الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النائحات

بديع الالوسي

2023 / 2 / 2
الادب والفن


في صباح يوم خريفي من عام 1942.. وبينما (رومينيو) يفتح الستائر والشباك، رأى راية الصليب المعقوف، قد علقت على بناية التجارة المقابلة إلى بيته. قال: أي فأل سيئ... فهو يعرف كل المثقفين الإيطاليين أن الحرب المستعرة ستستمر، ولا من أمل لنهايتها، ربما لهذا صار يفكر جاداً ببيع لوحة النائحات، والهروب إلى أمريكا، بالرغم من أن حبيبته تعده من الفنانين المهمين في مدينته. حذره من البوليس، جعله يدعو صديقتهم فريدريكا أن تأتي في العاشرة صباحاً مع زوجها وابنتها لشرب القهوة في بيته.
سقوط حزمة الضوء على اللوحة، التي في غرفة الجد، أجبرت رومينيو أن يعيد التأمل بها ويتفحصها من جديد، مندهشاً مثل كل مرة، بعيون النساء الثلاثة النائحات، وهنّ يصرخن في ذلك العراء الموحش.
كانت أمه في الحمام، حين حضرت عائلة السيد (اولفر). وما أن فتح الباب، حتى قدمت له ابنتهم (راسيل) باقة من الورد.. وما أن أخذها منها شاكراً، حتى وضعها على تلك المنضدة، التي أحيطت بأربعة كراسي، وكانت مغطاة بشرشف فستقي اللون ومطرز بزهور ناعمة. بعدها التفت إليهم فوجدهم مترددين، توقفوا للحظات قبل أن يدخلوا إلى الصالون، وكانوا حذرين من اتساخ السجادة الكاشان الفارسية، التي كست نصف أرضية الصالة. وبينما كانت فردريكا تنظر إلى المرآة الكبيرة المعلقة فوق المدخنة، بادرت بالقول: كم أنها جميلة بإطارها الذهبي! في حين ظل اولفر صامتاً، ينظر إلى الراديو الأسود المركون على الرف الحديدي، وفجأة وبلا مقدمات قال لمضيفه: هل من أخبار جديدة؟ وقبل أن يجيبه، أطال النظر بوجه رومينيو ذي السحنة السمراء بشعره الحليق، معتقداً بأنه تجاوز الأربعين، لكنه في الحقيقة لم يتجاوز الخامسة الثلاثين. وبينما هما يتحدثان عن تزايد أعداد القتلى في جبهات القتال، رنت الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط، في ذا الأثناء جلست راسيل، وعينها شاخصة إلى تلك الخزانة المتوسطة الحجم، وتساءلت: لماذا نقش عليها تنينان متقابلان!؟ وقبل أن تتلقى جواباً على سؤالها الذي ظل معلقاً في الهواء.. سمع رومينيو أمه تقول بصوت عال: لماذا لا تحضر لهم الحلوى مع القهوة أيها البليد!؟ وما أن فعل ذلك؛ حتى ذهب وجلب اللوحة، التي لم يتجاوز حجمها النصف متر مربع مع إطارها الخشبي المزخرف. حينها رفعت فريدريكا بصرها قليلاً متأملة تلك الثُريا التي تتوسط الصالون. في حين ظل رومينو واقفاً عند النافذة، يتلصص على المارة والأشجار التي نفضت أوراقها، بعدها تقدم نحوهم وكان أكثرهم فكاهة ووداعة، وهو يلامس بأنامله اللوحة، مما حدا بهم أن يتناسوا مواجع الحرب، لينصب حديثهم عن هذه اللوحة، من دون أن يصدق أحد منهم ما سيقوله: إنها تعود إلى القرن السابع عشر، وقت أحدثت الرومانتيكية ثورة على القيم الفنية الكلاسيكية. وظلت الأم ترقب ما يحدث، على الرغم من كل هواجسها، وتخوفها على ابنها، لكنها حافظت على مزاجها الطيب طوال هذا النهار، خاصةً عندما سمعت فريدريكا وهي تكيل المديح للوحة: أحسُ أن الرسام كان رحيماً وبارعاَ حين تمكن من تحويل العويل إلى جمال لمقاومة الحرب بكل فواجعها..
ورداً على فريديكا قالت الأم: بصراحة، لا أحد يعرف كيف أو متى وصلت هذه اللوحة النادرة إلى بيت جدنا الأعلى، ولكن تناهت الاخبار إلى مسمعي أنه اشتراها من أكبر تجار صقلية قبل الحرب الكونية الأولي، ويقال إنها سرقت من متحف (إلينا) الذي يطلق عليه العامة منزل الإشراق والإضاءة. كانت فريديكا متلهفة للمس اللوحة بيدها، لكن زوجها اولفر كان ينظر لكل هذه التفاصيل ببرود. أما الصبية راسيل، فاقتربت من اللوحة وراحت تتمعن بزاويتها اليمنى، محدقة بتلك طفلة المفجوعة وهي ترفع يديها إلى السماء. في هذه اللحظة النادرة، عبرت راسيل عن مواجعها: آه، عالم بلا رحمة.
التفت إليها الجميع، دون أن يعلق أحد على كلامها. ربما لأنهم كانوا منشغلي الذهن بالذهاب إلى صلاة القداس، ولكن قبل ساعة من ذلك، تجرأ رومينيو بالحديث عن سعر اللوحات وارتفاع ثمنها مع تقادم الزمن، مُطمئناً فريديركَ بأن هذه اللوحة ستكون أفضل صفقة رابحة في حياتها. كلامهُ شجعها لتأمل فضاء اللوحة من جديد، مؤكدةً على أن أكثر ما يدهشها بهده اللوحة، تلك العتمة التي ألقت بظلالها على النسوة الموشحات بالسواد، ورؤيتها لذلك البصيص من النور خلف النائحات، الذي أعطى أملاً زاخراً بالحياة والولادة أيضاً. فطال الحديث بينهم حول جماليات اللوحة، أما أولفر فقد ظل صامتاً وكأن الأمر لا يعنيه، حتى أن رومينيو تنبه لذلك، فقال له مبتسماً: تمتع باللحظة يا عزيزي فلستم مجبرين على شراء اللوحة. أسهب رومينيو بكلام كثير، لكنه أخفى عنهم بأنه ربما سيتمكن من بيع اللوحة إلى تاجر فرنسي، بعدها سيتم نقلها إلى باريس وبيعها هناك بعشرة أضعاف سعرها. مع ذلك واصل حديثه، ولم يدخر جهداً في ترغيبهم بشرائها لغاية في نفسه، فراح يؤسطر لهم أهميتها، سارداً عليهم تفاصيل تلك القذيفة التي هدمت الجزء الأكبر من دارهم، وكيف أنه ترك كلّ شيء وركض لغرفة جده لينقذ هذه اللوحة التي بقيت صامدة ومعلقة على الحائط. وبعد أن أسرهم بكل ذلك، عاد وأردف قائلاً: لولا رحمة الرب لضاعت أهم مقتنيات جدي... اللعنة على الحرب. حاول بكل السبل أن يغريهم، عسى أن يقدموا على الخطوة الحاسمة. فكان يتحدث بثقة مطلقة مؤكداً لهم: إن قيمتها أكبر من ذلك بكثير، مشيراً إلى تلك القطعة النحاسية الصغيرة المثبتة بإحكام على الإطار خلف اللوحة. بعد أن التقط أنفاسه عاد ليقول بلا تردد: هل تعرفون أهمية هذه الأرقام، إنها تؤهل اللوحة لتدخل في أي متحف، إنها تشير إلى عظمة هذه اللوحة وفرادتها.
في ذا الأثناء سحبت فريدريكا الشال إلى صدرها وقالت:
ـ هي بالفعل تحفة نادرة.
وصمتت، ظناً منها بأن زوجها سيوافق على رأيها، لكنه باغتها بكلام جعلها في حيرة من أمرها:
ـ صيح كل ما تقولونه، ولكن من يجرؤ على شرائها؟
فردت ابنتهم:
ـ لم لا.. أليس لكل حاجة ثمن؟
عاد ريمينيو وفتح الشباك على مصراعيه، فبدأت الشمس تشع بدفئها على الصالة وعلى جزء من اللوحة، كان الجميع ينعمون بهذا اللقاء الدافئ، ما عدا اولفر الذي أخرج ورقة وصار يخطط عليها طلاسم غامضة، أقواساً ونجوماً وكلمات مبهمة، ما أن رأت راسيل ذلك حتى قالت ضاحكةً: يمكنك الانتماء لمنظمة المنجمين يا أبي.
ما كانت الصبية تدري، أن الأب كان يفعل كل ذلك لتفادي لحظة الانفعال التي قد تنتهي بزجر زوجته بكلمات نابية، أما فريدريكا فلم تبالِ بهواجس زوجها وكانت مشغولة بتوزيع الابتسامات بين الحين والآخر، علها تحصل على لحظة يكون فيها التفاوض إيجابياً وناجحاً. وأثناء لحظات الحوار، وجواباً على سؤال راسيل: فيما إذا كانت اللوحة تحمل روحاً!؟
أجابتها أمها بهدوء عجيب:
ـ ربما، ولكني أعتقد أنها تحمل أسرارها معها.
نهضت أم رومينيو بعد أن سحبت نفساً عميقاً، وقبل أن تنسحب إلى المطبخ، هجس في نفسها هذا الشعور الغامض، الذي أسرته لأبنها فيما بعد: إن هذه اللوحة ستكون سبباً في خراب هذه العائلة. كانت ملامح فريدريكا تشي بقلق وتردد، مع ذلك أغمضت عينيها كي لا تتقاطع نظراتها مع نظرات زوجها، التي كانت تحذرها من التمادي، ربما لذلك قالت: من سيتمكن من شرائها؟
ابتسم الزوج معتبراً تساؤلها يضمر نصراً صغيراً لصالحه، لذا مال بوجهه نحو رومينيو في محاولة لقطع طريق التفاوض معه، قال ببرود:
- نعم، هذا واضح، من أنها تحفة نادرة تليق ببيوت الأثرياء والمحبين للفن الرفيع.
مكتفياً بهذا القول، من دون أن يصرح بكل الهواجس الأخرى، من مثل أن الشائعات التي تحوم حول هذه اللوحة والمتمثلة بسرقتها من المتحف في زمن الفوضى، قد تخلق مخاوف مبررة لكل من يريد اقتناءها، وتجعله يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على مثل هذه الخطوة وما تحمله من مغامرة. طال الحديث فيما بينهم، وفجأة سألت فريدريكا:
ـ هل صحيح أن الموسيقار جورجنيو قد هاجر قبل أربعة أيام؟
ـ نعم صحيح هذا، وحذا حذوه النحات ميكائيلو البارحة.
ما كان يحزن رومينيو هو تردد صديقته، فإن لم تقم بشراء هذه اللوحة، التي كان يعدها ثروة وطنية، فهنالك احتمال كبير بأنها ستهرب إلى أية عاصمة عالمية، أو من يدري فقد يستحوذ عليها الجستابو، وينقلونها معهم إلى أحد متاحف برلين. لهذا كان مسك ختام الحديث بينهم، أن اتفقوا جميعاً على أنها تحفة قيمة ويجب الحفاظ عليها بكل طريقة ممكنة، باستثناء راسيل التي ظلت فاغرة الفم، غير مصدقة تصرف ارمينيو، وتخليه بهذه البساطة عن لوحته النادرة. لذا قالت له وهي تشير إلى اللوحة:
- هل تحبها؟
ـ نعم، لكنها أصبحت ضمن إرث العائلة، لذا أنا وأختي قررنا بيعها.
فردت عليه بعفويتها المعهودة:
- لا تبعها يا عم.
نهض الزوج تاركاً زوجته تثرثر مع الآخرين، ومن خلال الشباك، صار يرقب الغيوم الرمادية وهي تحاول أن تحجب الشمس، وابتسم لرؤية قطة فوق السياج تحاول الهرب من كلب شرس.. ولم يلبث أن التفت حال سماعه صوت راسيل:
- أني حزينة على مصير هذه اللوحة، حظاً رائعاً يا أمي أن نقتنيها.
هذه الجملة الأخيرة أثارة قلق الأب، أراد أن يردع ابنته بأية وسيلة، لكنه اكتفى بأن جلس على المنضدة وأخذ يعصر أصابعه التي كانت تحدث طقطقة. وما زاد من مأساته كلمات زوجته التي أشرق ذهنها بفكرة جديدة كحلٍّ لمحنة هذه اللوحة المغرية، إذ قالت بصوت متزن وهي تنظر إلى رومينيو:
ـ سأشتريها منك، إذا أصبح التخلص منها حلاً لمشكلتك.
كلماتها الأخيرة جعلته اكثر فرحاً، انفتحت أساريره، وابتسم، وصار يكيل المديح لها جزافاً، حتى أن فريدريكا أحست بالضجر، لكنها على الرغم من ذلك كانت تحاول الإصغاء لكلامه وهو يقول بحماس:
- قد لا تصدقون إن قلت لكم، في كل يوم كانت أمي، تفتح باب وشبابيك غرفة جدي، من الحادية عشر حتى الثانية عشر، لا لتهويها من الرطوبة أبداً.. بل لمجرد ان تسقط أشعة الشمس على اللوحة، ولا تكتفي بذلك بل تقف أمامها وتصلي بخشوع، كأنها تقف أمام السيدة العذراء وتطلب منها المغفرة والرحمة لكل النساء المظلومات، وأكثر ما كان يدهشها هو ذلك الحزن العميق في ملامح وعيون النسوة النائحات، وأظن بأنها بقدر ما كانت تضرع لهن، فإنها قد كانت تدعو الرب وترجوه أن يمحق الرجال الحمقى! توقف للحظة.. وكأنه تذكر شيئاً، فأردف قائلاً:
- بالمناسبة، لا يفوتني أن أخبركم، إن أبي قد فكر قبل موته أن يبيع هذه اللوحة، لكن أمي حذرته مؤكدةً أن الشمس ستغيب عن دارنا وستطالنا الكوارث إن فعلت ذلك، وهذا أحد الاسباب التي جعلتني إلى اليوم أتردد في بيعها.. كلامه عن اللوحة بهذه الطريقة جعل فريدريكا تشفق عليه، وتبتسم في وجهه وتمازحه:
- لا تقلق يا عزيزي، فإذا بعتها لي بالسعر الذي يرضيني، سأسمح لك برؤيتها متى تشاء..
ما إن عادت الأم من المطبخ؛ حتى نظر لها الجميع، من دون أن يعرف أحد منهم، ما الذي كان يدور في رأسها، ولماذا اتجهت إلى اللوحة مباشرة، وحملتها معها لتعيدها إلى مكانها الحقيقي في غرفة الجد.. غيابها عن الصالة، سمح لابنها أن يتفاوض بأريحية وهدوء. في ذا الأثناء كانت الزوجة تطالب رومينيو بتحديد السعر، فرد عليها زوجها متسائلاً بتعجب:
- من أين لك بثمنها!؟
ــ لا تشغل بالك.. عندي ما يكفي من الذهب.
امتقع وجه اولفر لردها المباغت، وبانت على محياه علامات التوتر، ليست لأنها حسمت أمرها بهذا الشكل الفجّ، بل لأنها لم تضع له اعتباراً أو تأخذ رأيه على الأقل، مع ذلك بلع الإهانة وتجاوز حالة الغضب كي لا يحدث مشكلة معها، وقرر في نفسه أن يعاتبها لاحقاً، ويخبرها بأنه لا يحق لها أن تتصرف بالذهب كما يحلو لها، كونه رصيدهم الوحيد الذي ادّخروه ليضمن لهم عيشاً آمناً في هذا الزمن المضطرب. ربما لهذا اقترب من زوجته وقال لها همساً: ليس من الحكمة أن تنفقي كل ما ندخر بمغامرة طائشة. لكنها، وبدل أن تجيبه؛ التفتت وابتسمت بوجه رومينيو وهي تقول له:
- إن الحرب الملعونة تطالنا جميعاً، لذا أعتقد أن التفاوض في هكذا ظروف عصيبة، يحتاج لمزيد من التريث وبعض التنازلات.
أحسّ رومينيو بامتعاض الزوج فأراد أن يخفف وطأة ذلك الامتعاض البادي على تقاسيم وجهه، اقترب منه وأعطاه سجاراً كوبياً، أخذها منه، مردداً ونفسه: ليس من اللياقة أن أظهر حقدي عليها الآن، فصار يلهو بالدخان، بعد أن أولع السجار، موقناً بأن الهدوء والسكينة هما السبيل الأسلم، كي لا ينفجر ويرتكب حماقة قد يندم عليها لاحقاً. مع ذلك وجد في صمت الجميع، فرصة سانحة لترتب كلماته، عله بذلك يعيد للزوجة رشدها ويجعلها تفكر على نحو متزن، فقال بهدوء:
- باستطاعتنا أن نحلم مثلما نشاء، ولكن علينا أن نعرف كيف نتعامل مع الواقع. صمت لبرهة ثم أردف:
- اللعنة على الحرب، كونها تزجّنا في مواقف لا نحسد عليها.
فردت عليه فريدريكا، متسائلة:
- هل حقاً أن الحرب سبب كل مشاكلنا؟
تساؤلها أعقبه صمت طويل، تخللته جملة مخاوف دارت في رؤوسهم، جعلت هذا اللقاء أشبه بذكرى لا تنسى، سوف تلاحقهم لسنوات طويلة. مر الوقت بسرعة، ولكن قبل أن تحين ساعة الانصراف، حدث شيء ما أخر مغادرتهم، إذ كانوا جميعاً يصغون بمزاج طيب لموسيقى شوبان، حتى جاء تصريح اولفر ليعدهم ويذكرهم بأهوال الحرب:
ـ كنا في أيام السلم نأكل بعضنا بعضاً، فما بالكم ونحن نعيش اليوم في زمن الحرب والموت والخوف!!
خطر ببال رومينيو أن يحكي لهم بعض المشاهد التي عاشها كجندي في جبهات القتال، وكيف كانت السماء تمطرهم رصاصاً وقذائف، كادت تقتله لمرات عديدة، ولا يعرف كيف أنه شفي بأعجوبة من ذلك الجرح الذي أصابه في رأسه، ولا يدري الى الآن؛ لماذا كانت لحظات الألم تذكره بلوحة النائحات؟ لكنه يتذكر كيف أن فترة العلاج التي دامت لشهور كانت فرصة ذهبية ليحسم أمره ويقرر ما يجب فعله في قادم الأيام لتصحيح المسار، متجاوزاً محن الحرب بكل مآسيها، مانحاً نفسه فرصة أن يعيش الحياة كما يريد، حتى ولو كلفه ذلك أن يهاجر بعيداً واتخاذ ذلك المكان وطناً بديلاً.. فكر بكل ذلك، لكنه لم يفصح عن أفكاره تلك وظل صامتا.. إلى أن نطقت فريدريكا بهذه الجملة: وماذا عن الخنادق؟ هنا أصابت القشعريرة جسد رومينيو، فأخذ يسرد لهم بإسهاب وقائع وفاة أعز أصدقائه، وكيف أنه لم يجد لجثته من قبر ليدفنه فيه، بسبب شدة المعركة التي استمرت لخمسة أيام متتالية..
شعور اولفر بالملل؛ جعله ينظر إلى ساعته، حال سماعه لناقوس الكنيسة معلناً عن بدء الصلاة، كانوا جميعاً يحسون بجوع خفيف، لكنهم فضلوا احترام تلك الطقوس الدينية، التي لطالما أشعرتهم بالأمان والألفة كأبناء حقيقيين للسيد المسيح.

في ذا الأثناء، وبما أن الكنيسة ليست ببعيدة، لذا قررت الأم الذهاب معهم، لتلتقي بنساء مسكينات فقدن أشخاصاً أعزاء على قلوبهن، وقد تسنح الفرصة والحديث عن غلاء المعيشة.
نهض الجميع إلا أن راسيل رفضت الذهاب معهم مفضلة العودة إلى بيتهم وقضاء بقية النهار للهو مع الأرانب، خشية أن يصيبهن أي مكروه فيسبب لها ألماً مبرحاً.
خرجوا تاركين اللوحة، دون أن يعرفوا أي مصير ينتظرها، اقتربت راسيل من أمها وقالت لها بهمس: إني أكره رائحة الكنيسة.
ـ أرجوك يا ابنتي، لا تعكري يومنا الجميل.
أخذوا الطريق المختصر مروراً ببائع الخضار، الذي ضحك وهو يقول لهم بنبرة مزاح:
ـ انتبهوا لصحتكم، إن الكنيسة خدعتني طوال حياتي..
سلكوا الطريق الترابي، كانت العجوز تمسك بيد راسيل وتثرثر معها عما جال في خاطرها، وما تركت الحرب في نفسها من أثر غائر لا يمحى.
بينما كان الآخرون يسيرون خلفهما، صدح صوت فريدريكا: هل صحيح أن جدك كان يحمل اللوحة معه أينما يسافر؟
وجد رومينيو فرصة لكي يثير انتباههم، فصار يسرد لهم تفاصيل لا يعرفها الغرباء، عما حدث لأبيه قبل اندلاع الحرب، وكيف أنه اتجه إلى غرفة جدي ليأخذ قيلولته، كان الشباك مفتوحاً على مصراعيه، فهبّ صارخاً بأعلى صوته، مما دعاني أن أركض إليه، متوقعاً أن مكروهاً ما أصابه، وجدته واقفاً مضطرب الملامح، صارخاً بذلك السؤال:
ـ يا إلهي، كيف سرقوا منا أعز ما نملك؟
ـ لا أدري، ولا أعلم كيف سنتصرف الآن؟
صار يصرخ كالمجنون، في ذا الأثناء دخلت أمي وهي تضحك مرددة:
ـ هون عليك أنا السارقة أنا السارقة.
قالت فريدريكا: وماذا فعل أبوك؟
ـ ارتمى على أقرب كرسي، وصار يضحك كطفل وجد لعبته المفقودة.
لكني قلت لأمي:
ـ كاد يموت أبي بسكته دماغية بسبب هذا المزاح غير المبرر.
كان لرومينيو هدف واحد هو أن تتعلق فريديركا أكثر وأكثر باللوحة، لذلك قال لها:
ـ في الحريق الذي طال بيتنا قبل عشر سنوات كادت ألسنة النار تحيل اللوحة إلى رماد.
وما إن سمعت بعبارته الأخيرة حتى قالت له بارتباك:
ـ أي فأل سيئ، الحمد للرب أنها ما زالت بيننا.
وقبل أن يدخلوا إلى الكنيسة قال رومينيو:
ـ سأترك لك وقتاً للتفكير لمدة ثلاثة أيام، فليس لدي ما أملكه سوى هذه اللوحة، التي آمل أن تنقذني، وأحقّق حلم السفر، وأظنك أكثر الناس تفهمن ما أقصد؟
ردت عليه بعبارة توحي أنها لم تحسم أمرها بعد:
ـ لدي متسع من الوقت، أطمئن، سأفكر بهدوء بكل ما تحدثنا به.
ما أن دخلوا الكنيسة، حتى وجدوا الراهب مسترسلاً بسرد قصة عن السيد المسيح، الذي ركب البحر وحال تجاوزه المخاطر، رفع كفيه متضرعاً إلى السماء، يا رب الكون كن رحيماً بنا.
ما أن سمع رومينو تضرعات الراهب حتى جال بخاطره: يا إلهي ماذا ينتظرني، هل سأتحول بنظر أمي الى إنسان جاحد!؟
أما اولفر فقد خاطب الرب في سره: يا أبانا الذي في السماء، ماذا بإمكاني أن أفعل؟
في حين كانت الأم العجوز، قد ذرفت دمعتين غير مصدقة اختفاء اللوحة من حياتها وإلى الأبد..
في نهاية القداس، أدارت الصبية راسيل رأسها نحو لوحة العذراء، غير مدركة كل هذه الحماقات التي ترتكب، لهذا التفتت إلى أمها لتقول لها بصوت مسموع: من أطلق على هذه اللوحة تسمية (أيها النائحات.. متى تهجع الحرب؟)..

2022 / 10 /15








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس