الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سمو عاطفة الحب في ظلال الحضارة العربية

صبري فوزي أبوحسين

2023 / 2 / 7
الادب والفن


هَيْمنةُ عاطفةِ الحُبِّ في التُّراثِ العَرَبِيِّ
-------------------------------
العرب من أرقِّ الناسِ أفئدةً، يعيشون أغلب حياتِهم في حالةٍ من الحب المتنوع حِسِّيةً وعُذْريةً، فعلاً وانفعالًا، تأثرًا وتأثيرًا، ولهم فيه تجارب سلوكية ونتاجات أدبية وعلمية خاصة ومُعبِّرة؛ فقد تَغَنّوا بالجمال البشري، وأظهروا الشوق إلى المحبوب، وأعلنوا عن الشكوى من فِراقه والبُعد عنه، عبر أدبيات مأثورة سامقة صادقة، واقعية أو مُتَخَيَّلة؛ فقد تفننوا في تصوير هذه العاطفة الإنسانية الفطرية الإيجابية: عاطفة الحب، وشعور العلاقة بين المحبين والمتصافين، في بوحهم الشعري، وسردهم النثري، وتآليفهم العلمية، بل وفي خطابهم الديني الشرعي الوسطي الإنساني النبيل المستنير! ... والأدلة على هيمنة تلك العاطفة على الجنس العربي في تراثهم كثيرة ومتنوعة، منها:
١اشتمال الشعر العربي في كل أعصاره، منذ بدايته
------------------------------
الجاهلية إلى الآن، على التعبير عن عاطفة الحب، سواء في مقدمات القصائد، أو في قصائد كاملة، بل وفي دواوين كاملة، ومن أسْيَر الأشعار الغَزَلية وأشهرِها قول امرئ القيس من معلقته:
أَغَرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبـكِ قاتِلِـي
وأنـَّكِ مهمـا تأمـُري القلـبَ يفعـلِ
والقول المنسوب إلى عنترة بن شداد:
لو كان قلبي معي ما اخترتُ غَيْرَكمُ
ولا رَضِيتُ سواكم في الهوَى بدلا
وهذا سيدنا كعب بن زهير يبدأ قصيدته البردة أمام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله:
بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
مُتَيَّمٌ إثرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وقد عرف شعراء عرب بتخصصهم في الشعر العاطفي مثل امرئ القيس ووعمر بن أبي ربيعة، والبهاء زهير، ونزار قباني، وغيرهم.
٢قصص الحب العذرية الذائعة عند العرب؛
------------------------------
فهي دليل سردي ساحر على ذلك، حيث قصص ثنائيات الحب العذري البدوي الصافي بين: عنترة وعبلة، وعروة بن حزام وعفراء، وقيس بن الملوح وليلى، وجميل وبُثينة، وكُثَيِّر وعَزة، وقيس بن ذريح ولُبنى، وتَوبة وليلى الأخيلية، وابن زيدون وولادة بنت المستكفي، وأبو العتاهية وعتبة... وغيرهم من الشعراء الذين حفظت دواوين العرب الغزلية الرومانسية هيامهم بالمحبوبة وولعهم بذكرها وتخليدها في أشعارهم بالإفصاح عن محبيهم وذكر أحوالهم، وأحوال من يحبون، إما باسمه أو وسمه. مثل قول جميل بثينة:
وما ذكَرتْك النفسُ يا بُثَينُ مرةً
من الدهرِ إلا كادتِ النفسُ تتلفُ
وقول كُثير عزة:
خليليَّ هذا ربعُ عُزَّة َفاعقلا
قلوصيكُما ثمّ ابكيا حيثُ حلَّتِ
وقول قيس ليلى:
وأما مِن هوَى ليلَى وتَرْكي
زيارتَها فإني لا أتوبُ
وقول ابن زيدون مخاطبًا ولادة بنت المستكفي:
بِنْتُم وبنَّا فما ابتلَّتْ جوانِحُنا
شوقًا إليكم ولا جَفّتْ مآقينا
٣ الموقف الإسلامي الشرعي المنضبط المستنير من عاطفة الحب:
------------------------------
فمن الثابت أنه ليس عند علماء الإسلام حرَج في الحديث عن الحب و العلاقات الرومانسية بين الذكر والأنثى، بطَيَّب الكلام ورقيق الأخبار، في إطار العلاقات الجائزة والحلال شرعًا وقانونًا وعُرْفًا؛ حيث يقررون أن الحب ليس بمستنكر ولا حرام في التنزيل العزيز، ولا بمحظور في الشرع الحنيف الجميل! وأصدق دليل على ذلك أن الإمام البخاري بَوَّبَ بابًا في صحيحه سماه "باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوج بريرة"، وأورد حديثًا عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: "أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مُغيث، كأني أنظر إليه يطوفُ خلفَها يبكي ودموعُه تسيلُ على لِحيته فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -لعباس: "يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك! قالت: يا رسول الله تأمرني؟! قال: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه"، وقرر شُرَّاح هذا الحديث أنه لا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها: ظهر ذلك أو خفي"، قال الإمام ابن القيم تعليقًا على هذا الحديث: "فهذه شفاعةٌ من سيد الشفعاء من محب إلى محبوبه، وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجرًا عند الله؛ فهي تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله، ولهذا كان أحب شيء إلى إبليس وجنوده التفريق بين هذين المحبوبين"... وكان السلف الصالح ينظرون إلى أمر المشاعر البشرية على كونها مما فطر الله العباد عليه، حتى إن بعض الفقهاء والأدباء كانوا يستفتحون كتبهم بحمد الله على الحب والظفَرِ بالمحبوب، كما قال ابن أبي حجلة في مطلع "ديوان الصبابة": "الحمد لله الذي جعل للعاشقين بأحكام الغرام رضا، وحبب إليهم الموت في حب من يهوونه!"، وكما قال ابن القيم في مقدمة "روضة المحبين": "الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثارًا لطلبها وتحصيلاً!...
٤كثرة مرافات كلمة الحب في المعجم العربي:
------------------------------
كثرة أسماء الشيء عند العرب تدل على شرفه عندهم، وتعلُّقهم به في قلوبهم، وقد اشتد هيامهم بالحب وعَظُم ميلهم إليه فأكثروا من اتخاذ الأسماء له، ووسّعوا واستفاضوا في استخدام مرادفات الحب حتى بلغت مرادفاتها قريبًا من ستين اسمًا، منها "المحبة، الهوى، الصبوة، الصبابة، الشغف، الوجد، الكَلَف، التيمم، العشق، الجَوى، الشوق، الشجن، الحنين، اللوعة، الخُلة، الغرام، الهيام، الوَلَه....إلخ
٥ كثرة المؤلفات العربية المستقلة في الحب:
------------------------------
من يفتح كتب الببليوجرافيا الخاصة بالتراث العربي المدون يلحظ أن فقهاء الإسلام ألّفوا في الحب والمحبة والغرام والعشق والولَه، وأوردوا لذلك القصص وضربوا الأمثال وشحنوا كتب اللغة والتفسير وشروحات الحديث النبوي بهذه الحكايات، فليس الحبُّ في التراث العربي حِكرًا على كتب الأدباء كـ "الأغاني" للأصفهاني أو "العقد الفريد" لابن عبد ربه؛ فقد ألّف فيه فقهاء كبار وأئمة من أرباب المذاهب مؤلفات مستقلة، والدليل على ذلك أن المؤرخ أبا الحسن المسعودي(ت346هـ) حصر عددًا من الذين تناولوا أمر الحب في أول ثلاثمئة عام من تاريخ الإسلام في كتابه(مروج الذهب ومعادن الجوهر), فكان منهم المسلم والمجوسي والمتكلم والفيلسوف والمتكلم والفقيه والأديب، مما يدل على أن هذه الظاهرة اشترك فيها الناس جميعًا في المجتمع العربي، مهما كانت توجهاتهم وميولهم! بل كان لهم تجارب أدبية وكتب فيما يسمى الحب الإلهي، حيث يرى أئمة التصوف أن المحبّة أكمل مقامات العارفين … وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين...حتى قالت العارفة العاشقة رابعة العدوية:
عرفْتُ الهوى مُذْ عرفتُ هواكا وأغلقتُ قلبي عمَّن سِواكا
ومن بواكير التأليف العربي في الحب والعلاقات الرومانسية رسالة الجاحظ(ت255ه) في النساء والعشق، التي ذكر فيها أن الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمَدًا على فراشِه، وأنه ليس كل حُبٍّ يُسمَّى عشقًا، وإنما العشق اسمٌ للفاضل عن ذلك المقدار، وغير ذلك من التحاليل الجاحظية العميقة في هذه الرسالة، حول موضوع الحب وحالات المحبين!
ومن أعمق الكتابات العربية وأدقها وأكثرها تأثيرًا على مستوى العالم كتاب "طوقُ الحمامةِ في الأُلفة والأُلاف" للإمام الفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي(ت456هـ)، وهو كتاب فريد في بابه، يمثل رؤية أحد فقهاء الأمة الكبار في عاطفة الحب، وقد وصفه مؤرخو الأدب الأندلسي بأنه أدق وأعمق ما كتب العربُ في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، بمنظور فقهي وفكري شامل، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العديد من اللغات العالمية، ويذكر أستاذي الدكتور عبد الحليم عويس أن الإمام ابن حزم قدم للحضارتين الإنسانية والإسلامية نظرية جديدة حول «الحب» من الوجهتين النفسية والاجتماعية. ويرى محقق الكتاب الدكتور الطاهر مكي أنه أروع كتاب درسَ الحب في العصر الوسيط في الشرق والغرب، في العالمين الإسلامي والمسيحي، على السواء! وهو كتاب يدل على وجود مجتمع تألف من خليط من الأجناس والأديان واللغات والطبقات المختلفة، استطاعت أن تتعايش في سِلْم وأُلفة ومحبة، وتمكنت من إنتاج حياة رغيدة راقية، في ظلال الحكم العربي والإسلامي، في الأندلس ذلك الفردوس العربي المفقود!
وللإمام ابن قيم الجوزية(ت751هـ)، الملقب بطبيب القلوب، كتابان معروفان في الحديث الحب: الأول كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين)، الذي قال في مقدمته: هذا الكتاب يصلح لسائر طبقات الناس؛ فإنه يصلح عونًا على الدين وعلى الدنيا، ومَرقاةً للذة العاجلة ولذة العقبى، وفيه من ذكر أقسام المحبة و أحكامها ومتعلقاتها، وصحيحها وفاسدها، وآفاتها وغوائلها، وأسبابها وموانعها، وما يناسب ذلك من نُكَتٍ تفسيرية، وأحاديث نبوية، ومسائل فقهية، وآثار سلفية، وشواهد شعرية، ووقائع كونية، ما يكون ممتعًا لقارئه، مُرَوِّحًا للناظر فيه، فإن شاء أوسعه جدًّا وأعطاه ترغيبًا وترهيبًا، وإن شاء أخذ من هَزْلِه ومُلَحه نصيبًا، فتارةً يُضحكه وتارةً يُبكيه، وطورًا يُبعده من أسباب اللذة الفانيةِ، وطورًا يُرغِّبه فيها ويُدنِيه؛ فإن شئت وجدته واعظًا ناصحًا، وإن شئت وجدته بنصيبِك من اللذةِ والشهوةِ ووصلِ الحبيب مسامحًا، ..."، والكتاب الثاني للإمام ابن القيم كتاب ذائع شائع بعنوان (الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، وقد عالج فيه آفات النفس الأمَّارة بالسوء، مظهرًا عيوبها وزلاتها، ومبينًا سلطة الشهوات عليها، ومحذرًا من مكايد الشيطان وحِيَلِه في إيقاع النفس بالمعاصي والذنوب، والركون للحياة الدنيا وزينتها، لاسيما في مجال الحب والتعبير عن علاقاته! فيما يمكن أن نسميه علم النفس العربي الإسلامي...
وهذا الفقيه المغربي الحنبلي ابن أبي حجلة(ت776هـ)، وكان معاصرًا لابن القيم! يؤلف كتابًا بعنوان (ديوان الصبابة) وقد بدأه بمقدمة مسجوعة، وجعله على مقدمة وثلاثين بابًا وخاتمة. قال في التعريف به: "كتاب حوى أخبار من قتلهم الهوى وسار بهم في الحب كل مذهب، وتركهم الهوى كهشيم المحتظر، وأصبحوا من علة الجوى على قسمين، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ما بين قتيل وشهيد وشقي وسعيد على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم وتباين مراتبهم وأحوالهم وغير ذلك مما تصبح به أوراقه يانعة الثمر وتمسي به صفحاته في كل ناحية من وجهها قمر فإذا نظرت إلى الوجود بأسره شاهدت كل الكائنات ملاحًا... ومن مؤلفات علمائنا في العصر العثماني كتاب "تزيين الأسواق في أخبار العشاق" للطبيب الأديب داود بن عمر الأنطاكي(ت1008هـ).
ومن أبرز الكتابات العاطفية في العصر الحديث كتابات الأستاذ مصطفى صادق الرافعي(ت1937ه) في تاليفه: (حديث القمر)، و(السحاب الأحمر)، و (أوراق الورد)، و(رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب)، هذا إضافة إلى دواوين الشاعر الرومانسي الكبير نزار قباني(ت1998م): (قالت لي السمراء)، (الرسم بالكلمات)، و(سامبا)، و(أنت لي)، و(حبيبتي)...وغيرها من الدواوين العاطفية النزارية التي عُدَّ بها عند كثير من النقاد والمثقفين شاعر الحب الأول، وشاعر المرأة الأول والأبرز، في العصر الحديث، وقد غُنِّيت كثير من أشعاره الرومانسية؛ لجمالها الفني وجراءتها الفكرية....
وتعد الدواوين الخاصة برثاء الزجات ظاهرة تكاد تكون خاصة بالشعر العربي، على مستوى العالم، منها ديوان الشاعر الأندلسي "ابن جبير(ت614هـ)، وهو مفقود! و في عصرنا الحديث دواوين لشعراء أصابهم ما أصاب "ابن جبير" من موت الزوجة؛ فراحوا ينظمون الأشعار والقصائد، ويفيضون من بحر مدامعهم دُررًا من الشعر الحزينة الباكية المتفجعة، مثل التجربة الرائدة للأستاذ عزيز أباظة(ت1973م) في ديوانه "أنَّاتٌ حائرة".، والشاعر عبد الرحمن صدقي(ت1973م) في ديوانه "من وحي امرأة"، والأستاذ طاهر أبو فاشا(ت1989م) في ديوانه "دموع لا تجف"، والأستاذ رابح جمعة(ت2003م) في ديوانه "لذكراك"، وللأستاذ خليل السكاكيني(ت1953م)، المُلَقَّب بـ(مجنون سلطانة)، ديوان بالعنوان نفسه، وللشاعر الأردني روكس بن زائد العزيزي(ت2004م) ديوان بعنوان "جمد الدمع"، وللدكتور محمد رجب البيومي(ت2011م) ديوان بعنوان "حصاد الدمع"، ومن التجارب المعاصرة تجربة الشاعر الأكاديمي الشرقاوي الأزهري محمد الغرباوي في ديوانه (عشرون ليلة في الأحزان)! وهذه الدواوين تدل على وفاء الإنسان العربي قديما وحديثًا ومعاصرًا لزوجاتهن، وما كان معهن من علاقة رومانسية شريفة سامية صافية ... وهكذا تتعدد الأدلة العقلية والآثار الأدبية والحضارية وتتنوع عند العرب؛ لتدل على أن الحب -الذي هو جوهر الحياة وسر السعادة، وأصل العلاقة بين البشرِ، والمقصد الأسمى من الديانات السماوية كلها- كان مهيمنًا على النفس العربية قديمًا وحديثًا ومعاصرًا...
فما أحوجنا إلى هذه العاطفة الإنسانية الفطرية الراقية، ونشرها بين البشر جميعًا، وتربية الأجيال الشابة القادمة على ضوابطها، ومتطلباتها الشرعية والقانونية والعُرْفية، ونصوصها الهادفة، والتي تجعلها عاطفة مُهذبةً وبنَّاءةً وفاعلةً في الحياة والأحياء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي