا أحبّ جدا الحدائق الجميلة والجنان الخضراء الغنّاءة.
وإذ ضغطت على زرّ التحديث وإعادة الضبط في الشقّ الخاص بما كونته من أفكار ومعاني عن الحرف الشعري الرّزّاقي(8) خرجتْ من عقلي الباطن إشارةُ آليةٍ جديدةٍ من آليات الترجمة، وأصبحتْ هي العصا التي أهش بها على الحرف والكلمة والجملة والمعنى داخل هذا الديوان.
وأسوق هنا بعضا من الأمثلة الحيّة والتطبيقية التي تخصُّ عنوانَ الديّوانِ وتؤكّدُ ما سبق وأشرتُ إليه عن ضرورة التجرد والتعري أمام قصائد وفاء:
- من مذكرات طفل الحرب
إنّ ترجمة هذا العنوان تقتضي بداية تفكيكه وإعرابه نحويا في لغته الأمّ، ثم بعد ذلك محاولة إيجاد المقابل الدلالي له في لغة الوصول.
- إعراب العنوان: (9).
- إيجاد المقابل الدلالي له في لغة الوصول:
إن عملية إيجاد المقابل الدلالي لهذا العنوان في اللغة الإيطالية استوجبت منّي قبل كلّ شيء السير على منهج التقنين الدلالي للغة الذي سبق وحدده العالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير وجعل من خلاله الكلمة دالا ومعناها مدلولا مُحرِّراً هذا الأخير من العوائق المعجمية ومُطْلِقاً إيّاهُ في فضاء الدلالة السيكولوجية المرتبطة بالتصور النفسي للكلمة وما يتضمنه هذا الأخير من مفاهيم، وبناء على هذا القول، فإنه يصبح أمرا مشروعا التصريح بما يلي: كلمة ((مذكرات)) التي وردت في عنوان هذا الديوان، هي ليست بيوميات كانت تكتبها الشاعرة على مدار أيام الأسابيع والشهور والسنة، ولكنها حصيلة تراكم بعض من الأحداث التي مرّت في حياة الشاعرة ولها علاقة وطيدة بذاكرتها الجمعية لا الفردية فقط، أيْ بذاكرتها وذاكرة وطنها التاريخية، وهذه حقيقة أثّرت بشكل مباشر على ترجمة هذا المصطلح إلى لغة الوصول، ممّا استوجب منّي التركيز على العنصر التاريخي منه، وإهمال صفة اليومي فيه، طالما أنّ نصوص الشاعرة لا تتحدث عن تسجيل يومي للأحداث والوقائع، ولكن عن كتابة مذكرات تختلف في المكان والزمان، أيْ أنّ لها علاقة بما يسمّى في اللغتين الإيطالية والإنجليزية بـ (Memorie/Memoirs) وليس بمصطلح (Diary /Diario) (10).
أمّا عن كلمة ((طفل)) التي تلي مباشرة مصطلح "مذكرات" فهي قد تحمل معاني عدّة غير تلك التي اعتاد عليها المتلقي أو القارئ، أيْ أنّها قد تعني الولد الصغير الذي يتراوح عمره بين الولادة والبلوغ (11) كما قد تعني الشيخ الذي من شدّة الضعف والوهن عاد طفلا (12)، وقد تشير أيضا إلى مفهوم طفولة البدء والخلق والتخليق داخل كل إنسان، أو بمعنى آخر الإله - الطّفل المُقيم داخل كل قلب، أو ما يسمى بالجزء النقي الصافي من الروح الذي هو الفطرة الإلهية التي فُطر عليها الناس.
وقد ركّزتُ بشكل أكبر على إشكالية ǁ الإله - الطفل ǁ وǁ الطفل - الإله ǁ في ديوان وفاء لأنّها القنديل الذي حملته الشاعرة بين يديها كي تكشف للقارئ عن نفسها وتقول له في صمت: "انظر إلى هذا الطفل، بل انظر إلى الله الكامن فيه، وأنصت إلى حكاياته الباكية، فهو يرويها لك بدمع عينيّ ويكتبها لك بدمي، كي يذكّرك بما اقترفته أيدي الناس في حقه ولم تزل من جرائم أتت على الأخضر واليابس بدون رحمة ولا شفقة" (13).
طفل وفاء عبد الرزاق ليس برضيع ولا هو بولد غرير، ولكنه قامة شامخة متخفّية تحت ستار جسد فتيّ صغير، وهذا لا يمكنه أن يعني سوى شيئ واحد: وفاء تؤسس في ديوانها هذا لولادة من نوع جديد: ولادة سرّية تتمّ من فوق إلى تحت، ومصدرها روح الله، أيْ ولادة من الأعلى عبر الكلمة وشعلة الحرف وفيوضاته الرؤيوية الجديدة والمتجددة (14).
بناء على ما سبقتِ الإشارة إليه تصبحُ لكلمة (طفل) في لغة الوصول دلالة معينة ومحددة بذاتها، فهي لن تعني أبدا الطفل الصغير الذي يترواح عمره بين السنة والسبع سنوات، والذي يسمى حرفيا في اللغة الإيطالية بـ (Bambino) والتي من خلال نطقي لها لأكثر من مرّة، تارة بصوت منخفض وتارة بصوت مرتفع لاحظتُ أنّ أكثر الأعضاء حركة هما الشفتان وهو الأمر الذي يوضحه بشكل أكثر تفصيلا الجدول الصوتي الآتي (بغض النظر عن خروج الهواء أحيانا من الأنف وعن حركات اللسان التي تتمّ دائما داخل الفم عبر ملامسته للثة) (15).
وكلّ هذا جعلني أجزم بأنّني أمام مصطلح فموي لعابي يحيلُ على المرحلة الفمية من حياة الإنسان والتي يتمُّ فيها اكتشاف العالم الخارجي عبر الفم كما هو مفصّل في الرسم الصوتي التالي لكلمة (Bambino) (16).
ماذا تعني هذه النتيجة التي تمّ التوصل إليها الآن؟
لا شيء سوى أنّ كلمة (Bambino) الشهيرة في اللغة الإيطالية والتي تعني بدون جدال (طفلا) في اللغة العربية ليست هي المصطلح المطلوب لحلّ إشكالية ترجمة العنوان، لأنني لستُ هنا بصدد طفل ما زال في المرحلة الفموية السيلانية، ولكن أمام ولد له قامة "إله" يجمع في تكوينته الروحية بين عنصري الذكورة والأنوثة كدلالة على اكتمال وكمال الخلق والتخليق والخُلق، ولهذا السبب فإنّي لا أجد مصطلحا آخر في لغة الوصول أكمل من لفظة (Fanciullo) بل تركيبتها المُصغّرة (Fanciullino)، وهو المفهوم ذاته الذي سبقني إليه الشاعر الإيطالي جوفاني باسكولي(1855- 1912) حينما أعطى لأحد أشهر نصوصه عنوان (Il fanciullino) أو (الصّبي) (17)، هذا الصبيّ الطاهر الذي لا أحد سواه يستطيع أن يسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية، وأن يصف الواقع كما هو، دون فقدان سرّ الدّهشة والاندهاش في كل العوالم، لأنّه هو الوحيد الذي يملك مفاتيح الرموز، رموز الجمال والقبح ورموز الخير والشرّ. والشاعر عموما غالبا ما يكون هو هذا الصبيّ، لأنه وحده من يعرف كيف يخترق ببصيرته ما ورائيات الأشياء، كما هو الحال في ديوان وفاء عبد الرزاق، التي هي هنا وبدون منازع هذا الصبيّ، لأنها تمكنت من نقل الصور كما هي وأعطت الأشياء والأفعال أسماءها الحقة دون أدنى تزويق أو تنميق.
