الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحر وتموجات المعنى

طلال الغوّار

2023 / 1 / 27
الادب والفن


طلال الغوّار
امرأة تعرفت عليها في المطعم المطلّ على البحر, قالت انها تحبُّ الشعر بعد أن عرفتني شاعراً, فأهديتها أحد دواويني الذي كنت أحمله في حقيبتي وأصرّت أن أكتب اسمي وأترك توقيعي عليه, أخذته وهي فرحة حتى خلت الكتاب يرقص فرحاً بين أصابعها, تصفحته وتوقفت قليلاً عند بعض صفحاته ورفعت رأسها لتشرق ابتسامتها في وجهي, شكرتني وقالت سأقرأه بمحبة , ولمّا نزلنا على شاطئ البحر أنا وصديقي ونحن ننقل الخطى الوئيدة على الرمل الحار , رأيت المرأة نفسها تجلس على رمل الشاطئ وبين يديها ديواني وهي تقرأ قصائدي لأمواج البحر.
*
حين وضعت قدمي بماء البحر, أخذني اتساعه بعيداً حتى طرف الروح, وكأني أكتشف لأوّل مرّة فرحاً غامضاً تغمرني به زرقته اللامتناهية .
تقدمت بخطواتي نحو العمق وصديقي يتبعني متهيباً حتّى غمرنا الماء إلى حد العنق, فوجدتني أستحضر ذلك الصبي وهو يعوم مع أصحابه في نهر دجلة, ويتفنّن في طريقة السباحة حتَّى يصل إلى الضفة الثانية للنهر, لكن الإحساس هنا مختلف , فالنهر كان يتأنسن وتتأنسن معه الشطآن والحصى والصخور وأشجار الطرفة والصفصاف على ضفافه , كان بيني وبينها حوار ولغة مشتركه , ليس كما أرى البحر الآن في امتداده الغامض واتساعه المهيب .
*
أيها البحر ليتك تخبرني عن أيِّ حقيقة تخفيها في هذا الامتداد , أيها الغامض في تموّجات المعنى.
*
أنا وصديقي نستعيد حركات السباحة فنمضي نحو العمق بضعة امتار ثم نعود متعبين, نتوقف قليلاً كي نستعيد انفاسنا, حتى صارت الشمس عمودية , فيما البحر يستفزني بالذكرى مرّةً اخرى , شمسي تركتها هناك بعيداً ومنذ ستين عاماً, بين يدي بيتنا الطيني المطلّ على النهر, وكأني تركت شيئاً من روحي هناك .
لكنّ صوت طائر النورس أخرجني من قبضة الذكرى وهو يمرُّ فوقنا, قلت لصديقي انظر إلى هذا الطائر أنه يحمل البحر بين جناحية ويمضي بعيداً, قال ضاحكاً : أنتم الشعراء ترون أشياء لم نرها نحن .
*
جلستُ على رمل الشاطئ وتركتُ صديقي منشغلا ً بمشاهداته, فوجدتني بكلِّ هدوء أتصفّح موجات البحر مأخوذاً بهاجس التقصّي وكأني سمعت البحر يقول:
إن لم تقرأ أعماقي فلن تصل إلى نفسك وإن لم تتأمل سعتي لن تعرف للحرية معنى.
*
المرأة التي اهديتها ديواني , وجدتها تجلس إلى جانبي على رمل الشاطئ وقد القت بقدميها في الماء.
قالت:
كنت أقرأ قصائدكَ على موسيقى تعزفها أمواج البحر فشعرت كما لو أن الأمواج تتلاطم في أعماقي ,لكن موجةً خرجت من إحدى قصائدك وجرفتني إليك الآن .
أيُّ نافذة على المجهول فتحت لي قصائدكَ, كنت أبحث عن نفسي في قراءتها.
*
استوقفتني موجةٌ هاربة من قبضة البحر واثارت بي سؤالاً : لماذا تغذُّ شوقها لتلقي بنفسها في حضن الرمل مثل آهة ميّتة.

رمل الشاطئ يصغي صامتاً, فيما الموجة التي تداهمه بين الحين والآخر هي من تقرأ ما يخفيه هذا الصمت, هكذا تقرأ الطبيعة نفسها
*
لأمواج البحر تاريخ طويل من البكاء بين يدي الشاطئ,
الموجة رسالة البحر الى ضفافه
*
نهضتُ وناديت صديقي وسرنا عائدين بمحاذاة الأسرّة المرصوفة على الشاطئ وفوقها المظلّات الملّونة, حيث يستلقي عليها الكثير ممن انتهوا من السباحة في البحر للراحة, قال صديقي باستغراب :
الا ترى أن المستلقين على هذه الأسرّة اغلبهم من النساء!
الشاطئ يعجُّ برائحة الانوثة
للأنوثة شميم مثير
*
امرأة في الأربعين, تلقي بجسدها الممتلئ على الرمل ,إنها تتلذذّ بحرارته, وهي تعرض مفاتنها للبحر وتغري الموج بأنوثتها,.
خذها وضمّها إلى صدرك
أيها البحر
*
أغاني تتموج في تضاريس جسدها البض ,لكن لا يسمعها أحدٌ غير البحر .
*
حينما تتسلّق الأمواج قلاع أنوثتها, تغدو للروح وللجسد لغة واحدة
هكذا كان البحر يرى في ساقيها وسادة, يلقي برأسه عليها, حالماً بالضفاف البعيدة.
*
اسألي البحر لماذا انتابه الغضب, فأرسل موجة عاتية, حينما رأي جسدك يتحاور مع رمل الشاطئ
*
عدنا إلى المطعم المطلّ على البحر لتناول الغداء , كان سمكاً مشوياً, وأمامنا البحر المتناهي بزرقته الهادئة, وفي غفلة من صديقي أخذني البحر وسرت في مخيلتي على ساحله وكأني أقرا تاريخه بدءاً من طرطوس حتى وصلت إلى بيروت وواصلت سيري ,هذه عكا ثم حيفا ,كان الساحل السليب يمتدُّ بي حذراً, نظرت إلى الأعلى , كانت الغيوم مثقلة بالوجوم تمرُّ من فوقنا وكأنها تمطر اسئلةً لا اجوبة لها.
*
البحر بساط ازرق يمتدُّ حتى يمسك بطرف الأفق.
*
وأنا أستمتع بامتداد هذه الزرقة , تذكرت ما كنت اقرأه عن أولئك الذين يمشون فوق الماء من أجل الوصول إلى الله فامتلكتني رؤية المتصوف ,وكأني أتوحد مع هذا الاتساع, فخلت نفسي ماشياً على الماء لعلي أصل إلى المطلق.
*
هنا عند البحر, تجد للمدى صلة معك وهيمنة , فتكتشف أن لهذا الامتداد أبواب كثيرة لا يستطع أحد أن يكسر أقفالها ,إلا اذا ما آخيت روحك معه وأنت تعرف
كيف تقيم للحبّ عروشا ً في أعماقك , لا أحد يقتحمها إلا سواك.
*
أتأمّل موجة قادمة من العمق لتحتضن الشاطئ , فأحس وكان الحبَّ سحرٌ يوقظ الحياة فتشرع أبوابها لتحضن البهاء, حينها تمتزج ذكرى من أحب مع النشوة التي يولدها رقصة هذه الموجة.
*
مدى أزرق يمتد حتى يمسك بأطراف السماء المنحنية فتشعر وكأن العالم ليس إلا روحا ً هائمة على زرقته هذا السطح الفسيح.
. *
البحر بسعته الرهيبة يثير الحيرة فيك ويوقظ كثيراً من التساؤلات الوجودية, فيقفز في ذاكرتي بيتاً من الشعر :
(وتزعم أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الاكبرُ)
لا قيمة لهذا الوجود أو معنى بغير وجود هذا الإنسان ,هذا (الانسان – العالم ). الثقافة التي لا ترتكز على هذا المعنى تغدو عدوّاً للإنسان , فهو محور الكون وأرقى مخلوقاته, لكننا نراه اليوم في أغلب بلدان العالم , كيف يفجرون هذا الإنسان وتنتثر أشلاءه , يقطع رأسه بدم بارد وتفقأ عينه , ويداس رأسه بالبسطال وكأن الأمر طبيعيا كما لو أنك تقتلع نبتة أو تحطم حجراً.
*
غادرنا البحر وفي طريقنا إلى الفندق كانت الأشجار ترافقنا بمسرتها وغناءها الأخضر وحينما الوقت بدء يقترب للمغيب , و أخذ الغناء يتلاشى شيئاً فشيئاً, أحسست وكأني محملا بثقل الاسئلة التي أودعها البحر في رأسي, والتي أخشى أن تتحوّل إلى جراح.
*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة