الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من ذاكرة طفل عن فاجعة 8 شباط 1963

لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)

2023 / 2 / 7
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كان اليوم جمعة وكان الوقت صباحا نتناول الفطورحينما نادى جيراننا من حديقتهم المجاورة ان انقلابا قوميا قد وقع على الزعيم فركضنا جميعا الى الراديو لنستمع الى أناشيد مصرية لم نسمعها من قبل " الله واكبر الله واكبر الخ النشيد" تلاه أعادة قراءة بيان رقم 1 صادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة الملئ بالتوعد بالقضاء على الشعوبية والقاسميين وأعداء الأمة العربية المعادين للوحدة العربية. ‍بعد دقائق جاء جيراننا الأخر وأخبرنا ان التلفزيون بدء بالبث وتجمعنا حوله ورأينا المذيعة الوطنية ، المعروفة لعائلتنا، تسكن جنب بيت خالتي وهي من عائلة مسيحية وطنية حتى اني رأيتها مرة عندهم ، كانت تلقي البيان ودموعها على مآقيها وبالكاد تتفوه بالكلمات مثل " الحكم القاسمي " ، فهي اعتادت القول "الحكم الوطني " ، والواضح انهم أجبروها بقوة السلاح على ذلك، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي رأيناها، فقد هربت مع عائلتها الى الشمال ،كما اخبرتنا خالتي. وبدأت أختي الكبيرة بالبكاء فور رؤية المذيعة على هذه الحال، وحاول والدي ان يطمئنها ان الزعيم والشعب أقوى من القوى القومية الرجعية وانه سيقضي عليهم خلال ساعات، وكذلك صرح أخي الكبير ، بقينا مشدوهين ومشدودين والدماء متجمدة في عروقنا ننتظر مالذي سيحدث.حتى جاء الى بيتنا جارنا الاخر ، صديق اخي الكبير، حطاب ، الموظف في مديرية الطابو، ليطمئننا ان الشعب قد خرج بالجموع ومن كل احياء بغداد الى وزارة الدفاع وسيسقط الأنقلاب وهو ذاهب الى هناك، وفورا انضم اليه أخي الكبير ولم تنجح محاولات والدتي بثنيه الا بعد وعده بانه سيلجأ الى بيت جدي ،الكائن في الدربونة المقابلة لوزارة الدفاع، خلف وزارة الثقافة حينها ، في حالة وقوع أي حادث وهذا هو ماجرى ، حيث أستشهد حطاب ببطولة حينما واجه مع الالاف من المواطنين العزل دبابات كانت ترفع صورة الزعيم لخداعهم ثم شقت طريقها بينهم وبدأت بالتصويب الى وزارة الدفاع ،مقر الزعيم، واحاطت بها الجماهير واوقفوها باجسامهم وبرمي الطابوق، وسقط العشرات بل والمئات من القتلى من رمي الدوشكات ، ونجى أخي باعجوبة ولاذ الى بيت جدي.
خلال ظهر وعصر ذلك اليوم كنا نرى الطائرات تقصف الوزارة من موقع قريب على بيتنا من على نهر دجلة وبقينا طوال اليوم بين الوجوم والأنتظار ، مترقبين لخبر اسقاط الأنقلاب الذي لم يأت، ولم نحصل على اية اخبار أخرى غير مايذيعه الأنقلابيون عبرالراديو والتلفزيون ، وتوالت منها خبر اغتيال العقيد جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية ومرافق الزعيم العقيد وصفي طاهر وبيانات تصفية جيوب الشعوبيينوالقاسميين ،أي الوطنيين العراقيين ، المناوئين لسيطرة عبد الناصرعلى العراق بأسم الوحدة العربية. وهكذا مضى اليوم الى ساعة متأخرة من الليل ،حيث وصلنا خبر من سائق اسعاف جارا لجدي ان اخي سالما وهو امن في بيت جدي.
ولم نربعدها الزعيم بوجهه المشرق المبتسم والمتفائل الذي اعتدنا عليه الا في اليوم التالي على شاشة التلفزيون مقتولا مرميا على الأرض وجندي قذر يمسك بشعر رأسه يهزه يمينا ويسارا.
كانت كل البيوت في شارعنا تنحب داخل غرفها ، وفعلا خلال اسبوع تم اعتقال ّ8 من شارعنا فقط من ابنائها وست بتول وكانت مدرسة متوسطة في الاعظمية ،ومن الثمانية منهم مدرسان استاذ صاحب في الفيزياء واساتذ ناجي رياضيات ، وجيراننا الاخر طالب كلية الهندسة ، والاخر موظف اسمه ابو كريم في وزارة الخارجية واخرين ، هذا في شارع واحد يضم قرابة 15 بيتا.
اعود لذلك اليوم 8 شباط ، في البداية كانت تصلنا اخبار المقاومة من الأحياء الشعبية في بغداد ، خصوصا في الكسرة والكاظمية وعكد الأكراد والسباع والصدرية وابو سيفين ، وكانت املنا، ولكنها هي ايضا توقفت بعد يومين، وعلمنا من جدي الذي ذهب ليطمئن على صديقه في الصدرية ان القتلى كانوا بالمئات فيها وفي عكد الاكراد.
منذ ذلك اليوم بقيت صورة الزعيم وهذه الفاجعة في قلبي وانا في الصف الخامس الأبتدائي ولازالت ليومنا هذا لاتفارقني وهي تقول لي ولكل من عاش أرهاب تلك الأيام وقبلها وبعدها ان كل بعثي هو قاتل وسافل بطبيعته البشرية،وهو ناتج ربما من تلك الوحشية التي رأيتهم يتعاملون بها مع اناس طيبين ومثقفين ووطنيين نعرفهم من خلال عوائلنا وقاموا بسجنهم او تعذيبهم بشكل وحشي وبدم بارد ، حيث قتل وسجن وعذب الالاف من الوطنيين العراقيين ، أغلبهم من المثقفين والطبقة الوسطى ، الذين رفضوا عبد الناصركونهم وطنيين عراقيين، وهؤلاء ليسوا فقط شيوعيين كما يظن البعض، اغلبهم وطنيين مثقفين ومن اصدقاء والدي ( كان الناس يميزون الوطنيين ، ويدعون وطنيا كل من تراه يحمل كتابا او جريدة فيدعوه اوطنيا ، وكل من تراه شقاوة سايح بالشوارع ومن لاعبي الدومنة والعدوانية يسمونهم قوميين أي من جماعة ناصر وعفلق). عندما كبرت لم يغادرني هذا الشعور بدونية البعثيين، ربما كونه فطري من الطفولة لما رايته وتركته اعمالهم في، وهذا اوقعني بمأزق عدة مرات عندما كبرت والتقيت ببعض الاخوان الطيبين مثل الصديق علي كريم سعيد " أبو فراس " ومحمود شمسة وغيرهم ، كانوا بعثيين ،ولكن اكتشفت انهم طيبين ووطنيين وهذا ادهشني ، ربما انهم لم يكونوا حرس قومي كما عرفت منهم بل مجرد امنوا بالوحدة والقومية العربية وجلهم طبعا ادان وترك البعث بعد 8 شباط) ، ولكن هذا الشعور لم يفارقني لليوم وكأنه منقوش في ذاكرة الطفولة ، انه ناتج من تلك الأهوال التي رأيتها وعشت تفاصيلها عن تصفية عشرات المثقفين والوطنيين من اصدقاء والدي واخي وخالي واختي الكبيرة ( لم يعتقلوها ولكن اعتقلوا ست بيتول صديقتها ، وقاموا بتعذيبها باعقاب السجائر ، كما رأيته على ذراعها عندما اطلقوا سراحها وزارتنا، ونحن في مجتمع شرقي، وقالت كن خمسة عذبوهن بنفس الطريقة، لا لشيئ الا كونهن وطنيات مثقفات عراقيات يرفضن ضم العراق ليكون تحت عبد الناصر وعفلق وهن مع مع الجميع ، مع طنية العراق .
لم تفارق العراقيين صورة الزعيم العراقية الوطنية الطيبة البشوشة المتسامحة لأشهر بعد الانقلاب، واعتقد الكثير منهم وحتى لسنوات انه كان حيا يرزق وسيعود يوما ما لتصفية البعثيين والقتلة والشقاوات والجلادين وبعضهم رأى صورته في القمر، و لكنه اذ لم يعد بعدها يوما، بقي عند الجميع في قلوبهم وعقولهم رمزا شامخا للوطنية للعراقية ،ورمزا لبساطة الانسان الوطني وطيبته ،كما بقيت معهم صورة البعثيين عصابات أغتيالات وجهلة وشقاوات وقتلة وامن ومخابرات.
اتى الحرس القومي لبيتنا ليلا بعد ثلاثة أيام من الانقلاب ، بملابسهم المدنية وهم يوجهون الرشاشات الينا جميعا وقاموا بتفتيش الدار فلم يجدوا في مكتبة والدي غير كتبا عامة وروايات، واعداد من جريدة الأهالي القديمة كان والدي يحتفظ بها وله مقالات فيها، كونه من جماعة الجادرجي ، وكذلك اعداد قديمة من جريدة الرأي العام للجواهري الذي سماها احد الحراس القوميين "هذي جرايد القواد القاسمي" أي يقصد الجواهري، ولم يأسروا غير اخي الكبير ، ونقلوه بعد شهرين الى النادي الأولمبي ،في ساحة عنتر والقريب على بيتنا ، وذلك بعد وساطات والدي، وحتى سمح لي بأخذ الطعام له مرة في اليوم ، الى الطابق الثاني المكتظ بالمئات جالسين على الأرض، ولا اعرف كيف امكنهم التنفس . وصادف احداها يوم 3 تموز ، يوم حركة العريف حسن سريع ، وسألني احد الحراس البعثيين عند خروجي على باب النادي ،بعد ان فتش السفرطاس الفارغ : هل اخوك شيوعي ؟ اجبته " لا، انه وطني "، هل تحب الأتحاد السوفياتي ؟ " يمكن ايطاليا أحسن"، فبادرني " امشي منا قبل ما أدفرك ، كلكم إنغولة ".
منذ تلك الأيام ولليوم لم يسترجع العراقيين اية طمأنينة ولا امان ولم يروا في بلدهم غير الشقاء الذي جلبه لهم عبد الناصر بانهاء دولتهم الوطنية مرتين، الاولى عام 1958 بانهاء الملكية الوطنية ، والثانية عام 1963 على يده والعصابات البعثية، بانهاء الجمهورية الوطنية للزعيم عبد الكريم قاسم، ومنذ هذا الانقلاب الدموي الناصري العفلقي بدء تدمير الهوية الوطنية العراقية والدولة الوطنية العراقية ، ومنذ ذلك اليوم استمر تدميرهما والى هذا اليوم ولم يتعافى العراق بعدها ، هذه هي 8 شباط 1963.
د. لبيب سلطان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستشرق إسرائيلي يرفع الكوفية: أنا فلسطيني والقدس لنا | #السؤ


.. رئيسة جامعة كولومبيا.. أكاديمية أميركية من أصول مصرية في عين




.. فخ أميركي جديد لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة؟ | #التاسعة


.. أين مقر حماس الجديد؟ الحركة ورحلة العواصم الثلاث.. القصة الك




.. مستشفى الأمل يعيد تشغيل قسم الطوارئ والولادة وأقسام العمليات