الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحية إجلال ثانية لرئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة

جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)

2023 / 1 / 25
مواضيع وابحاث سياسية



قبل أقل من ثلاث سنوات، قدّمتُ على هذه الصفحات «تحية إجلال لرئيسة وزراء نيوزيلندا» (القدس العربي، 19/3/2019). وأشعر الآن، وقد استقالت جاسيندا أرديرن من منصبها، أنه لا بدّ لي من توجيه تحية إجلال ثانية لها، على غرار العديد الذي لا يُحصى من الأصوات العالمية، لاسيما الإعلامية منها، بما فيها افتتاحية هذه الصحيفة بالذات («استقالة جاسيندا: لماذا لا يتنحّى الرؤساء العرب؟» القدس العربي، 20/1/2023). فقد قدّمت للعالم رئيسة الوزراء السابقة نموذجاً يُحتذى به خلال تبوّئها مهامها الحكومية كما من خلال استقالتها من الحكم، والأمران مثيران للإعجاب.
أما ما بدا فريداً وموضع تقدير عالمي في استقالة السيدة أرديرن فهو بكل بساطة إنسانيتها بأسمى معاني هذه الصفة! أي إقرارها بأنها تعبت من ممارسة السلطة بعد خمس سنوات ونيّف وقد حان وقت انسحابها منها فاسحة المجال أمام اختيار حزبها ومن بعده بلادها لشخص آخر يشغل منصب رئاسة الوزراء. فلهذا القرار مغزى عميق، يقلل من شأنه في الحقيقة ما راج عن أن أرديرن استقالت بسبب ما تعرّضت له من إهانات بوصفها امرأة. وقد حرصت المعنية على نفي هذا الزعم، مكرّرة نفيها يوم الإثنين الماضي لدى حضورها احتفالاً دينياً للماوري، سكان الجزيرة الأصليين، الذين أبدت إزاءهم خلال حكمها احتراماً لم يسبق له مثيل. فأعلنت للحضور أنها لم تستقل هروباً من الهجومات التي استهدفتها لكونها امرأة، مؤكدة: «أريد جميعكم أن يعلم أن تجربتي الطاغية جداً في شغل هذا المنصب، من نيوزيلاندا وأهلها، كانت تجربة من الحب والتعاطف واللطف. هذا ما أبدته لي أغلبية نيوزيلاندا».
طبعاً، فإن نفي السيدة أرديرن للتكهنات بشأن استقالتها لا يعني البتة أن استهداف النساء لكونهنّ نساء عندما يتبوأنَ مناصب قيادية يراها المتخلفون عقلياً حكراً على الرجال، أن هذه الآفة المجتمعية ليست مهمة ولا تطأ بثقل خاص على النساء اللواتي يلجنَ حقل السياسة، ومثله حقولاً أخرى عديدة. بل هو أمر مفروغ منه، نرى منه عيّنات مفجعة كل يوم مع ما يرافق التقدّم الحضاري من تحرر للنساء وتزايد دخولهنّ شتى الحقول التي كانت حتى تاريخ ليس بالبعيد حصراً بالرجال. لكنّ رئيسة الوزراء السابقة بنفيها لما زُعم عن استقالتها أرادت دحض ما رأت فيه على الأرجح تكريساً لنظرة تجعل من النساء «الجنس الضعيف» كما جاء في مقولة ذكورية بامتياز. فإن دخول الحقل السياسي وعلى الأخص اعتلاء كرسي القيادة السياسية يترافقان بالضرورة بالتعرّض لشتى أنواع الكراهية، لاسيما الذكورية منها عندما يتعلّق الأمر بامرأة.

وتدرك بالتالي كل امرأة تدخل معترك السياسة أنها ستتعرّض لشتى أنواع الضربات، وأنه لا بدّ لها من أن تستعدّ لذلك. هذا ما يجعل من النساء اللواتي يصلنَ إلى المناصب السياسية بجهودهنّ (وليس بقرار من حاكم ما) نساءً متميزات بقوة وعزم يفوقان المتوسط مهما كان توجهنّ السياسي. فإن استقالة جاسيندا أرديرن ليست رضوخاً أمام الهجومات التي استهدفتها لكونها امرأة، وهي أقوى من أن ترضخ لها، بل ببساطة لأنها، على حد قولها في المؤتمر الصحافي الذي تلا إعلان استقالتها، «انسان» لا أكثر ولا أقل: «بعد مواجهتي ست سنوات تخللتها بعض التحديات الكبرى، أنا إنسان. أهل السياسة أناس. نعطي كل ما نستطيع طوال ما نستطيع، ثم يأتي الوقت».
يا له من كلام عظيم ببساطته! فإن الإنسان الذي يصل إلى حجرة قيادة الدولة يواجه إحدى أصعب المهام على وجه الأرض وأكثرها إرهاقاً لمن يعتنقها سعياً وراء خدمة بلده وشعبه، وليس سعياً وراء المنافع والامتيازات وحبّ الزعامة وممارسة السلطة والقهر على الغير. ومن الطبيعي أن يُصاب بالإرهاق الإنسان الذي يتناسب مع الصفات المذكورة بعد بضع سنوات من ممارسة الحكم، وهو السبب الذي جعل دساتير الدول الديمقراطية تضع حداً لعدد السنين التي يستطيع إنسان ما خلالها اعتلاء سدة الحكم. فإما أن يكون الإنسان مخلصاً في خدمة شعبه وسوف يصيبه الإرهاق بما يؤثر في نوعية خدمته بعد بضع سنوات (ثماني أو عشر في معظم الدساتير الديمقراطية) أو أن همّه الرئيسي الاستفادة من مزايا السلطة فيصبح استمراره في الحكم خطراً عظيماً على الديمقراطية.
ولهذا السبب نفسه، نرى الرجال الذين يتبوؤون الحكم بشروط ديمقراطية أو شبه ديمقراطية ويصابون بما حذّرت منه الحكمة القائلة إن السلطة تُفسِد، يبذلون شتى الجهود والحيَل من أجل الالتفاف على الدستور أو تغييره أو تعليقه أو حتى إلغائه، سعياً وراء تحويل عهدهم عمّا تعهدوا به عند أدائهم القسَم، نحو رئاسة مدى الحياة. ولسوء حظّنا فإن مثل هؤلاء الرجال يشكلون القاعدة، وليس الاستثناء، في منطقتنا العربية بوجه خاص.
فالسؤال الوجيه الذي يفرض نفسه هو: يا تُرى، هل هؤلاء الرجال أناس؟ أو أنهم ينتمون إلى صنف من الناس تنقصه ميزة سامية من مزايا الإنسان، هي تلك التي تحلّت بها إلى أعلى درجة رئيسة وزراء نيوزيلاندا المستقيلة، بما جعل العالم يحييها بإجلال لإثباتها الرائع بأن الإنسان يستطيع أن يمارس السلطة بدون التخلي عما هو ميزة الإنسان السامية وهي القدرة على الاكتفاء المعنوي. وأن تكون هذه الإنسان (والتعبير مذكّر ومؤنث على حد سواء باللغة الفصحى) امرأة فهو ما يجعلنا نتمنى أن يصدق وعد الشاعر أراغون في تحفته المستوحاة من «مجنون ليلى»: «إن مستقبل الرجل هو المرأة». فخير ما يمكن أن نتمناه للإنسانية هو أن يحكمها أناس يمتثلون نموذج المرأة التي أعجِب العالم بأدائها للحكم بأسمى ما في الإنسانية من مزايا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل بنود العرض الإسرائيلي المقدم لحماس من أجل وقف إطلاق ا


.. أمريكا وفرنسا تبحثان عن مدخل جديد لإفريقيا عبر ليبيا لطرد ال




.. طالب أمريكي: مستمرون في حراكنا الداعم لفلسطين حتى تحقيق جميع


.. شاهد | روسيا تنظم معرضا لا?ليات غربية استولى عليها الجيش في




.. متظاهرون بجامعة كاليفورنيا يغلقون الطريق أمام عناصر الشرطة