الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (سماءٌ وسبعة بحور) للروائي ناجي الناجي: الفلسطيني اختصارها والتفاصيل في عالمها والعواصم للجرح

ناصر عطاالله

2023 / 1 / 27
الادب والفن



ابتعدت أم اقتربت من جغرافيا الحنين، تراك متورطًا إلى أبعادك كلها عندما تتناول عملاً أدبيًا لكاتب فلسطيني، فلا بد لك أن تتهيأ تمامًا للنكش، والتفتيش في جراحك؛ جراح المخيم، واللجوء، والوطن السليب، هذا إن كان المجاز قد استحضر على قصيدة شعر، أو قصة قصيرة، ولكن إن فتحت الجراح من بوابات الرواية السبعة يختلف المشهد كليًا، فعليك أن تنحي النفس عن كثير من العاطفة، وتتحمل خشونةً مست الروح، من فرط الحياد، إن كنت ستمسك بالرواية على مهلٍ دون تسريح لخيالك الذي يسرقك من واقعك المؤلم، والمكتوب روائيًا هنا، نعم في ( سماءٌ وسبعة بحور) للكاتب الفلسطيني ناجي الناجي.
منذ أن بلغ الحبر سيلانه، وهو يجاري نزف الدماء الطاهرة المراقة من أجل الحرية، ففي بيانٍ شعري مقتضب أشبه بمرثية مغلفة بإهداء إلى روح والد المؤلف (جمعة الناجي) تبدأ أسراب النوارس بالبحث عن سمائها فوق البحور السبعة، وزادها "المهجة و الفكرة والمسيرة" لنرى أول النداء قد أخفى جغرافيا الراوي تمامًا وهو يستقبل خبرًا سيعيد إليه الروح المتصالحة مع خياله الوسيع، ومخياله النضر لتطابقٍ اقترب من عين الحكاية كلها، نعم ينكسر قالب الجليد المسن في لحظة واحدة، ليتحرك البحّار لأول مرة منذ ولادته نحو وطنه المحتل، أو المستحيل قبل صدور تصريح الدخول، الأمر الذي لم يكن عاديًا ولا استثنائيًا بمفهوم المشاعر والأحاسيس بل كان معجزةً وجدت بقدرةٍ هائلة نسميها بعلم العقيدة ( القدر) القدر الذي يصنعه الله وحده، ولا أحد سواه، نعم الفلسطيني المولود في المنفى، سيدخل وطنه بعد سنوات كالسيوف هددت رقبته مرارًا، لينجو من أجل أن يدخل جنته بعد حرمانٍ غليظ كاد أن يكون مقبرة أمنياته، ومن شدة الصدمة الجميلة، راحت الروح المغتسلة بضوء الممكن الحسن، تفتح سيرة الراوي على مهلٍ من أول الحكاية.
البحر الأول.. سوريا، مخيم اليرموك، تتفتح زهرة الرغبة بالصبا على رائحة البارود، وشكل الخندق، والجيب العسكري، وبدلة الكاكي، وفكرة يمارسها الأب الفدائي ليجدها الابن مساره المرغوب، فيحاول أن يمشيه قبل أوانه، بالركض خلف الريح التي تحمل المسلح إلى أرض المعركة، ومن هنا أخذ الوعي يتدرب على رمال الزحف نحو الخلاص من المنفى، والرجوع إلى ما قبل النكبة، نكبة 1948م ليكون الوطن من حرير وسندس غناء، وبدون غرباء.
اللقطة الأولى.. الحدود الأردنية الفلسطينية، الجسر، المطار هنا يشير إلى أن الأردن ليست مكان إقامة بطل الرواية، وعلى الأغلب أن جغرافيا المنفى أبعد من الضفة الشرقية للوطن، وفي النبض مطبات هوائية، وفي النفس قلق خفي وظاهر فالقادم غير مختبر، وأن يرى المرء عدوه الذي تسبب في مأساته ، وقلع عائلته من أرضها، وتركها للتشرد، واللجوء، وفتح لولادة صوته الأول زلزالاً من قبل أن تطأ قدماه أرض الله، لهو أمر جلل، يحتاج إلى شجاعة نادرة، وجيش إطفاء ذو كفاءة عالية، لنيران ستشتعل عند النظرة الأولى وهي تهبط في عين الجندي أو المجندة الاحتلالية، هنا الكيمياء تتأجج، قد مر بها غالبية الكتّاب الفلسطينيين الذين سمحت لهم قوة الأمر الواقع بالدخول إلى وطنهم السليب، منهم مريد البرغوثي في روايته( رأيت رام الله) و فيصل حوراني في سرديته ( الحنين – حكاية عودة)، وكثير من الشعراء لم يتجاوزا نقطة العبور سواء جسر الكرامة شرقًا، أو معبر رفح جنوبًا، إلا وكان لهم فيها تحبيرٌ وتسطير صفحات، فهذا المشهد حاضرًا أدبيًا بعد اتفاقية أوسلو عام 1993م، ولكن التركيبة النفسية والمعنوية لكل كاتب تختلف عن زميله، وهنا بطل الرواية كان هادئًا تمامًا، ومطيعًا لزوجته التي اعتادت الدخول إلى الوطن عن طريق الجسر، وبحكم خبرتها ضبطت صاحبها الذي يخوض التجربة لأول مرة، فلم ينقل لنا الكثير عن فيض مشاعره، سوى القلق، والتوتر، وحكمه المستحكم بأن من يوقفه عدو، صاحب سلطة قاهرة، فألزم السطحي باللفظ، ليرفع حرف ( الخاء) كنايةً على لهجة المحتل، إلى مشتبك الحال الذي يعيشه في هذه اللحظات، حتى الأجوبة على الأسئلة العادية كان الرد عليها منوطًا بزوجته، كأنّه الماء الحلو الذي لا يختلط بالمالح البحري، كل ما يريده أن يترك هذا المكان بأسرع وقت ممكن ليدخل جنته الموعودة دون متاعب، وهذا ما حصل فعلاً.
البحر الثاني.. لبنان، مخيم عين الحلوة، يصحو زياد وهو بطل الرواية على أصوات متدافعة، صنعتها القذائف الإسرائيلية على بيروت في عام 1982م، مع صوت امرأة اسمها فاتن، زوجة مقاتل لم يتفرغ لها ليشهد قدوم وليده، فالوطن أولى، والحياة على مقصلة حادة، المرأة التي جاءها المخاض بفعل العدوان القاسي على المخيم كانت المدخل البديع للراوي ليأخذنا من خلالها إلى واحدة من محطات الثورة الفلسطينية، وينعش الذاكرة على جراح ما كادت لتندمل رغم أمواج الزمن، وتغيرات الحال بأزماته المتراكمات، هنا نعيش الألم بتفاصيله وعلى مراميه الموجعة، حتى مجزرتي صبرا وشاتيلا، وخروج الفدائيين من بيروت، وترك العلم الفلسطيني في جزر بشرية تعاني إلى اليوم من الحصار والحرمان.
اللقطة الثانية.. الطريق إلى رام الله، شاعرية الكاتب غلبت الراوي في المحطة الفضية الأولى لمشهد يعيشه بكل أحاسيسه ففقدنا الفارق الرفيع، والنحيف بين الكاتب، والرواي، وكأنّ الأخير تراجع خطوة إلى الخلف، لدهشة غير مألوفة أصابت الأول، فصار شاعرًا لا روائيًا، ولكن استخدامه لمصطلح ( النوستالجيا) كناية على ماسح العمر الأول لوالده وليس له، فهو لم يكن هنا يومًا لكي يعود إليه بالحنين، ولأنه بارعٌ في استخدام الذات الشاعرية في مقامات الدهشة، اعتبر نفسه أنه هو كل الحقيقة، وأن الحنين كثيف وموروث مطلق، فذهب إلى مخياله الخصب ليؤكد أن الولادة خارج الوطن لا تعني شيئًا أمام الانتماء للماضي المتأصل في عائلته، وعرق أجداده على جذع الزيتون، وحراسة الضوء من بئر كانت منتعشة بالأحلام.
في هذه اللقطات تغلب نبرات الوطنية، وتزداد نبضات القلب الذي أتعبه الفؤاد المرير على مسرح الحنين المفتوح على كل وجهة معكوسة سوى العودة إلى الوطن، حتى ولو كانت عودة مؤقتة، هي معجزة، ومن تصيبه معجزة يعيشها خارج الراتب، والمتواتر الاعتيادي، حالة لا تشبهها غير انزياح الفاجعة عن رأس المفجوع قبل وقوعها بثواني فقط، هوس جميل، إبداع مختلف تمارسه الحواس، وحدس تنبت له ألف عين وأذن، وشعور تتصلب على خشبته كل لغات الدنيا، هنا فقط يصير العائد إلى وطنه كل الوطن.
البحر الثالث.. قبرص، نيقوسيا، يفتح الراوي لبطله زياد نافذة غير صغيرة تطل على عالمٍ موجوع بتفاصيله، ما كان ليكون لولا احتلال فلسطين، وهو الأسر والمعتقلات، والزنازين، والإبعاد عن الوطن، وهنا يجيد الكاتب صياغة هذا الألم،
من قلب لجوء ثانٍ يكابد اللجوء الأول، بما لا تستسيغه النفس، ولو كانت حفيدة الجبال الراسخات، ما أصعب أن يكون الفلسطيني ( أبو قيس): مطاردة، واعتقال لأكثر من نصف العمر، ونفي لما تبقى منه، عذابٌ لو كان له لسانٌ ما تحمل الوجود السمع، وما تحملته قلوب البشر.
ولباقي البحور السبعةِ حكايات متروكة للقارئ حيث يجد في الشطآن رمالاً تشرب المالح فوق الجراح، ولا يغيب الماضي النظيف من المحتل ليعيده الكاتب بحرفية صافية، فالبلاد الطيبة قبل النكبة وما قبلها بقليل كانت ككف عروس بحناءٍ معطر ومزركش بأجمل الخيوط والطيور، كانت بلاد الزمان المتمم لمعاني الحياة الكريمة، منذ أن استيقظ التاريخ، وشرب قهوته، وهو يطل ويطرب على أمواج بحر يافا، والفلسطيني يعاني من أطماع الأخرين في ما بين يديه، ويسجل خطواته بالدم في سجلات الطرقات الوعرة، حتى خروجه من وطنه مشردًا بعد كل مجزرة، وبعضه بقي قابضًا على قلبه، وماشيًا على جمرة المحاولة.
وناجي الناجي أو زياد البطل في المنافي، متروك الصراحة بالاسم في الوطن العائد إليه، دلالة على أنّ العائد كل فلسطيني مثله يعبر الجسر أو يمر إلى بيته الكبير من المنافذ المتاحة، والراوي لم يغشه في أي محطة كان فيها، سواءً في دمشق، أو بيروت، أو نيقوسيا، أو صوفيا، أو بودابست، أو براغ، أو تونس، أو القاهرة، أو عمان، بل كان الراوي الأمين على صياغة الرحلة الأهم في تاريخ البطل، من جسر العبور إلى أريحا، ومن ثم إلى رام الله، وجنين، ونابلس، والخليل، وبيت لحم، والقدس، ويافا مرورًا غير مريح على أوجاع غليظة أوجدها الاستيطان الخبيث فوق أراضي الأهل والقبيلة، ولكي يبقى الوطن بكامله أمام الراوي، كانت غزة حاضرة بشجونها وأشجانها، وأوجاعها التي يفتحها العدو في جسدها مع كل عدوان دموي، من قصص أليمة استحضرها الكاتب من باب الأمانة الوطنية، ليجعل اللوحة الفلسطينية أمام العالم بكل نزفها ونزيفها حاضرة.
سماءٌ وسبعة بحور، نعم.. رواية ولكنّها حكاية كل من يقرأ الصليب لا المسيح، والجمر لا الرماد، والعاصفة لا البحر، حكاية كل فلسطيني في أي أرض كان؛ تصوغه أقداره، ويحمل وطنه النازف في داخله، ويمشي به في طريق المعاناة، وربما الصفحة الأخيرة في الرواية، التي أٌقرت على العائد إلى وطنه بعد ميلاد قسري خارجه، أن يعود عن عودته المؤقتة إلى منفاه، هذه الصفحة اختصرت الكلام إلى مفيده، وسحبت على الفلسطيني كل أمنياته :
" لا تقلق، إما ستنصلح السيارة، أو سنحدق في عيونهم
وإن تأخر إصلاح السيارة؟!
نعود أدراجنا ونأتي في يوم آخر
وقفنا خارج السيارة
رنونا إلى السماء
كان الغسق يطل برأسه بين سحب متباعدة
ويرسم بشعاعه بحرًا، ونهرًا، ورابية.
وبي يقين في ما كتبه أن ليس للفلسطيني مهما طالت غربته إلا فلسطين.
الرواية صادرة عن دار ابن رشد، وكلاء وناشرون، في عام 2020م، بغلاف للفنانة الفلسطينية رانية الخطيب، تفتحت أحداثها على سيرة شبه ذاتيه، ورحلة تناولتها العواصم في 206 صفحة من القطع المتوسط، بلغة غلبت عليها شاعرية الكاتب، وإن توقفت في بعض مرابعها للبيان معتمدة على لغة الإحصاء والأرقام، والرواية لم تنزاح ميلٍ عن الحقيقة الدامغة التي يؤمن بها كل فلسطيني حر، وهي " الشتات مرحلة والعودة حقيقة".
وناجي الناجي كاتب فلسطيني من مواليد اللجوء، عاشه بكل قسوته، ولكنه هزمه بإرادته مستمدًا من سيرة والده المناضل والسفير جمعة الناجي، سيوفًا بتارة للقهر، فكان خير سلف لخير خلف يواظب على المسير نحو الحلم الخالد، وهو اليوم دبلوماسي ناشط وحيوي في سفارة فلسطين في القاهرة، وقاص بدرجة فنان وكاتب مسرح لم تخنه "قيثارة الرخام" ولا " زعتر قرمزي" وإذاعي ثقافي باهر، رصد المتاح من الثقافة الوطنية، وأعاد ترويجها بإبداعه، ولأن (سماءٌ وسبعة بحور) روايته الأولى حول الفلسطيني المتمم لكل تفاصيل الوجع، لا بد أن يكون لعمله الأدبي القادم عوالم مختلفة، وربما أعمق بتفاصيلها، وخوارزمياتها.
وقبل أن أغادر مطالعتي المتواضعة للراوية، بقيت أًصوات آلات الموسيقا فيها تعزف لحنها الأجمل من الربابة، والأرغول، والعود، والكمنجة، والقيثارة، حتى البيانو كأنني أنهيت القراءة، وبدأت منصتًا لغنائية لا تنتهي، في جو يجعلني قارعًا لأجراس عودتي مع الكل الفلسطيني إلى وطني.
كل الأماني الطيبات للصديق المبدع ناجي الناجي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة