الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قِحَابٌ وَلَكِنْ...(الجزء الثاني )

عزالدين بوروى

2023 / 1 / 23
الادب والفن


(الجزء الثاني)


ظللنا نتفاوض مع الحاج "ك" رغم أن الوقت آنذاك لم يكن يسمح لنا بالمطالبة بالثمن المعهود، بعنا أنفسنا بسبعين درهمًا وفتح باب السيارة وركبنا. كانت الساعة تشير إلى التاسعة ، الكل تنفس الصعداء وشكر السماء لأنه لم يعد إلى بيته خالي الوفاض. اللهم هذا الثمن القليل ولا الرجوع إلى المنزل دون خبزٍ وزيتٍ و سكّر، قال عمي التازي .
أما أنا فكنت أدقق النظر مطولًا في شحوب هؤلاء؛ الفقر يعري هذا ويُجوِّع أبناء ذاك ، بدأت أدقق بالتفصيل في سيارة الحاج "ك" كيف تتحرك وكيف يقودها بسرعة فائقة كي لا نتأخر عن جني المحصول اليومي ، كانت نظرات هؤلاء الرجال تحوي سخطا عميقًا ومسيرات احتجاج في لاوعي كل واحد منهم؛ احتجاج على من ؟هل على الحاج (ك) الذي اشترانا من "المُوقْف" أم على باقي "الحجاج" الذين امتصوا عرق جبين أمة من الشمال إلى الجنوب . لم يكن لاسم الحاج في معجم البلدة أي ارتباطٍ بما هو ديني، وإنما كنا ننادي به كل شخص زُيِّنَ له ، قدرًا أو قانونًا ،جمع القناطير المقنطرة من خيرات البلاد والعباد .
وصلنا إلى المزرعة فوجدنا بعض النسوة يركعن داخل حقول الطماطم يجنين المحصول دون أن يرفعن رؤوسهن للأعلى ، كانت أثمنة الطماطم مرتفعة حينها إلا ثَمَنُنا نحن فقد كان زهيدًا جدا.
فكر معي أيها القارئ الكريم مرةً أخرى في هذه المسألة المعقدة ، لدينا حقل طماطم بطول أربع أو خمس هكتارات ، كل هكتار ينتج عددًا لا يحصى من صناديق الطماطم، وكل صندوق طماطم بمائتين وثلاثين درهمًا!، إذن كل صندوق طماطم كان يعادل ثلاثة رجال وامرأة تقريبًا ، فمعظم النساء اللائي كنَّ معنا بالحقل قبلن بخمسين درهما فقط كي يضمن العمل على مدار العام داخل المزرعة.
نساء المزرعة لسن كباقي النساء الأخريات، جعّدت الحياة ومتاعبها ملامحهن ، خفتت أنوار عيونهن،جفّت نهودهن وترهلت ، ولم يعد لهن وقتٌ للعناية ببشرةٍ طلّقت نضارتها طلاقًا ثلاثًا لا رجعة فيه .
ولأننا قِحَابٌ كما لقبنا عمي التازي، وقف علينا الحاج مرة أخرى وبدأ يدقق النظر في أجسامنا مرة أخرى، فحط نظره عليّ، أنت شاب قوي تبارك الله ، اصعد إلى الشاحنة كي تثبت صناديق الطماطم في مكانها، هيا إلى الشاحنة، لكن حاول أن تقرَّها بنظام وعناية .
صعدتُ إلى أعلى الشاحنة وبدأت بشحن الصناديق داخل الشاحنة رفقة شاب آخر في مقتبل العمر، وأنا أتصبب عرقا تمنيت لو كنت غيمة ويليام ووردزوورث* لأهيم وحيدًا فوق هذه الحقول الشاسعة ، أحلق فوق سماء تافراطة ووديان گرسيف، لأغيث معذبي هذه البلدة الكئيبة قليلًا ، وتذكرت حينها كل ما قرأته من نظريات عن البروليتاريا وحزب البروليتاريا والدفاع عن البروليتاريا ، فكفرتُ بكل النظريات وكل الأكذوبات، وصحتُ في وجه السماء :
أنا أنتمي لهؤلاء الجياع ، أنا أنتمي لهؤلاء المساكين ، أنا أنتمي للهامش وهذا مبلغ الفخر بالنسبة لي.
——————————————————————––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––
*قصيدة للشاعر البريطاني الشهير ويليام ووردزوورث بعنوان I Wandered Lonely as a Cloud








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب