الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اضاءة على -قصة حبّ مجوسيّة-

ريتا عودة

2023 / 1 / 26
الادب والفن


قصة حبّ مجوسيّة/ عبد الرحمن منيف

يشكلّ عنوان الرّواية العتبة الأولى المثقلة بالدلالات والتي تمنح المتلقي رموزا لفكّ شيفرة النّصّ. من هنا، يطرح السؤال نفسه: لماذا أطلق الأديب "عبد الرحمن منيف" صفة المجوسيّة على قصة الحبّ التي رواها لنا؟

من هم المجوس؟

جاء في الكتاب المقدّس أنّ المجوس هم كهنة، حكماء وعلماء فلك. أتوا من المشرق عندما عرفوا بميلاد المسيح من ظهور نجم في السماء. تبعوه فقادهم إلى بيت لحم ليقدّموا الهدايا والسجود للطفل يسوع. كان ملوك الشرق يستعينون بالمجوس لإدارة شئون البلاد ولتفسير الأحلام. ( دائرة المعارف الكتابيّة ج7 ص 103)

من هنا يتّضح لنا أنّ بطل روايتنا في بحثه عن معشوقته ليليان تماهى مع أوجاع السيّد المسيح الذي سار في درب الآلام. بل، رأى أن عذابه في البحث عن معشوقته أكثر قساوة من عذاب السيّد المسيح:

"ما دمت سلكت طريق الجلجلة... لأنّي مسيح مجوسيّ يحترق آلاف المرّات كلّ ثانية. إنّ موت المخلّص كان موتا واحدا، أمّا أنا فقد متّ آلاف المرات، وما زلت أموت." ( ص63-64)

من هنا، تكتسب ليليان صفات القداسة، فهي لا تشبه النساء الأخريات ( ميرا، باولا، ورادميلا) اللاتي مرّرن في حياته وسلّمن أنفسهن له وحرّضنه على الخطيئة وهو يصفهن بالقطط الماكرة:

"أمّا أن تكون لي علاقات مع النّساء .. النّساء وحدهن ارتضين هذه العلاقات.. وارتضيتها"( ص 88). بعدما التقى بمعشوقته أنهى علاقته بهنّ وظلّت هي تراود أفكاره وأحلامه.

وهو يُطلق عليها صفات القداسة التي تصل إلى مرتبة الأنبياء لكي يميّزها عن النساء الملوثات بالخطيئة:

" أنتِ مقدّسة لدرجة لا يُمكن أن أقترب منكِ" (ص15)،

" قديستي" (ص31)، "القديسة" (ص46)، " تقدّمي ايّتها المعبودة" (ص 100)، " كانت يدها وهي تهزّ يدي تحمل ثقة الأنبياء وبسالتهم"(ص130)، "ليليان، العيون المليئة بالغفران والبهجة والعذاب والندم"(ص89).

ولأنّه يراها قديسّة فهو لا يشتهيها إنّما يحبّها بطهارة ويرفض أن يكفّ عن حبّها: " لم أشتهها يا أبانا ولم أفكّر بأيّ شيء مُلوَّث. أحبّ بطهارة وأريد أن أبقى طاهرًا" (8)، " روحي لا تعرف الخطيئة" (ص88)، "أفكاري نظيفة. لم أكن أفكّر بالمضاجعة، لم أفكّر أن تتحوّل هذه المرأة بين يديّ إلى رادميلا. كنت أريد أن المس يديها. أن أضع رأسي على حضنها وأغفو." (ص37)، " ليليان وحدها التي أريد. ولكن ايّ شيء أريد منها؟ تكفيني يدها. لو وضعت يدها على جبيني فسوف أكون أكثر فرحا من البشريّة كلّها"(ص51).

بطلنا يحذرنا ألاّ نربط حبّه لليليان بحاجته إلى عطف الأم. لقد حرم من عطف الأم وهو لم يتجاوز السادسة من عمره (ص22). لكنّه يؤكد لنا أنّ علاقته بليليان هي "جوهر الانسان.. هي الحبّ" (22)

بطل الرواية لا يحمل اسما شخصيًّا ربما لكونه يمثّل أيّ شخص فينا يحيا في بحثٍ مضنٍ عن حلم العشق.

قرر بطلنا أن يكتب روايته ليشفى من وجع الفقد "الألم يعتصر قلبي.. يبلغ حدًّا لا أستطيع احتماله.. الكلمات وسيلة لإنقاذي" (ص7)،

أمّا نحن المتلقون فقد جعلنا البطل شهودا على بحثه عن معشوقته وأطبّاء أو كهنة نستمع لاعترافه العشقيّ لكي نساعده على الشّفاء من أوجاعه:

"كما ان علم النفس المعاصر، بالضوء الخافت في غرفة الطبيب والمقعد الوثير الذي يستلقي عليه المريض، أوجد طريقا لإذابة العذاب تمهيدًا للشفاء. وأنتم، هل أنتم آباء الكنيسة أو أطبّاء نفسيون تتلقون الاعتراف؟" (ص10).

يستمر بحث بطل قصتنا عن معشوقته، القديسة ليليان منذ بداية الرواية حتى نهايتها ويجعلنا نتساءل أهي حقيقة أم وهم؟

" تقولون أحلام، مراهقة، حرمان، يمكن أن تقولوا ايّ شيء. ما أحسّه، حبًّا حقيقيًّا" (ص7)

أمّا صديقه الذي استمع إلى قصة حبّه المجوسي فقد حذّره:

"احرص على أن لا تتحدّث عن ذلك، مرّة أخرى خاصة مع غيري.... تمرّ على الإنسان حوادث كثيرة، والعاقل من يتخلّص من الأوهام بسرعة"(ص 8)، وكذلك: " إذا كنت تفكّر بهذا فانت لست حالما فقط، بل وتحبّ ان تعيش في الأوهام" (ص9).

بينما يؤكّد بطلنا أنّ قصة حبّه حقيقيّة: " ولكن ما أحسّ به ليس وهما. إنّه الحقيقة. إنّه أكثر واقعية من وجودنا، نحن الاثنين"

(ص 8).

ويظلّ يؤكّد لنا أنّ قصته حقيقيّة:

" ما كدت أراها حتّى ظننت انّي أعرفها منذ آلاف السنين. ليس ظنًّا ما أقوله لكم. إنّه الحقيقة. الحقيقة المطلقة الوحيدة"(ص12).

هي تستحوذ على أفكاره لدرجة الجنون: "المشاعر التي تسيطر عليّ حين أتذكّرها تجعلني أقرب إلى المجنون، والأوقات التي يمرّ فيها طيفها كثيرة لدرجة لا أستطيع أن اُفكّر بغيرها"(ص9). بينما نشهد نحن أنّ علاقتهما لم تتعدَ النظرات: "دامت النّظرة دهرا"(ص13)،"التقت عيوننا"(ص12)، " المرّة الثانية تلتقي عيوننا"(ص11)، "أغرقتني نظرتها"(ص13)، "حين أطلّتْ والتقت عيوننا ابتسمت"(ص59).

نعود ونتساءل: أكانت ليليان حقيقة أم وهم؟

" كنتُ أحلم بها طوال عمري. وكنت أراها مستحيلة"(ص17)

التقى بطل الرواية بليليان في الفندق الجبلي وقد كان مهموما:

" كنت افكّر بغموض، بذلك الهمّ الصغير الذي بدأ يغزو قلبي" (ص11). أحسّ بحاجة للعشق فرآها وألبسها ثوب المعشوقة:

"كنت في ذلك المنفى الجبليّ أشتاق لعناق رحيمن ليد صغيرة دافئة تقبض على يدي. كنت اريد عينين اذوب فيهما حتّى أتلاشى. وكانت هي"( ص37).

ليست ليليان وهما كما أوهمنا بطل القصّة عبر تقنيّة التشكيك المتواصل على طول الرواية. نحن كنّا شهودا على كونها حقيقة فقد رآها وتحدّث معها باقتضاب مرّتين. لكن العشق الذي حمله لها ظلّ في مرتبة الأحلام:

" كنت أنتظرك منذ آلاف السنين" (ص11)

ولأنّها (أنثى الحلم) التي صنعها خياله فقد ظلّ ينتظرها انتظارا يائسا: "الانتظار اليائس لإنسان لا يأتي"(ص114)، " اختفت ليليان. لمّا ابتعد القطار رأيتها حمامة صغيرة رماديّة، حمامة حقيقيّة تخفق بأجنحتها، لكن بحزن"(ص 132).

انقضت سنوات وهو ما زال يبحث عن "أنثى الحلم"، تلك القديسة المعبودة التي لا تشبه النساء اللاتي عاشرهن:

"ورغم الانتظار الطويل والانتظار الكثير فلم تأتِ"(ص137).

لأنّها "أنثى الحلم"، سيظلّ " قيس" روايتنا في انتظار "ليلاه". لذلك نلاحظ هذا اليقين أنها سوف يوما ما تأتي، ربما في شخصيّة أخرى، ليكتمل حلم العشق الذي يراوده:

"ما زالتْ ليليان شامخة، راكضة في ذاكرتي. تتسلق دمي في كلّ لحظة. تبكيني، تفرحني. إنّها تنتظرني في المحطة القادمة...في مكان ما تنتظر. سألتقي بها. بالتأكيد سألتقي بها!" ( ص 137).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي