الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حياة أخرى عند جذع النخلة: رسائل خليجي 25

عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

(Abbas Obeid)

2023 / 1 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


نصف مليون إنسان، تجمعوا في محيط ملعب المدينة الرياضية في البصرة. خمسمئة ألف عراقي من فقراء المدن، وأبناء الشرائح الوسطى توافدوا منذ ساعات الصباح الأولى، لمتابعة المباراة النهائية لكأس خليجي 25، مع أن موعدها في السابعة مساءاً. حين وصلوا لبوابات الصرح المعماري الجميل، الذي يتناغم دوره الوظيفي مع التمثيل الرمزي لروح المدينة وجدوا ملعب "جذع النخلة" ممتلئاً بأكثر من طاقته الاستيعابية: "65 ألف متفرج"!
منذ عقود لم تجتمع أعداد كبيرة من العراقيين، لسبب لا صلة له بالطائفة، أو العرق، أو الآيديولوجيا، باستثناء الزخم الجماهيري الهادر، أيام ثورة تشرين. وبين الحدثين الكثير من خطوط الوصل في اعتقادي. شباب مفعمون بالحيوية، من مدن الجنوب، والفرات الأوسط، من المحافظات الغربية، وإقليم كردستان. من قال بأن التعدد يفسد التعايش؟ كانت الألسنة كلها تردد لحناً واحداً: "عراق ... عراق". تلك رسالة بليغة بلا شك. تنخفض درجات الحرارة، ويرتفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي إلى حدود لم يتخيلها أحد. مع ذلك، حضرت عوائل بكامل أفرادها أيضاً، أُسَر حرصت على اصطحاب أطفالها ليكونوا جزءاً من كرنفال فرح نادر.
إنه توق واضح لحياة مختلفة، حياة تتيح للمرء تجريب لحظات من المتعة البريئة التي يوفرها سحر كرة القدم. نعم. من حق العراقي أن يفرح، أن يحقق حلماً بسيطاً بقي بعيداً لأمد طويل: مجرد بطولة كروية تُقام على أرضه، مثل ما يحصل في سائر بلدان العالم. جيل عراقي بأكمله لم يشهد ذلك، وجيل من نجوم المنتخب العراقي أكملوا مسيرتهم الكروية دون أن يلعبوا مباراة دولية فوق أرضهم، وبمساندة جماهيرهم، بسبب الغباء السياسي، قبل وبعد 2003.
لقد كسبت الجماهير الرهان، أوصلت كلمتها للعالم، مثلما أسمعتها لشخصيات مختلفة، لرئيس الوزراء "محمد شياع السوداني" الذي حضر المباراة فأبلغته الجماهير رسالة شفوية عاجلة، لا تحتمل التأجيل: "نَزِّل الدولار"، لكاظم الساهر الذي تغيب عن الحضور، في الوقت الذي بادرت الفنانة العربية "أحلام" وهي تماثله – إن لم تتفوق عليه- في الشهرة لإحياء حفل الختام فهتفوا لها، وعتبوا عليه: "على عناد كاظم". الناس لا تنسى من يشاركها لحظات الحزن والفرح.
طوال أسبوعين، راحت البصرة تباغت ضيوفها الخليجيين، تبدد خشيتهم على الوجه العربي للمدينة، تلك التي تولدت إثر احتلال العراق في العام 2003. أبهرتهم بطيبة أهلها، وكرمهم الفطري الأصيل. هذه رسالة أخرى بالغة الأهمية. وهم بدورهم قابلوا الحفاوة بمثلها، فنشروا في وسائل التواصل الاجتماعي صورة أخرى للبصرة، للمدينة العظيمة التي سمعوا من آبائهم الكثير عن تسامحها وثرواتها الوفيرة، وعن تمدُّنها الذي سبقت فيه جميع الحواضر الخليجية. تاريخها الأبعد تعلموه في المدارس: مهد رواد العقلانية الأوائل: المعتزلة وإخوان الصفا، موطن الحسن البصري، وابن سيرين، والفرزدق، والفراهيدي، وسيبويه، والجاحظ، ورابعة العدوية، وبدر شاكر السياب. مؤسسون كبار تركوا بصمتهم في ذاكرة العرب إلى الأبد.
فجأة، أصبحت البصرة تحت شمس مبهرة، تنفست بقوة نسمات من هواء نظيف ومنعش، بعد أن كادت تختنق بجلبة سلاح الميلشيات، وأسلحة العشائر التي تلجأ إليها لأتفه الأسباب، بزيف دعوات الأقلمة، وبالرائحة المنتنة لفساد جهات نافذة، لا تحترم أي قانون، جهات ابتلعت ثروات النفط والكمارك، وتركت المدينة العظيمة أشبه بالأطلال. حتى نخيلها يوشك أن ينقرض اليوم. بعيداً عن ذلك كله، وجد أهل البصرة، ومعهم سائر العراقيين فرصتهم للانطلاق نحو العافية، تفاعلوا مع حفل للبهجة هو من أبسط لوازم العيش في أية مدينة.
قد تكون خليجي 25 بالنسبة للدول التي شاركت فيها مجرد بطولة كروية تتنافس للظفر بكأسها، لكنها تعني للعراقيين ما هو أبعد من ذلك. إنها بوابة للولوج إلى العالم من جديد، إشارة دالة إلى التعافي من آثار الخوف، والتعصب ضد الشركاء في الوطن، وضد الأخر البعيد. أن ترى -بعد سنوات طويلة من العزلة- سائحاً جاء يشاركك عرساً أنت من يقيمه، أناساً من بلدان مجاورة لا يبادلونك الشعور بالريبة والكراهية، تصادفهم بأريحية وهم يتجولون في شوارع مدينتك، في المطاعم، والمتنزهات، والمتاحف. ببساطة، كان البصريون، كسائر العراقيين يعبرون بطريقة رمزية عن رغبتهم باستعادة الروح المدينية التي أريد لها أن تبقى غائبة، وبرد الاعتبار لبغداد والبصرة والموصل، وسائر مدنهم الكبرى.
هتفت الجماهير باسم العراق وحده لأنها صارت تعي أن المسارات الصحيحة لا توفرها الطوائف، والقبائل، والمناطق، بل الدولة الوطنية التي تنشد الرفاهية والسلام، لأبنائها، ولجيرانها العرب، كما لإيران وتركيا، ودول العالم أجمع. فلا مصلحة للعراقيين في معاداة أحد. هل يبدو ذلك حلماً ساذجاً، تفكيراً طوباوياً؟ حسناً. دعكم من تجارب دول نتقاسم معها العيش في القارة ذاتها -ماليزيا مهاتير محمد مثلاً- والتي يتكرر ذكرها بوصفها نماذج للنهضة السريعة، ولحسن الأداء السياسي والاقتصادي. لنأخذ درساً من مثال أكثر قرباً جغرافياً، من الدولة التي حاز منتخبها على المركز الثاني في خليجي 25. أما أولئك الذين سيسارعون للقول بأن سلطنة عمان تختلف تماماً عن العراق، في التاريخ، والجغرافيا، والنسيج الاجتماعي فلهم تذكر مثال قريب زمنياً، مثال العراق نفسه، يوم كانت له دولة وطنية حقيقية، ورجال سياسة أكفاء، عملوا من أجل أوطانهم بجد ونزاهة، بلا مزايدات، ولا شعارات خاوية. للأسف. فرَّطنا بأسس تلك الدولة شيئاً فشيئاً، بالضبط منذ انقلاب العسكر في العام 1958، حتى آل بنا الحال إلى الاحتلال الأمريكي، ثم إلى قبضة قوى ما قبل الدولة. الطريق طويل وشائك، لكن النجاح ممكن لمن يريد.
أكتب هذه الكلمات على عجل، بواسطة الموبايل، قبل سبع ساعات من بدء المباراة الختامية، وربما سأعود لتحرير ما كتبت بعد انتهائها. أنا الذي لم أستجب لدعوات بعض الأصدقاء للكتابة منذ الأيام الأولى للبطولة. وقتها ذكَّرني واحد من الأحبة بالمقال الذي نشرته قبل شهر، في ذروة مونديال قطر: "كأس العالم المقدسة: كرة القدم بوصفها ديناً". قال: ما دمت قد كتبت عن كأس العالم، فستكتب حتماً عن كأس الخليج. لكن الكتابة لا تتم بشكل آلي. بالنسبة لي في الأقل. حماسة الخمسمئة ألف إنسان الذين بدأت الفضائيات تبث صوراً لهم هي التي استفزتني، جعلتني أكتب بسرعة، مثل لاعب كرة قدم يريد تسجيل هدف مصيري في الثانية الأخيرة. ألهمتني صورة فتاة شابة تحاول عبور سياج حديدي بأمل الوصول إلى الملعب، والأغاني الوطنية التي رددها أولئك الذين لم يجدوا مكاناً لأنفسهم، فانسحبوا بهدوء. بدأت الكتابة على الفور. شعرت لحظتها بأن العراق هو الفائز، حتى وإن خسر المباراة.
فاز منتخب العراق بالفعل، فكان الختام مسكاً. ولن يشعر البصريون بالغبن حين يعود السندباد "تعويذة البطولة" حاملاً الكأس الثمينة إلى مدينته الأثيرة، إلى بغداد، فهي عاصمتهم أيضاً. وربما سيرافقه بعض منهم ليقيموا كرنفالاً احتفالياً آخر. بعبارة ثانية، كانت رحلة السندباد الأخيرة -خلافاً لجميع رحلاته السابقة- رحلة داخلية سريعة. الأكثر أهمية أنها كانت ممتعة، ومفيدة لجميع العراقيين، والخليجيين أيضاً. ثمة بوادر طيبة، يمكن البناء عليها، وإن كانت متأخرة. مباركة هي الولادة عند فيِّ النخلة دائماً. بقي علينا أن نهزَّ جذعها فقط، لتساقط علينا أمناً وسلاماً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات