الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا جابر الحال

فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)

2023 / 2 / 2
الادب والفن


مرّة أخرى، أمام بناية المغازة الكبيرة، من هذا الشارع العريض، تقع عيناي على من لا يستحي من هؤلاء الذين أكلوا لحومنا نيّئة فطابت في أفواههم .. ومرّة أخرى أجدني مدفوعا إلى دقّ عنقه بقبضة يديّ هاتين وضربه بردائي الصيفي على وجهه ثمّ أصيح فيه: «أيّها الغشّاش!» ولكن يهزّني ضميري فأضغط على نفسي وأعيق إرادتي .. لم يجبرني أحد على اقتناء هذه القطعة من القماش حتّى يفور دمي هكذا .. هو تاجر وجد في غفلتي سبيلا لخداعي فاغتنمها وضيّعتُ، أنا، دينارا بكامله نتيجة لذلك .. كانت طريقة عرضه مغرية جدا، ورغبتي في الانسلاخ عن ثوبي الصوفي دغدغتني فاتّجهتُ إليه أساومه .. و كنت أظنّني فزت حين أسقطت من سعره الحقيقي خمسة دنانير ولمّا تقدّمتُ قليلا وجدتُ مثله عند غيره بأقلّ ممّا وصلتُ إليه بدينار .. وكان من الممكن أن أتحصّل عليه بأقلّ من ذلك بكثير .. سرتُ متحسّرا بخطى متثاقلة وقلبي مغتاظ ممّا حدث .. ردائي الصيفي على كتفي وأنا أرشق بنظراتي الباردة الأجناس المختلفة من العباد الذين كان يمتلئ بهم الشارع الرئيسي .. أحسّ كأنّ أعينهم تستشفّ حمقي وتقرأ من خلال حركاتي أفكاري الموبوءة...
للشارع الرئيسي باب، وعلى الباب عسس بعدد الخطوات التي أنتزعها منه على طوله.. مدرّبون، يحدّون جانبيه لكي لا يسقط أحد في البحر .. فهذا الشارع يُفضي بنا إلى البحر ..
الطقس حار .. حارّ جدّا .. ولا نسيم تهوية تمتصّ إفرازات جسديّة ذات رائحة كريهة وتُبرّد أعصابي التي تكاد تنفلت منّي .. كنت أمشي وأحاذر كي لا أضارّ .. أصوات تأتي من هنا، وأصوات تأتي من هناك ...
«NO SUN .. NO MOON ! NO MORN .. NO EARTHLY VIEW ! NO DISTANCE LOOKING BLUE»(*)
«يا حبيبي أين تمضي النسمات ...»
اختلطت الكلمات في أذني ولم أستطع القبض على شيء منها، مهما حاولتُ .. ولم أستطع أن أعطي لكلّ أغنية ما تستحقّه من مكانة واهتمام .. أغان واعية وغير واعية تصدر من أكشاك أصحابها يجهلون محتواها .. «يا جابر الحال!» .. بقيتُ في حيرتي فانسحبتُ إلى هذا الرجل الممدّد قرب الكاتدرائية يستجدي الحسنات وهو يتزحزح على بطنه كالدابة طلبا للعطف .. وأسلوبا للحياة..
الجوّ خانق وقد ازداد تأثير ما وضعته على جلدي عليّ فأكاد انسلخ عنه من فرط الحرارة .. وهذا الشخص الممدّد يتدثّر بأغطية صوفيّة! ياه! كيف استطاع تحمّل ذلك؟! لولا أنّي على يقين من كوني لن أستشعر فرقا واضحا بين ما أرتديه والثوب الصيفي الذي اقتنيته، بعد الذي كان، لكنت انزويتُ في ركن قصيّ وغيّرتُ ملابسي، فتخفّفتُ بهذا القميص الذي هو الآن على كتفي .. «يا جابر الحال!» يُكرّر السائل صيحته .. ولمّا قاربته ولم يبق بيني وبينه سوى خطوات قلائل .. أنساني عطيّته ما لاح لي من منظر مخزٍ ومقرف .. طفل صغير الوجه، قصير اليد، ذو ملابس عمل بيضاء ملوّثة بالدهن الأسود، يحمل على متن راحتي يديه الاثنتين عشرة أحزمة من الورق العادي، تتموّج أمامه فيسندها بصدره وطرفا من ذقنه، بجانبه، كان يسير رجل يرتدي بزّة أنيقة وربطة عنق جميلة، وقد كان يحمل بيمناه حزمتين من مثل ما كان يحمله الطفل .. يسرّ الرجل من حين لآخر في أذن الصبيّ كلمات وكأنّه يتوارى بذلك من لعنات المارّة ودهشة سائحين قد جلسا على مقعد خشبي، يتابعانه بأعينهما ولم يتحوّلا عنه لحظة واحدة .. دفعتني روح المواطنة إلى أن أسارع لمساعدة الصبيّ فأضع عنه وزره الذي أثقل صدره أمام مرأى الرجل حتّى أحسّسه بقبيح فعله وأحقّره أمام نفسه .. أيّ أجر يجعلنا ننسى حقيقة أمرنا، فنكلّف الأجير ما لا طاقة له به؟
تحرّكتُ بسرعة، وأنا أدير في مخيّلتي الأسلوب الذي سأعتمده لإثارة الرجل، وأتخيّل ردّة فعله .. رأيتهما قد مالا قليلا ناحية اليسار ثمّ توقّفا بجانب السياج الحديدي الذي كان يُطوّق الزهور البلديّة ويحميها من عبث الأيدي .. ومدّ الطفل رجله اليمنى فارتكز على حافة السياج مُكوّنا بفخذه زاوية قائمة وضع عليها حمله ثمّ أخذ الحزمتين من يد الرجل وشكره! أي نعم، لقد شكرته أنا أيضا في سرّي تكفيرا عن سوء ظنّي .. لقد اهتزّت جوارحي كلّها متمنّية لو أنّ الأفئدة المؤصدة أعيد فتحها، والعيون التي أبصرت من غير تيقّن تبدّد جهلها فأدركت حقيقة ما جرى .. ففي هذا الشارع لا يمكن أن يخطئ أهله أبدا .. لا يمكن أن تتلاشى طيبة نفوسهم حتّى تتصوّر ما لا يمكن أن يحدث .. بلدي بخير، وأهل بلدي أطيب من الطيّبين أنفسهم .. وشعرتُ في زحمة خواطري تلك بجاذبيّة تسحبني إلى الخلف .. التفتُ إلى الوراء، فكان أن أصابتني دهشة تيبّست خلالها أعصابي وتصلّبت شرايين يدي بشدّة تشدّ إليها الرداء الملقي فوق كتفي ..
- «ما الذي تفعله أيّها الرجل؟ أتريد أن تفتكّ ردائي عنوة؟ وفي وضح النهار؟! يقينا أنّك لا تريد ممازحتي فصورتك لم تمرّ بذاكرتي مطلقا».
قلتُ ذلك للرجل الذي كان يجذب بجهله ثوبي فيكاد يسقطني أرضا، فيجيبني بوقاحة غير معهودة:
- «أطلق يدك و دعني آخذ هذا الرداء.»
يا الله ما هذا الاستفزاز! و هذا شرطي يثير أعصابي يقول لي:
- «اتركه له فها أنا معك.»
- «هذا لي فلماذا لا يتركه هو وأنت معي!!»
أردّ بعصبيّة فيبرز لي بطاقته المهنية: «الشرطة البلديّة» ويأخذه منّي .. ثمّ يبدأ في خطّ كلمات أعطاني إياها وهو يقول:
- «عندما تدفع هذه الخطيّة ستأخذ بضاعتك.»
- «بضاعتي! أنا لستُ تاجرا جوّالا أبيع أدباشي لمن هبّ ودبّ .. هذا ردائي اشتريته بأغلى من ثمنه وأنا متطيّر به فحرام أن تزيدوا على كاهلي أكثر ممّا هو عليه .. هذا ظلم والله.»
ابتسما وقالا بلسان واحد:
- «إذن ، لك الله سينصفك إن كنت مظلوما.»
ثمّ انصرفا .. فيما بقيتُ، أنا، أنظر إلى الورقة التي تُمسكها يدي .. إنّها أثقل من قطعة القماش التي افتكّوها منّي، في هذا اليوم الحارّ، وفي هذا الشارع العريض الذي يحدّه العسس من اليمين ومن اليسار .. وعدتُ أسمع صوت السائل وهو يستجدي الغادين والرائحين .. «يا جابر الحال!» .. فردّدتُ دون أن أشعر: «يا جابر الحال!» .. «يا جابر الحال!»
_________
(*) "لا شمس .. لا قمر .. لا صباح ..لا مساء ..لا سماء .. لا أيّة منظر ولا مسافة تظهر زرقاء" للشاعر الأنقليزي توماس هود : 1799-1845








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال