الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النّاس هم الأغنية

نصير عواد

2023 / 1 / 23
الادب والفن


من سوء حظ الصبيّة التي لا خالات ولا عمّات لها، تشكو لَهنّ اشواقها وتُودع عِندهنّ اسرارها. فصرامة التقاليد والعادات الاجتماعيّة بالعراق لا تسمح على الدوام بشكوى الحب في حضرة افراد العائلة من الدرجة الأولى، الأب والأخ الأكبر. الأمر الذي يدفع الفتاة إلى البحث عن طرفٍ ثالث قريب من العائلة، تروي حكايتها له. أحيانا، بسبب غياب العمّة والخالة، تستعين الصبيّة بالأم المنشغلة بهموم البيت وتربية الأولاد وسهر الّليالي، ولكن الام ليست مستودع اسرار محايد كما العمّة والخالة. الأم تلعب دور الرقيب والمربي بالبيت، في حين أن الصبيّة العاشقة، الجالسة أعوام طوال تطبخ وتحيك وتجلي الصحون، لابد لها أن تشكو لأحد ما بين جدران البيت. لذلك تلجأ إلى وضع اسرارها، المشحونة بالأشواق والعتب والّلوم، عند العمّة. وعلى هذه الأخيرة أن تسمع وتحن وتعفي، كما في أغنية المطربة لميعة توفيق:
هذا الحلو كاتلني يعمّه .. فدوه شگد احبه وأرد أكلمه
أنتِ اشلون عمتي .. بيه ما افتهمتي
روحي كله يمّه .. يعمّه يعمّه

العمّة هنا جزء من الحدث الاجتماعيّ المشفّر، تتكدس بعباءتها في خلفية المشهد، لموازنة القلق الإنسانيّ الباحث عن الحب والاستقرار النفسيّ. جرى استحضارها بكلمات من تفاصيل حياتنا اليوميّة، تشعرنا بالألفة والبساطة والجلوس في حوش الدار، عبر لحن مسوّر بالحزن الشفيف الذي يبقي الاغنية حيّة ودافئة، يدندن بها الشباب على اختلاف أعمارهم ومستويات عيشهم. العمّة هنا هي الثيمة الذي تدور حوّلها حكايات الحب والهجر والأشواق، تارة تأتي كقافية شعريّة وتارة أخرى تأتي كلازمة موسيقيّة بعد انتهاء المقطع، وثالثة تأتي كحزمة أمل أو حزن يائس. وعلى الرغم من دأب العراقييّن على دفع الحب إلى خانة الحزن والمعاناة والقسوة، إلا ان هذا النوع من الاغاني قادر في بضع دقائق على تحويل سائق العربة او خباز الحيّ إلى عاشق كبير، يجدد بها روحه ويغسل بترديدها تعب النهار:
هذا الحلو كاتلني وأريده
معذب مهجتي والروح بيده
ما اصبر بعد عنه بعيده
گلبي اشلون اصبره .. ونار العشگ كبره
ما ينحمل همّه.. يعمّه يعمّه

إنّ دخول رابطة الدم مجال الأغنية العربيّة، باعتبارهِ نشاطا اجتماعيّا وثقافيّا منتشرا بين فئات المجتمع، ليس جديدا أو مكروها. الأمر الذي يشير إلى أن هناك حاجة كامنة في الغناء تستدعي حضور أفراد العائلة والأقارب، مثلما تستدعي الحبيب البعيد. والمتتبع لهذا الضرب من الفنون سيجد أن الأم لها حضور واضح في قصائد وأغنيات بلدان كثيرة، يتجلّى في المناسبات والأعياد، كما هو في مصر ولبنان، على سبيل المثل لا الحصر. في حين أن شعوبا أخرى ألقت بثقلها خلف العمّة والخالة لإيصال المشاعر والأفكار التي تحاصر الأفراد، مثلما هو بالعراق. في الحقيقة لا توجد قاعدة بيانات ثابتة بالأغاني التي تتناول أفراد العائلة، ولكن المتتبع يستطيع القول انها قليلة بالقياس إلى كمية المعروض من الأغاني بالشارع وبالمؤسسات الاعلاميّة. وقلّة المعروض هنا لا ينفي وجوده، ففي العراق غنّت المطربة وحيدة خليل (يمّه وحگ عيناچ ما انسه طيبچ) وكذلك المطربة زهور حسين غنّت (غريبه من بعد عينچ ييمّه) التي يشعر بها المنفيون أكثر من غيرهم، وهناك أغان أخرى تناولت موضوع الأم، خيّم عليها الحزن والألم:
غريبه من بعد عينچ ييمّه .. محتاره بزماني
يا هو اللي يرحم بحالي ييمّه .. لو دهري رماني
حاچيني ييمّه .. فهميني ييمّه

هذا اللون الحزين شائع بالعراق، فيه شجن وشكوى وحكاية، وفيه كلام دارج. يشير إلى ان الاغنية الشعبيّة فيها الكثير من الاحداث المتراكمة في عمق الذاكرة الاجتماعيّة. عمل الشعر، والموسيقى، على صقلها وإعادة تقديمها للبيئة التي صنعتها، محمّلة بمعاناتها ولهجتها وخصوصيتها. وفي نظرة سريعة على كلمات الأغنيّات التي تتناول أفراد العائلة، خصوصا المرأة، ستتكشف لنا بعض الأسرار الصغيرة التي ساهمت في صنع الظاهرة. ففي حين أن الأغاني التي تتناول العمّة والخالة سريعة الايقاع، ترتبط بالحب والأسرار والخروج على المألوف، وتتسم بالدلال والمحبة ونسيان الأخطاء الصغيرة، نجد ان كلمات الأغاني التي تتناول الأم قليلة الايحاء والايماء، وغالبا ما ترتبط بالتوقير والحزن والحنين. بسبب ان العلاقة بالأم عميقة وراسخة، يحتاجها الأولاد والبنات في كافة مراحل حياتهم. ينبغي القول هنا، مرة أخرى، ان تنوّع موضوعات وأحداث وشخصيّات الاغنية العراقيّة لا يقلل من حقيقة انها منظومة حزن عميقة، حتى وهي تصوّر تنوّع فصول السنة الموصوفة بالمطر والورد والشمس والطين. هيمنة الحزن على هذا اللون من الغناء مرده ليس فقط تاريخ الحزن القديم في المجتمع العراقيّ، الممتد من اساطير السومريّين وحداء القبائل المهاجرة ودوامة الحروب التي لا تنتهي، بل وكذلك من سياق اجتماعيّ مهيّمن جعل الام مفردة مسوّرة بالقداسة، لا يمكن على الدوام وضعها في قوالب الرقص والفرح. وهذا ليس حكرا على الأغنية العراقيّة، ففي مصر يمكن تلمس ذلك في اغنية "ست الحبايب للمطربة فائزة أحمد منتصف القرن الفائت، وفي اغنيتها "يمّه القمر عالباب" التي كتب كلماتها الشاعر مرسي جميل عزيز، ولحّنها محمد الموجي. الرحابنة بلبنان كذلك غنوا للأم "يمّه الحلو ناسي الهوى يمّه" وهي أغان فيها الكثير من الدفء والحنان، أغان متصالحة مع المعاناة والعذابات، يمكن سماعها من دون عض الشفتين. صحيح أن هذه الأغاني ارّخت لفترة وجيل منتصف القرن الماضي، إلا أن اصالتها من جهة، وبطء التطورات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في بلداننا من جهة أخرى، ساهم ببقائها في الذاكرة الاجتماعيّة، عبر إعادة توزيعها وغنائها على ألسنة الكثير من المطربين المتأخرين.
إن بقاء الأغنية في الذاكرات وعلى الألسن ليس حكرا على موضوع دون غيره، فذلك مرتبط بأغراضٍ اجتماعيّة وثقافيّة متباينة. كذلك لا يوجد ما يحدد الأقرب للصبيّة، العمّة أو الخالة، على الرغم من كثرة الأمثال والأقوال التي تتحدث عن أن الصبيان أقرب من أخوالهم وأن الصبايا أقرب من عماتهن. في العراق نجد الذاكرة الشفاهيّة قد حفظت للخالة انها تصغي أكثر مما تنصح، وأنها صندوق الهدايا والاسرار، وأن حضورها يسمح للصبيّة بعبور بعض الخطوط التي تحدّدها العائلة. الخالة فيها رائحة الام وملامحها، ولها مكانة مختلفة في قلب الصبيّة، فيها الكثير من الالفة والمحبة وحلوى الطفولة، تزداد أهميتها في الازمات العابرة التي تحتاج حلولا سريعة. ونجد ان المطربة زهور حسين غنّت للخالة مثلما غنّت للام (خالة شكو شنو الخبر دحچيلي) إنّ استدعاء الحبيب عبر حضور الخالة شكّل خروجا على رتابة النصوص التي ألّفها كتّاب الأغاني عن الحب، يذكّرنا بتلك القصائد التي تستحضر الحبيبة عبر أشياءها اليومية؛ صائغ حُليّها، خيّاطة ملابسها، السوق الذي تتسوّق منه، مشط شعرها الذي لا تجاريه المخيّلة. بعض كلمات الأغاني القديمة كشفت عن أن الصبايا هن أكثر من يُودع أسراره عند الخالة، ولذلك جاءت الشكوى على لسان نسوة عراقيّات جسدن بشكل راق تلك المعاناة. ولكن هذا لا يمنع بعض المطربين الرجال من تأدية تلك الأغاني، ثم يردّدها كثيرون بعد ذلك:
خاله اشلون بيه ما دريتي.. ما الومچ يخاله شما حچيتي
انتِ اللي گضيتي العمر راحه.. وما شفتي الملامة ولا هويتي
شيصبر العاشگ يا خاله.. شيصبر العاشگ يا خاله

لا يغيب عن القارئ اننا نتحدث بشكل عام عن أغانٍ مألوفة اخذت حقها في الشارع العراقيّ، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة أن ضعف المؤسسات وغياب شركات تسجيل الأسطوانات، في بدايات القرن الفائت، دفع بأغانٍ شعبية كثيرة إلى خانة النسيان. بقي بعضها مجهول النسب مثل (يا گهوتك عزاوي، چلچل عليه الرمان، افراگهم بچاني...) غنّاها كثيرون وعزفها موسيقيون سماعيون، ولكن لا تأكيد على نسبها. وما زالت هناك حكايات تردّدها الذاكرة الشفاهيّة عن أغانٍ كُتبت ولُحنت وغُنيّت في بضعة أيام، قبل ان تنتشر في المقاهي والاعراس وليالي السَمر، في إشارة إلى ان للأغنية حضور تلقائي ومهم في حياة الناس اليوميّة. وهذا لا يقلّل من حقيقة ان الظروف التي رافقت ظهور بعض الاغنيات ليست سهلة او خالية من مخاطر النبذ والنقد، فالبدايات دائما صعبة ومعقدة، لكن الأوائل استطاعوا تقديم اغنية تعبر عن ذاتهم ومجتمعهم. كانوا أشبه بقبيلة مجهولة من الهواة صنعت اغنياتها ورحلت، تضج مضامينها بدراما حب وعتب وحنين، تنشد بعث السعادة في قلوب الناس. كثير من هذه الأغاني الشعبية، التي حافظت على بساطة الحياة، والتي جرى وضعها لاحقا في خانة الفلكلور، نشأت في مناخ شعبيّ لم ترهقه بعد الحروب والصراعات الاجتماعيّة والطائفيّة. أغان قصيرة سهلة الحفظ، وضعت جملها اللحنيّة في قوالب متقاربة الشكل، لها موضوع محدّد، تبدأ به وتقفل به، غالبا ما يكون الموضوع نسائي، يخوض في هموم الحب والهجر. فلطالما كان الحب أرق وأبهى الموضوعات، حتى من دون سبب واقعيّ. ومع ان الكثير من العراقيّين لم يطرق الحب قلبهم، إلاّ ان ذلك لا يمنع من حفظهم أغاني الحب عن ظهر قلب، لتكون مصدر لذة وعذاب ممّتعيّن. واللافت انه كلما طال أمد الحرمان من الحب، أو تاه أصحابه في دروبه، زادت العلاقة بالأغاني، وصار كلّ مهموم يغني على طريقته، يضيف من عنده أحيانا كلمات إلى نص الاغنية، يطمح بها ان يكون من المغنين، ويأمل بحكايةِ حبٍ قادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة وأماني وخطط لمستقبل.. كيف تفاعل الفنانون السوريون مع سق


.. الخارجية السورية: العمل مستمر في جميع الممثليات الدبلوماسية




.. لما أحمد أمين وحمدي المرغني يمثلوا في فيلم واحد ?? يا ترى هي


.. السيدة انتصار السيسي وقرينة سلطان عُمان تزوران دار الأوبرا ا




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: على الحلوة والمرة أشت