ها قد حللتُ مشكلة ترجمة مصطلح (طفل)، بقيت الآن إشارة لغوية أخرى عليّ أن أتوقف عندها مليّا، فكلمة (طفل) في عنوان الديوان لم ترد مُعرّفة بأل التعريفية ولكنها جاءت معرفة بالإضافة، هذا يعني أنّه من الواجب أيضا الحفاظ على هذه الخاصية حتى في لغة الوصول، لأن هذا الأمر سيترتب عنه نتائج لغوية تخصّ المصطلح الذي سيليه وأعني به كلمة (الحرب)، وعليه فإنّ العنوان كاملا سيصبح في اللغة الإيطالية بالصّيغة التالية التي يوضحها هذا الجدول بكل ما يحمله من تفاصيل وشروحات نحوية ولغوية (18).
هل تمّ الانتهاء من العمل والحفر بمعاول الترجمة بين ثنايا عنوان هذا الدّيوان؟ طبعا لا، فما زال هناك سؤال رئيس وفي غاية الأهمية تجب الإجابة عليه كي يستقيم تحليل ونقد ما سيأتي بعدهُ: عن أيّة حربٍ تتحدث الشاعرة؟
للجواب عن هذا السّؤال أفضّلُ أن أبقى متمسكة بما سبق وذهبتُ إليه من افتراض أنني لا أعرف شيئا عن الشاعرة لذا فإنه لن يبقى أمامي اللحظة سوى الدخول إلى أدغال ديوانها والبحث بين أحراش نصوصها عن عناصر تدلّني على هويّة هذه الحرب: أين وقعت ومتى؟
ما من جدوى، فالرحلة كانت شاقة ومضنية ولم أعد منها إلا ببضع كلمات أجردها كما يلي:
- (عليّ، فاطمة، زينب، سلمى، مريم وبثينة): وهي كلها أسماء عربية؛
- (سمراء الحق): وهي أنثى الحق: أمُّ طفل الحرب، أيْ أمّ الشاعرة؛
- (دشاديشكم وجلباب): وفيهما معا إشارة إلى طبيعة اللباس الذي جاء ذكره في بعض من قصائد الديوان وهي ألبسة عربية بامتياز تنتشر خاصة في العراق والشام وبعض المناطق من شمال أفريقيا.
- ثمّ (النخيل والجمّار): ويقصد به نخيل التّمر وموطنه العراق وشبه الجزيرة العربية والبحرين والمغرب العربي. أمّا الجمّار فهو قلب النخل.
هذه كما يلاحظ كلها عناصر تقود إلى استخلاص النتيجة التالية: الطفولة التي عالجتها الشاعرة في ديوانها هي طفولة عربيّة، والشخصيات التي تتحرك وسط أبيات الديوان، أطفالا كانوا، أو نساء أو شيوخا مسنين هم كلّهم عرب المنبت والمنحدر.
لكن هناك حجاب يجب رفعه قبل الانتقال إلى تحديد زمن وقوع هذه الحرب. وأقصد به ذاك الخيط اللامرئي الذي يوجد داخل طفل الحرب هذا، والذي يقسمه إلى شقين: شق يرَى وشقٌّ يحكي ما يرى، أي شقّ يخرج من جسده كي يخترق جسد الكون ويقف على أسرار بوحه وآلامه المريرة، وهي تقنية انشطارية تمارسها الشاعرة وفاء بمهارة وحرفية عالية (19). هكذا يصبحُ الطفل طفلين: بحر عارف (20) يحكي عن طفل آخر: ينصت إليه، ويغسل بحروفه جراحه ومآسيه، ويُرِي للعالم بأسره عبر عدسته المكبرة جسده الجريح المتشظي الميت.
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فليس هناك في النص ما يدل على زمن وقوع هذه الحرب سوى العبارات التالية:
- (كُتبت في لندن 2006): وهي جملة وردت في السطر الأعلى من الصفحة المباشرة للغلاف الخارجي للديوان، وفيها تحديد من الشاعرة للسنة التي كتبت فيها قصائد هذا الديوان، وهو تحديد ليس بالاعتباطي أبدا، لأنّ فيه حلّ لكلّ ما سبق طرحه من فرضيات واحتمالات كانت في انتظار أن يتمّ تأكيدها أو نفيها. إنّ السنة التي تشير إليها الشاعرة هي سنة اندلاع أقوى وأعنف حرب في العالم، ويقصد بها الحرب الطائفية العراقية.
- (رصاص + شظايا + صمغ الجثث + قافلات البارود + الطائرات + عظم الكتف منشفة رطبة + دبق أحمر + حقل الألغام + رمانتان + دبابات ...)، وهي كلّها عبارات تشير إلى طبيعة هذه الحرب التي أتت على كل شيء في العراق وحصدت الآلاف المؤلفة من أرواح الأطفال خاصة (21) وليس هذا فحسب، الكلمات تحوي إشارات مهمة إلى أنواع الأسلحة المستخدمة مع التركيز على الجانب الكيماوي منها والذي تمّ فيه اللجوء إلى أفتك المواد وأخطرها على الجسد البشري: (النابالم واليورانيوم والفوسفور) (22).
أعتقد أنّ الصورة أصبحت الآن أكثر وضوحا: فالطفولة المتحدث عنها في هذا الديوان هي عراقية، إلا أنّ الطفل الذي يتحدثُ عنها هو الشاعرة، وهي طفل كوني لا تحدُّه الأماكن ولا الجغرافيا، والمذكرات المسطرة بين دفتي هذه المجموعة الشعرية هي مذكراتها ولا يعود تاريخها فقط إلى سنة 2006، ذلك أن ذكرها وتحديدها لهذه السنة لا يعني بتاتا أنها تتحدث فقط عن الحرب الطائفية التي اندلعت في هذه الفترة بالذّات، ولكن فيها إشارة أيضا إلى أنّ هذه السنة كانت بمثابة الشرارة التي أجّجتْ وأيقظت بداخل الشاعرة كل الأوجاع الماضية وكل ما تحمله من ذكريات أليمة عن حروب الإنسانية جمعاء، بعضها حدث في العراق، (وأخص بالذكر هنا سنوات التسعينيات) وبعضها الآخر حدث في مناطق عربية ودولية أخرى من العالم.
فهل للحرب وجه؟ هل للحرب وطن؟ هل لها زمان ومكان؟ نعم، الحرب إذا ما اشتعلت في مكان ما مهما كان بعيدا عنك أيها القارئ فإنّها لا تعني شيئا سوى أنّها تحدثُ في قلب الكون، في قلب كل إنسان، وكل الأجساد التي تسقط على ساحة الوغى، هي أنتَ: تسقط وتموت كلّ يوم هناك وهنا، وإن كنت تجلس في بيتك آمنا، تستيقظ في الصباح وتأكل وجبة الإفطار وتتصفح جريدة اليوم، وتذهب إلى عملك مطمئنا.
ليست الأمور أبدا بهذه البساطة، فما تراه أمنا وسلاما وأمانا في بيتك ما هو إلا صورة كاذبة، تُجَمّلها وتُلمِّعها كل يوم بخيالك، لأنك لا تريد أن ترى غيرها. كل طفل يموت بقذيفة ما في أرض ما، فهو أنت أيها القارئ. أنت من يموتُ يومُه وغدُه بيد إنسان آخر يرى أنّه أحق بالخالق من إدارة شؤون هذا الكون، فماذا كانت النتيجة إذن؟ التفكير في قتل الله، وما دام هذا الإنسان يعلم أن الله يقيم داخل البشر، فقد عزم على قتل كل البشر، لذا، تجدهُ يبدأ دائما في حروبهِ بإبادة النساء لأنهن رمز الحياة والاستمرار، وبالأطفال لأنهم بكل بساطة غدُك المشرق وبسمة الله فوق الأرض ومفتاح جنانه، بل هم عين الله وقلبه، لذا، فإن الحرب التي تحكي عنها وفاء عبد الرزاق في مذكراتها هي حرب قبل كل شيء ضدّ الخير، ضد كل شيء جميل على هذه الأرض، إنها حرب ضد قلب الطهر والصفاء، إنها باختصار شديد حرب الإنسان ضد البارئ، وكل يد توجه رصاصتها في اتجاه الله هي يد ميتة، وكل الأجساد التي تسقط في ساحات الحرب تموت مرّة واحدة وكفى، أمّا يد القاتل وقلبه فيموت في كل يوم ألف مرّة، والحروبُ كلها كيفما وأينما كانت، هي خسارات أبدية، لا وجود فيها لمنتصر ومنهزم أبدا، كما هو مبين في هذا الرسم التخطيطي (23).


(II)
الطفل وجسده فوق المذبح: وليمة وعزاء أبديين

1) الطفل جسد ينشطر
وضعت الشاعرة في عتبات ديوانها (24) أكثر من مفتاح لتدلّ الباحث والقارئ على الطريق الصحيحة التي تضمن لهما معا قراءة موفقة لنصوص مذكراتها، وما يعنيني الآن من هذه المفاتيح هو الإهداء كعتبة رئيسة يجب فحصها جيّدا.
تقول وفاء في إهدائها ما يلي:


المدينة تعترف:

هذه الوجوه حوار
وأنت المشتبه به المُهيّأ للسّطو.

المُشتبهُ بها
وفاء

إن الكيفية التي رصّت بها الشاعرة لبنات إهدائها هي أول شيء يثير الانتباه ويشدّ العين، فهي لم تضع الإهداء في الشق الأيمن من الصفحة ولا في جانبها الأيسر، ولكن في وسطها. إضافة إلى أنّها حرّرتهُ من علامات الترقيم، ولم تترك بداخله سوى النقطتين المتعامدتين بعد فعل (تعترف) واللتين كانتا تقتضيان وجود علامتي التنصيص (" ") بعدهما باعتبار أنّ العملية فيها نقل مباشر لنصّ اعتراف المدينة، ثم نقطة وقفية ختامية قفلتْ بها الجزء الثاني من الإهداء، دون أن تغفل عن توقيع هذا الأخير باسمها الصريح (وفاء)
البناء الهندسي للإهداء إذن يتكون من سبع لبنات أجردها كما يلي:
- اللبنة الأولى: وهي عبارة عن فراغ أبيض موجود قبل نص الإهداء؛
- اللبنة الثانية: (المدينة تعترف:)؛
- اللبنة الثالثة: فراغ أبيض يوجد مباشرة بعد اللبنة الثانية؛
- اللبنة الرابعة: (هذه الوجوه حوار/ وأنت المشتبه به المُهيّأ للسّطو.)؛
- اللبنة الخامسة: فراغ أبيض يلي مباشرة اللبنة الرابعة
- اللبنة السادسة: (المُشتبهُ بها/ وفاء)؛
ثمّ اللبنة السابعة: فراغ أبيض يوجد بعد نصّ الإهداء
ومجرّد عملية تجسيد تخطيطي بسيط للبنات هذا البناء تعطي النتيجة التالية (25).
وفاء لم تضع وسط الصفحة الأولى من ديوانها إهداء بسيطا يتكون من كلمات وكفى، ولكنّها وضعت مائدة مستطيلة الشكل (26) في وسطها فراغان أبيضان (27) وحولهما رصّت الوجوه التي وردت في نصّ الإهداء الواحد تلو الآخر:
أ‌) وجه المدينة وهو يعترف: وهو وجه يقتضي التساؤل عمّا يلي: هوية المدينة، ولماذا وبماذا الاعتراف؟
في الدّيوان توجد قصائد تحمل بعضا من الدلالات التي يمكن اعتبارها الفنّار الذي يقود نوره إلى اكتشاف اسم المدينة المعنية بالأمر، ويذكر من هذه القصائد على سبيل المثال لا الحصر: (البحر ليس طفلا)، (امرأة واحدة لا تكفي)، (مأوى)، (قربان)، (تمساح). وهي كلّها نصوص تتضمن مجموعة من التراكيب اللغوية التي تجمع بينها عناصر دلالية مشتركة تؤكدُّ أنّ الأمر فيه إشارة لقصف جوي كان معظم ضحاياه من الأطفال جرّاء النيران التي التهمت ألسنتها أجسادهم الفتية الصغيرة. وهي إشارة تستدعي منّي الابتعاد مؤقتا عن النصّ الشعري واللجوء إلى المصدر التاريخي والإعلامي عربيا كان أو أجنبيا للبحث عن أثر في التاريخ العراقي الحديث ذكرتْ فيه هذه الجريمة النكراء التي ارتكبت في حقّ الطفولة العراقية.
على الرغم من كثرة المصادر التاريخية التي وثّقتْ لهذه الحقبة من تاريخ العراق المعاصر وحروبه التي عاشها ولم يزل يعشها منذ حرب الخليج الأولى إلى اليوم، إلا أنّه لا توجد هناك مراجع تحدّث فيها كتّابها بصريح اللفظ والعبارة عن واقعة هذا القصف وضحاياه من الأطفال. وكلّ ما يوجد إلى اليوم في السّاحة من كتب لا يحمل سوى إشارات بسيطة جدا عن هذا الحدث الجلل الذي يدخل في إطار ما يسمّى بـ (عملية عاصفة أو درع الصحراء) (28)، وليس هذا فحسب، بل حتى المكان الذي قُصف من طرف الطائرات الأمريكية، لم يتمّ ذكر اسمه بشكل واضح إلا في بعض قصاصات الجرائد وفي فيلم تمّ إعداده خصيصا لتوثيق هذا الحدث(29) ثم من خلال نصب تذكاري يحمل عنوان الصرخة (30) وطابعين بريديين أصدرتهما الجمهورية العراقية سنة 2002. وتبقى موسوعة حرب الخليج (الجزء الأول) هي من ضمن أهم المصادر القليلة التي أتى فيها ذكر اسم المكان بشكل صريح كما هو مبين في هذا النص:
((اليوم 196 للأزمة
الأربعاء 13 شباط (فبراير) 1991
أعلن العراق أنّ مابين 700 وألف مدني قُتلوا عندما قصفت الطائرات الأمريكيّة ملجأ مخصصا للمدنيين وهو ملجأ العامريّة. ونفت الولايات المتحدّة مؤكدة أن الملجأ الذي قُصف هو مركز عسكريّ مرتبط بآلة حربيّة)). (31)
أمّا بالنسبة لنفي الولايات المتحدة الأمريكية لعامل النيّة المبيّتة في إبادة كل المدنيين وخاصة منهم الأطفال في ملجأ العامرية فهذا أمر تؤكّدهُ أيضا مذكرات قائد عملية درع الصحراء الجنرال نورمان شوارزكوف حينما صرّح بما يلي متجاهلا اسم الملجأ وكونه كان مخصصا للمدنيين العزل من أهل العراق:
((13 فبراير 91/ يوم الهجوم/ 28
....
الساعة 18.00 : رئيس الأركان أبلغ ق.ع أنّ هناك اهتماما إعلاميا مكثفا بقصفنا ليلة أمس لملجأ القيادة والسيطرة في بغداد، وعلى حين أن هذه المنشأة كانت على قائمة أهدافنا منذ فترة طويلة، وأكّدتها مرارا تقارير وكالة المخابرات المركزية والاستخبارات العسكرية، فقد كانت على ما يبدو مزدحمة بالمدنيين حين ضربناها بقذيفتين عند الساعة 4.00)) (32)
مصطلح "الملجأ" الذي أبان عنه التقصّي التاريخي يجد أثرا له بل مقابلا ومرادفا في قصيدة (مأوى)، أما كلمة "قذيفتين" فقد وردت بصريح العبارة في قصيدة (تمساح) ولكن بمرادف لغوي آخر يحمل نفس الدلالة، أيْ "رمّانتان".
الملجأ المعني بالأمر إذن هو ملجأ العامرية، ويوجد في غرب بغداد، وعليه تصبح المدينة التي تعترف في إهداء وفاء هي بغداد.
بغداد إذن هي في موضع مساءلة وهي في الديوان تعترف بما حدث في فجر 13 شباط 1991، وتتحدث عن أطفال المدرسة التي أشارت إليها الشاعرة في قصيدتها (امرأة واحدة لا تكفي) وهي وفقا لما أوردته العديد من المصادر الإعلامية مدرسة الجنائن الابتدائية (33).
ب‌) وجوه أخرى (حوار)
تتعدد الوجوه في هذا الإهداء: أولها وجه المدينة الذي رأى وسمع كل شيء، وثانيها وجوه أخرى في حالة حوار يبدو أنه الحوار الذي سبق يوم القصف، وهو بدون أدنى شك حوار مؤامرة وتواطؤ ويكفي الاطلاع على المذكرات التاريخية والعسكرية التي كتبت في هذا الصدد وفيها كل اليوميات والاتفاقيات والمراسلات التي تمّت بين العديد من المسؤولين ومختلف القوى التي كانت تدير رحى حرب الخليج الثانية آنذاك (34).
ت‌) وجه المُشتبه به المهيأ للسطو (أنت): ومن غيره سيكون هذا الوجه سوى العراق، أو بشكل أكثر تحديدا الطفولة العراقية التي تآمر عليها وضدّها الجميع فأبادوها حرقا داخل ملجأ العامرية.
ث‌) ثم وجه المُشتبه بها (وفاء): وهي الشاعرة أو الطفل - الإله الذي انشطر جسده الترابي فخرج منه الجسم الأثيري (يا ابنَ الحربِ / جمعُـكَ ثـُقـبٌ / مـِنَ الأجدى بـِكَ أنْ تـَنشَطِرْ.) (35) وراح يرقب ويراقب كل شيء بعينه العارفة، ويجول بين ألسنة اللهب وهي تلتهم أجساد الأطفال إلى أن ذابت وتفحّمت والتحمت أشلاؤها ببعضها البعض (36)
هكذا يصبحُ الإهداء من خلال البناء المعماري الذي اختارته له الشاعرة مائدة عيسوية بكل ما في الكلمة من معنى لأنّها جمعت كل العناصر المجازية لمائدة العشاء الأخير لعيسى (ع) والتي كان يجلس إليها يهوذا الذي خان العهد والوعد وسلّم الإله - الطفل لأعداء الحرف الإلهي ثمّ قاده معهم حيث صليب الألم والحرق والذبح (37).

2) سَفَرُ الجَسدِ فِي الأجْسادِ

بَعْدَ ستِّ سنوات مضت على إصدار (من مذكرات طفل الحرب)، أصدرتِ الشاعرةُ وفاء عبد الرزاق ديوانا آخر يحمل عنوان (أدخل جسدي أدخلكم) (38) وهو بغض النظر عن كونه تجربة جديدة في مجال الإبداع الشعري المدعّم بالصورة الفوتوغرافية(39) فإنّ نصوصه تعتبر العين الكاشفة التي تقود إلى مُحّ المعنى الموجود داخل بيضة قصائد الدّيوان الأول، لا سيما وأنّ الشاعرة وضعت صورتها الشخصية كعلامة وخلفية مائية للصفحات البيض التي كتبت فوقها النصوص الشعرية:
وهذا له معنى واحد: الشاعرة لم تقصد تزيين صفحات الديوان بصورتها، فهذا آخر شيء يمكن أن تفكّر به، ولكنّها أرادت أن تؤكد الدلالة السيميائية التي وردت في عنوان الديوان (أدخل جسدي أدخلكم) كحركة انشطارية من الذات الساردة تخترق بها جسد كل شخصية من شخصيات قصائدها وتتماهى وتحلّ في كلّ واحدة منهنّ، وهو المفهوم ذاته الذي عبّرت عنه في إهدائها حينما قالت:
"إلى كل الذين اقتبستُ من حزنهم الشجيّ أغنيتي..
إلى كلّ من تحشرجت المحيطات في حناجرهم وأطلقوا صوتي..
وإليّ حين دخلت جسدي كي أدخلهم". (40)
والإهداء كما هو واضح يحمل إشارات فيها شرح لما سبق وورد في ديوان (من مذكرات طفل الحرب):
- أغنيتي = أغنية البرتقال
- وأطلقوا صوتي = شجيّ صوتي في خيبات القلب.(41)
يا قافلاتِ المدى /لا تسرقنَ صوْتي /مازِلتُ أملكُ الشُجيراتِ الزرق. (42)
ياقافلاتِ ا لبارود / خـُذنَ صوتي لمنْ لا ابنَ يأتيه ليلاً. (43)
- حين دخلت جسدي كي أدخلهم = أشعرُ بأنـّني مُسافرٌ / بين النارِ والهواء / حقيبتي جَسَدي / ولي بعضُ ذكرى / في العين التي التـَهَمَها الغـُراب .(44)
ثمّة كلمة لا بد من قولها وأنا في حضرة سِفْر سَفَر جسد الشاعرة: وفاء عبد الرزاق لا تتحدث عن جسدها الترابي، وإنما عن جسدها الأثيري الذي تسكنه أصوات الوطن الجريح الذي تآمر ضده الجميع، هو هذا الجسد الأثيري الذي ينشطر فيغدو الجدّة والطفلة والجدّ والصبيّ والأمّ والأبَ وبقية الأطفال جميعا(45) ثم يأتي بعد ذلك ليتمدد فوق مائدة المذبح ويحكي بلسان الحقّ كلّ حرف تهمسه الأجساد بداخله ويقول:
"آتي بالليالي إلى مخدعي/ أطعمها اصطباري/ أتعرى من قميصي/ وألبسُني" (46). إنّه نوع من الفكر الرابعي العدوي الذي أنا بصدده، وكيف لا يكون كذلك وهي ابنة البصرة، الأرض التي أعطت للكون أجمعه عابدة كان يغشى عليها من شدّة الألم كلّما سمعت بذكر النار والجحيم، فما بالك بالشاعرة هنا وقد انفطر قلبها على طفولة شعب بكامله أبادتها نيران الكراهية والحقد والحروب السريالية المضمون والمعنى (47).

3) الطفل - الإله جسد فوق المذبح

هبة العقل التي يملكها الإنسان ويتميز بها عن الحيوان تجعل منه حيوانا أكثر خطورة من الحيوانات الأخرى، فاستخدام العقل هو الذي يجعلنا لاعقلانيين بصورة خطيرة، لأن هذا العقل هو خاصة من خصائص كائن يخضع في الأصل لهيمنة غرائزه (48) والحروب ما هي سوى إحدى أهمّ مظاهر لاعقلانية وسريالية الإنسان الذي يعتقد لليوم اعتقادا راسخا بأنّ الحروب هي النشاط الأساس الذي مارسته ولم تزل تمارسه الشعوب والأمم في كل مكان(49) وما السِّلمُ في هذه الحالة سوى الوجه الآخر للحرب لأنه استمرار لها من خلال حالات هدنة تليها حروب أخرى أكثر ضراوة مهما طالت فترات السلم هذه. وحينما يظهر على الساحة الأدبية مثقفون يولون اهتماما أكبر لظاهرة الحرب، فإنّ معظمهم يكتشفون أنّه من المستحيل الادّعاء بأن كتاباتهم هي مجرد خيال مستلهم من أساطير وقصص بعيدة كل البعد عن واقع الإنسان، وذلك لسبب بسيط: الحرب هي واقع الإنسان اليومي، واقع لم تصمت فيه الأسلحة أبدا منذ بدء الخليقة إلى اليوم، والشاعرة وفاء عبد الرزاق في ديوانها هذا وفي غيره من إصداراتها الأخرى تعرف هذا جيدا، ولهذا تجدها تضع الإصبع دائما على الدمل وتكشف عن الجرح هكذا كما هو فوق مائدة الورق، لا لتصدم القارئ ولكن لتفيقه من حالة النوم والخدر التي يعيشها باستمرار وتقول له بلسان كل شخصيات نصوصها: "لا تخف، فإنّ ما أريه لك هنا وما أحدثك به هو الحياة عينها، حياة قاسية فيها السهل والوعر، والقُبلة واللكمة، والاحتضار والموت، والسؤال والجواب، وليس مصادفة أبدا أن تكون حياتك أنت أيضا فيها الخير والشر والسلم والحرب، لذا عليك أن ترى كل شيء كما هو دونما خوف أو تردد، لأن هذا يعني أن تفتح عين البصيرة وتنظر إلى ما وراء الجسد الميت فوق ساحة الحرب التي هي مسرح هذه الحياة أو الدنيا" (50) واختيار الشاعرة لمفهوم ساحة الحرب كمسرح تدور فيه كل أحداث الحياة يعني تحديدها لمكان خاص مختلف عن باقي الأمكنة العادية، مكان جعلت منه مائدة (مذبحا) أو ركحا تعرض فيه كل الصور الخاصة بالسلوك البشري أثناء المعركة لحظة بلحظة، ويكون فيها الجسد هو الشخصية التي ينطلق منها ويعود إليها كل شيء، أيْ الجسدُ في كلّ حالاته: قبل الحرب، أثناءها وبعدها. لذا، تجدُها قد قسّمت في ديوانها هذا الجسد إلى أجساد متنوعة أجردها كما يلي:
- الجسد قبل اندلاع الحرب والجسد المُحتضرْ(51):
1) الجسد قبل اندلاع الحرب:
أ) في العديد من قصائدها (1 / 6 / 7) تقف الشاعرة طويلا عند صور يتحدث فيها طفل الحرب عن ذكريات ما قبل الموت، ذكريات تأخذه إلى حياته مع جدّه الحافظ في صلبه وشعره الأبيض لسرّ استمرارية الحياة، وإلى دروس جدّته التي علّمته معنى الحرّية والعزة والكرامة، وفتحت عينيه على أكثر الصور إشراقا للأنثى في وطنه حيث المرأة نخلة سامقة وزمان لا ككل الأزمنة. وفي كلّ هذا إشارة منها إلى صورة الوطن الذي يشبه الفردوس البكر الكوثري المتجدد بسرّ المحبة العظيمة التي كانت تجمع بين الجدّ الأصل (آدم) والجدّة (حواء)، والابن هابيل قبل أن تحلّ الكارثة وتطأ الشياطين تراب الجنة ويقتل قابيل هابيل ويعلنها حربا أبدية على الجمال.
من يكون الجدّ والجدّة يا ترى؟ ومن يكون هابيل أو طفل الحرب المتحدث هنا؟ تجيب الشاعرة وتؤكدّ دائما ما سبق وأشرت إليه بألا أحد هنا سوى الطفل - الإله أيْ سواها وتقول في أبيات شعرية أخرى أقتطفها من ديوان آخر:
"لا أحد سوى رأسي،
رأسي جدّة وطفلة،
لذّ لي أن أجلدَ الحاضر
وأتبرّج بالأمنيات.
أنا الآن دمي
ولعبتي...
فليتوضأ في ثوبي
الضوء ويتقد.
ادخلي... بيدك الجنة
جدّتي...
على ركبتيه سيجثو الطريقُ
فأنتِ الهدفُ والمُفترق." (52)

ب) الجسد المُحْتضِر
ما أقسى الحروب، وما أقسى لحظات الاحتضار، وما أعنف الكلمات التي تتحرك وسط النصوص كمشرط يضرب في أعماق الوجع الإنساني وهو يتحدث عن الأوصال المقطوعة والأجساد الذائبة والروح فيها لم تغادرها بعد وتتألم وتحتضر وتنظر إلى كل هذا قبل أن تلفظ نفسها الأخير: إنّها صور لأبشع لحظات الجنون البشري وهو يعلن الحرب على أخيه الإنسان، بل صور تبلغ من السريالية حدّا تعجز الحروف والكلمات عن وصفه كما توضحه بعض من أبيات هذا الديوان:
"في دمي
حصارٌ وطحلبٌ
تطاولَ هو الآخر
بمكر
وتخثـّر
(ق.5)
///
قبلَ أن يَـفـُـرّ جسدُكَ كالمجنون
أو زنداكَ ينفيانِ نـفسيـْهُما عـنـك
قبلَ أن يسيــحَ الطفلُ مـِن عليك
(ق. 6)
///
أشعرُ بأنـّني مُسافرٌ
بين النارِ والهواء
حقيبتي جَسَدي
(ق. 9)
///
لـَمْ أطلـُب مشورتـَك
أيّها الصلصال
على السلالم
خروجيَ تحجّرْ
(ق. 10)"

2) الجسد المقتول رميا بالرصاص والجسد الميت ذبحا

لم يفت الشاعرة أبدا في نصوصها أن تصف تفاصيل معاناة الجسد المتروك وحيدا في ساحة الوغى، وليس هذا فقط فقد وصفت بدقة حتى الأسلحة التي استعملت خلال الحرب، وهي هنا تفتح باب التأويل على مصراعيه وتخرج بالقارئ من دائرة الحدث الواحد والفاجعة الواحدة لتوجه انتباهه إلى حروب أخرى وفواجع ثانية وثالثة مني بها الشعب العراقي غير فاجعة قصف ملجأ العامرية، ذلك أن مناطق كثيرة من العراق كانت ولم تزل إلى اليوم مسرحا لمآسي عديدة يباد فيها المواطنون بكل أنواع الأسلحة بدءا من الرصاص والسلاح الأبيض وصولا إلى اليورانيوم والنابالم والفوسفور كما هو جلي في بعض المقاطع من قصائد هذا الديوان:
"تسبقني رصاصة تـُشبهني تماما
كـُلُّ شيءٍ يصبح طفلاً
حتى الأطياف الراحلة
تفرد أُمّي ذراعيها
يَخرجُ وجهي منْ جـيبِ قلبـِها
ليسبقني إلى العتبة
لكنّ الرصاصةَ تفتح عالمَ الحبر .
(ق. 1)
///
كانت جدّتي مثلما لعبة ضُغط زِرّها
ألعابٌ كثيرة حولي
لربَّما لجدات أخريات
وأنا استمتعُ بدهشة عيونهن
وأروي لهنّ عن مغامرتي
في التزحلق ببركِ الدَّمْ .
(ق. 1)
///
الذبحُ الأزرقُ
ودمية زرقاء
على ثوبها بيتٌ أزرق
وبقايا شفـّةٍ مـُزرقـّة
قـُبلة نرجسةِ القبر .
(ق.2)
///
أطفالُ ذبائح
باعة كأغصان قـُطفت من شـُعاع
(ق. 6)
///
ثـديانِ افترقا عن جسد
(ق. 6)"

3) الجسد الميت حرقا، والجسد المتحلل، والجسد المدفون:
أ) الجسد الميت حرقا:

حظي هذا الجسد باهتمام أكبر من الشاعرة، ذلك أنّه يعني بشكل خاص الطفل العراقي الذي احترق جسده الصغير دونما إثم أو جريرة (53)، والأدهى من ذلك أنّ هذا الطفل في كثير من الأحيان كان يخيّل إليه أنّ الأمر فيه نوع من اللعب، فهو لا يرى حوله الجثث أجسادا آدمية ميتة، ولكنه يراها دمى بعيون مندهشة: جدّته دمية، وبرك الدّم هي برك للعب والجري والرقص والضحك، والأجساد المتفحمة والأشلاء الملتحم بعضها ببعض هي مجرّد دمى أوجعتها العاصفة: أثمة ألم نفسي أبشع من هذا على قلب طفل صغير؟ كم من العمر يلزم كي يشفى ويعافى الطفل العراقي من آلامه وجراحه الدفينة. وكم من العمر يلزم كي تلتئم جراح كل أطفال العالم الذين دمّرت الحروب أحلامهم وآمالهم الصغيرة البسيطة.
إنّها رقصة جنائزية هذه التي تصفها وفاء عبد الرزاق، ترقص فيها الأجساد المتفحمة للأطفال رقصة الموت المروع، وتدور فيها الهياكل العظمية متحدية جبروت الإنسان وآلاته وأسلحته الفتاكة، وكأنها تقول له: "أيّهم أقوى: أأنت بغبائك الخارق الذي لا يعرف غير الحروب، أم الموت الذي هو بالنسبة لنا الآن لعبة ونزهة ولك سيكون مصيرا محتوما لا بد أنت شارب من كأسه ذات يوم؟!".

ب) الجسدُ المتحلل:

في هذا الشق الخاصّ بالجسد المتحلل ترتدي وفاء عبد الرزاق عباءة العارفة بسرّ القبح والجمال، بل بسِرَّي الجمال الكامن في القبح والقبح المدثر بقناع الجمال، وهذا أمر يدعو إلى إعادة طرح إشكالية فلسفية عظيمة اهتم بها شعراء القرن التاسع عشر وأخصّ بالذكر منهم الفرنسي شارل بودلير صاحب (أزهار الشرّ)(54): أيّة جمالية إبداعية يقترحها الشاعر وهو يصوغ أبياتا تتحدث عن الموت في أبشع صورها، وعن الجسد وهو يتحلّل وسط خراب ما بعد الحرب: البعوض الذي يحوم حول الجثة المتعفنة(55)، وجيوش الديدان التي تلتهم اللحم المتحلل، والطفل - الإله الذي يقول على لسان الشاعرة رغما عن القبح: "وجميلٌ وجهي في عيونِ أولاد الحارة / الـَّذين رأيتهم / بما ليسوا بحاجةٍ إليه / سيصبحون مجرّد دويّ"؟ . ما من شكّ أن الأمر فيه صرخة مدوية من الشاعرة تقول عبرها: جثث الأطفال وأشلاؤهم المتناثرة هنا وهناك بعد كل قصف هي أجمل من وجهك أيها الإنسان الميت وسط جسد متحرك:
" شـُهـُبٌ وُجُوهُها حـُفرة
أكانَت لها غـِواية الرِّضا؟
أكانَ لها سريرٌ يفرد فضاءَ العناق؟
أكانَ لها خاتمُ بياض؟
شُهُبٌ حفرةٌ يـَعبـُر عليها القدرُ
دونَ اكتراث
ويُجمّلها بالموت" .(56)


ت) الجسد المدفون:

ليس ثمة من علامة لغوية تدل في الديوان على حدوث دفن جثة طفل أو أطفال الحرب، وحتى تلك العبارات اليتيمة التي وردت في بعض النصوص لا تعني وقوع دفن الجثت حقيقة، والشاعرة وفاء تعمدت هذا الأمر، فالأجساد التي احترقت لم يبق منها شيء حتى تدفن، والأجساد التي تحللت أوصالها وأشلاؤها المتطايرة هنا وهناك، ليس فيها من شيء يدل على أصحابها حتى تدفن كبقية الموتى من خلق الله وهو أمر يستدعي طرح السؤال التالي: مامعنى أن يحرم الجسد من الدفن؟
والجواب بدون أدنى شك: حرمان الأهل من إقامة عزاء لموتاهم وحرمانهم من حق مواراة أحبتهم التراب بل من حقهم في أن يكون لهم مكان (قبر) يذهبون لزيارتهم فيه كلّما اشتاقوا إليهم.
الأجساد في ديوان وفاء أجساد ضائعة، مختفية محرومة من الحق في الحياة ومن الحق في الدفن ومن الحق في قبر يستر جسدها المباد الممحي بنار حقد وكراهية الإنسان لأخيه الإنسان.


(III)
خاتمة

ديوان وفاء عبد الرزاق وإن كان يتحدث عن الدمار الذي تتركه الحروب بعد أن تسكت قعقعات اللأسلحة ويصمت أزيز الطائرات ودوي القصف، فإنّه في عمقه يحمل نداء عميقا يدعو الإنسان إلى التفكير في إيجاد الطريق القويم الذي يمكنهُ أن يسمو به إلى حيث ملكوت السلام والوئام والمحبّة. وكل الحروب كيفما كانت هي مشاريع فاشلة لا شيء فيها سوى الانهزام والموت والكره والحقد، لكن ثمة حرب واحدة في الكون أجمع يمكن أن يقال عنها إنّها حرب مشروعة ومطلوبة في كل حين وآن: إنّها حرب الإنسان ضدّ نفسه، هذه النفس التي هي البيت الداخلي، أو الوطن الحميم لكل شخص، والتي يجب أن تكون هي وحدها المسرح الوحيد الذي تتمّ فيه المعارك ضد عيوب الفكر ونقائصه، لأنّه كلّما كانت أوطاننا الداخلية سليمة وخالية من علل الأنا المتورم والأنانية المتضخمة، كانت أوطاننا الخارجية وكوكبنا الأرضي سليما ومعافى.
الدّيوان إذن هو دعوة لإعادة النظر في كل هاته الصروح الواهية من الفكر المُشوّه التي بناها الإنسان على مرّ العصور والحقب، دعوة تجد دليلها القاطع في الأبيات الأخيرة منه والتي يقول فيها الطفل - الإله بأعلى صوته:"أطفئوا الشاشة/ أطفئوا الأضواء / ربوبيتي / ستحرق الأشياء/ اخرجوا / قاعة الدنيا تحطـّمت / رقبتي عن جسدي انفصلت"
ما منْ شكّ، أنّ الإنسان هو في أمسّ الحاجة لأن يطفأ الأضواء وينسحب في صمت من صخب الأنا (قاعة الدنيا) ويدخل حيث ذاك الجزء السليم من قلبه وروحه قادر على حرق كل الأشواك السامة التي دنست آدميته وطبيعته البكر كي يصبح قادرا على النهوض والانبعاث مرّة أخرى من بين أنقاض بيت ميت انفصلت فيه الرقبة عن الجسد.
وختاما لا يمكن الإعلان عن نهاية السفر في ديوان وفاء دون الإشارة إلى فرادة أسلوبها ولغتها الشعرية التي هي حدّ ومحطّة تولد فيهما الصور لتغدو آليات فنيّة خاصّة بكل ما هو شعائري لدى الشاعرة، وبكلّ ما هو نابع من أعماقها وعينها الرائية.
لغتها وبكل اختصار، صوت زخرفي لجسدها السرّي الذي هو مستودع ديمومة الحرف حيث تلتقي العلامة بالمقصد وتصبح فيه الكلمة فعلا مباشرا لا ماضي له، وجيولوجيا وجودية تكون فيها الكلمة الشعرية موضوعا يباغت القارئ باستمرار كعلبة من دمى الماتريوشكا (57) التي تتطاير منها قدرات الشاعرة اللغوية الواحدة تلو الأخرى بشكل لا يمكن للقارئ أن يبقى ساكنا حيالها دونما أن يشعر بنوع من الفضول والجوع والنهم إلى فكّ ألغاز وأسرار الحرف الرزّاقي.

الهوامش:
(1) فازت القصيدة سنة 2010 بجائزة نازك الملائكة الدولية للأدب العربي.
(2) قمت بترجمة هذا النص في تاريخ 30/ 04/ 2014.
(3) مترجمة ((من مذكرات طفل الحرب)) إلى اللغة الفرنسية.
(4) كلمة الغلاف الخاصة بالطبعة الفرنسية لـ ((من مذكرات طفل الحرب)) وهذا نصّها باللغة العربية: [بدت لي ترجمة هذه القصائد الرائعة أمرا ضروريا، وإن كان يقال إنّ الترجمة هي خيانة للنصّ بشكل أو بآخر، لكنّي أعتقد أنّ عدم الترجمة هو أمر أكثر فداحة من الخيانة النصيّة نفسها، لأنّ فيه نوع من التخلّي عن هذا الطفل وتركه وحيدا ضائعا في مكان ما...
أن أعرّف بهذا الطفل لدى القارئ الفرنسي والفرنكوفوني يعني أن أتقاسم مع وفاء شيئا من الحق في التعاطف مع هذه الطفولة والحق في محبّتها، هذه المحبّة التي لن تزرع بداخلنا نحن البالغين سوى البراءة حتّى نتمكن من جني بعض من الجمال والاستمتاع بسلام حقيقي داخل قلوبنا وفوق هذه الأرض].
(5) د. وفاء عبد الرزاق، (من مذكرات طفل الحرب)، ط 1، دار نعمان للثقافة، لبنان،2008/ ط 2 وط 3، دار كلمة، مصر، 2009/ 2010.
ترجم الديوان كاملا إلى اللغات التالية:
- الفرنسية: هادية دريدي، دار هارمتّان، باريس، 2008 (تدقيق محمد الرفرافي و"Josyane De Jesus Bergey")، كما أقيم له بالمناسبة حفل توقيع بباريس في يوم 19/02/ 2009؛
- الإسبانية: ميساء بونو، مطبعة آنفو، فاس، 2010
حفل توقيع الديوان في نسخته الإسبانية أقيم في المغرب بتاريخ 26/03/2011، بالمركّب الثقافي ((الحرية))، بتنظيم وإشراف دارة الشعر المغربي؛
- الإنجليزية: يوسف شغري، دار صافي، الولايات المتحدة الأمريكية، 2014 (وقد دققته شركة Translation4all,Inc)، وبمناسبة هذا الإصدار أقيمت للديوان احتفالية تقديم وتوقيع ضمن أنشطة المعرض الدولي للكتاب في مدينة سياتل بأمريكا بتاريخ 25-2- 2014؛
كما ترجمت قصائد اقتطفت منه إلى لغات أخرى منها التركية والإيطالية أدرجت في موسوعة السلام للطفل العالمية.
حصل الديوان على ما يلي من الامتيازات والتقديرات والجوائز:
- من لبنان سنة 2008: جائزة المتروپوليت نقولاوس نعمان للفضائل الإنسانيَّة؛
- من فرنسا سنة 2009: تمثيل القارة الأسيوية في مشروع دار هارمتّان السنوي والموسوم بـ (من القارات الخمس) تحت إشراف البروفيسور "جوزيف تومسيان"؛
- ثم من الجزائر سنة 2009: أصبح موضوعا لنيل شهادة الإجازة في الأدب العربي بجامعة تبسة.
(6) Anne-Marie Chabrolle-Cerretini, Wilhelm Von Humboldot, Histoire d’un concept linguistique, Ens Éditions,Lyon, 2007. P. 75.
الترجمة العربية للنص المقتبس: [... أن يتجاوز اختلاف اللغات مجرد الاختلاف البسيط في العلامات، أن تُشكّلَ وتُحدِّد الكلماتُ وبناؤها النحويّ في الوقت نفسه المفاهيمَ مع الأخذ بعين الاعتبار سياق المعنى ومدى تأثير اللغات على المعرفة والشعور، كل هذا يعني أن لغات عديدة ماهي في الحقيقة سوى وجهات نظر ورؤى متعددة ومختلفة للعالم].
(7) انظر في هذا الصدد: محمد خطابي، لسانيات النّص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2006، ص، 16/19.
(8) نسبة إلى لقب الشاعرة وفاء عبد الرزّاق.
(9) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 01.
(10) ثمة فرق كبير بين المذكرات (memorie) واليوميات (Diario)، فالأولى يهتم فيها الكاتب بتدوين أحداث تاريخية أثّرت بشكل كبير في حياته وغالبا ما تكون قد وقعت في مراحل مختلفة من العمر، والأدب العالمي يشهد على وجود هذا النموذج الأدبي القديم الجديد والذي غالبا ما يهتم بأدبيات الحروب من حيث أنها أحداث عالمية تُغيّرُ وجه التاريخ وحياة الناس في العالم بأسره. أمّا بالنسبة لليوميات فهي تعنى بالتدوين اليومي لأحداث الحياة اليومية، وقد تكون لها علاقة بعمل المدون، أو بأفراد أسرته وصداقاته أو برحلاته وأسفاره وما إلى ذلك من مثل هذه الأمور.
(11) د. أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلّد 2، ط 1، دار عالم الكتب، 2008، القاهرة. ص، 1405.
(12) المصدر نفسه.
(13) انظر هذا المقطع من قصيدتها (صلاة الموت) الذي تقول فيه: (ربّاه/ حين صلّى الموت لآلات الحرب/ خشيتُ عليكَ).
(14) انظر قصيدتها (في اتجاه الله).
(15) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 02.
(16) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 03.
(17) ظهر لأول مرّة سنة 1897 على صفحات مجلة (Il Marzocco) الأدبية.
(18) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 04.
(19) سأتوقف طويلا عند تقنية الانشطار في الشقّ الثاني من هذه الدراسة.
(20) انظر قصيدتها: (البحر ليس طفلا).
(21) لقد أكدت العديد من الدراسات التي أجرتها هيئة الأمم المتحدة خلال سنتي 2006 و2007 وجود أكثر من 25 مليون لغم تحت الأرض، لم يتمّ استخراجها بعد من الأراضي العراقية، إضافة إلى ما يقارب الثلاثة ملايين طن من القنابل والذخائر والصواريخ، التي مازالت إلى اليوم مهملة في أماكن متفرقة. أمّا عن عدد المناطق الملوثة بالألغام والمقذوفات فقد قدرت الهيئة أن العدد يصل إلى أكثر من 2000 موقع في بغداد والمحافظات. وتزهق الألغام أرواح المئات من الأطفال في العراق، حيث يشكل المدنيون ما لا يقل عن 99 بالمئة من ضحايا الذخائر غير المتفجرة من بقايا الحروب، ويمثل الأطفال دون سن 14 عاماً ربع المجموع الإجمالي للضحايا.
(22) انظر العبارات التالية: (صمغ، يسيح، منشفة رطبة).
(23) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 05.
(24) انظر الصفحة الداخلية التي تلي مباشرة الغلاف في نسخته العربية.
(25) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 06.
(26) انظر الخطوط الحمراء اللون (الصورة 06).
(27) انظر الخطوط الخضراء (الصورة 06).
(28) أو ما سمّتها القوات الأمريكية بـ (Operation Desert Shield) وهي عملية عسكرية قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حرب الخليج، في 7 أغسطس 1990 وقد كانت أكبر عملية نشر للجنود الأمريكيين منذ صراع جنوب شرق آسيا بلغ عددهم حوالي 500000 جندي.
(29) الفجر الحزين:
o تأليف صباح عطوان
o إخراج صلاح كرم
o الموسيقى التصويرية: نصير الشمّة
(30) وهو للفنان العراقي علاء بشير ويتمثل بإظهار رأس إنسان تحيط به أحجار ضخمة ومتينة، وهو يصرخ بكل ما أوتي من قوة معبّرا بذلك عن محنة الشعب العراقي بأكمله وعن ما قاساه من آلام وعرفه من مصائب وفواجع.
(31) موسوعة حرب الخليج، الجزء الأول، المقدمات واليوميات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لندن، ط 1، 1994.
(32) نورمان شوارتزكوف، النصّ الكامل لمذكرات نورمان شوارتزكوف، ترجمة حسام الدين متولي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 1، 1993، ص، 231.
أما النسخة الأصلية فهي تحمل العنوان التالي:
It dosen’t take a hero: The autobiography of general H.Norman Schwarzkopf, Edition Random House Publishing Group, New York, 1993
(33) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 07.
(34) - جان بيير شيفنمان، حرب الخليج دفعتني للاستقالة، ترجمة أحمد عبد الكريم، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1992.
- محمد حسنين هيكل، حرب الخليج، أوهام القوة والنصر، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، ط 1، 1992.
(35) يرجى الاطلاع على الجزء الثاني من قصيدة (حصار).
(36) انظر قصيدة (البحر ليس طفلا)، ففيها إشارة لما رواه الشهود العيان الذين دخلوا بعد أن تمّ فتح ملجأ العامرية: جثث الأطفال كانت ملتحمة بعضها ببعض، وبعضها كان ملتصقا بالجدران.
(37) انظر في الملاحق، جزء وفاء عبد الرزاق، الصورة: 08.
(38) د. وفاء عبد الرزاق، أدخل جسدي أدخلكم، مؤسسة المثقف العربي، سيدني، استراليا، ودار العارف، بيروت، لبنان، 2012.
(39) انظر: د. إبراهيم عبد العزيز زيد، القصيدة والصورة الفوتوغرافية، دراسة في الديوان، صص، 7/31 من ديوان (أدخل جسدي أدخلكم).
(40) نص الإهداء، أدخل جسدي أدخلكم، المثقف العربي، سيدني، استراليا، ودار العارف، بيروت، لبنان، 2012، ص 5.
(41) المقطع الرابع من قصيدة (البحر ليس طفلا)
(42) المقطع السابع من قصيدة (امرأة واحدة لا تكفي)
(43) المقطع نفسه
(44) المقطع الأول من قصيدة (إسراف).
(45) لمعرفة المزيد عن تقنية الانشطار لدى الشاعرة وفاء عبد الرزاق يرجى الاطلاع على مجموعتها القصصية: امرأة بزيّ جسد، دار كلمة، مصر، 2009.
(46) د. وفاء عبد الرزاق، أدخل جسدي أدخلكم، قصيدة (عصيّ على الهبوب)، مؤسسة المثقف العربي، سيدني، استراليا، ودار العارف، بيروت، لبنان، 2012، ص، 97.
(47) عبد الرحمن بدوي، شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1962.
(48) إيريك فون هولست، حول الفوارق البسيكولوجية بين الحيوان والإنسان، المجلّد الأول، ميونيخ، ص،239.
(49) برتران دوجوفنيل، في السلطة: التاريخ الطبيعي لنموها، ترجمة محمد عرب صاصيلا؛ مراجعة فاطمة الجيوشي، وزارة الثقافة، دمشق، 1999، ص، 122.
(50) انظر الأبيات الأخيرة من قصيدتها (صلاة الموت):
"أطفئوا الشاشة / أطفئوا الأضواء / ربوبيتي / ستحرق الأشياء/ اخرجوا / قاعة الدنيا تحطـّمت / رقبتي عن جسدي انفصلت ".
(51) وأعني هنا الجسد قبل قصف ملجأ العامرية، باعتبار أن هذا القصف يدخل في إطار عمليات حرب الخليج الثانية أو ما كانت تسمّى بعمليات درع الصحراء.
(52) د. وفاء عبد الرزاق، أدخل جسدي أدخلكم، قصيدة (خارطة مذنبة)، مؤسسة المثقف العربي، سيدني، استراليا، ودار العارف، بيروت، لبنان، 2012، ص. 73.
(53) انظر القصائد (1/ 2 / 4)
(54) انظر في هذا الصدد قصيدته (جيفة): شارل بودلير، أزهار الشرّ، ترجمة حنّا وجورجيت الطيّار، دار الفارابي، بيروت، 1983، ص، 108.
(55) انظر القصائد (6/ 9/ 10 / 11 / 14 / 15).
(56) المقطع السادس من قصيدة (تجميل الموت).
(57) نوع من الدّمى الروسية توجد بداخلها عدة دمى أخرى بأحجام متناقصة، بحيث أن الدمية الأكبر تحوي الأصغر منها وهكذا دواليك. تعرف اللعبة أيضا باسم بابوشكا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب