الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رابعة العدوية: ما في الجبة إلا الكآبة

نيرمان صالح

2023 / 2 / 9
كتابات ساخرة


إذا كان للتصوف ظاهرٌ وباطنٌ كما يقول المتصوِفة، فإنني لا أرى الظاهر إلا حجاباً، يخفي كنهه وعلته، والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فليس التصوف أو التقشف العقلي رحلة إلى الأسمى، إنما هو رحلة اغتراب إلى حيث لا حيث، وما الباطن سوى بذرة التعطش للحياة، فالمتصوف يقول إنه يتعطش إلى نبع الوجود، ولكن هذا القول لا يبدأ إلا بعد أن يخسر الإنسان وجوده. ليس هناك سر يكشفه التصوف أو الاتحاد مع الأسمى، وليس التصوف أيضا نزعة "فطرية" تولد بولادة الإنسان قبل أن "يلوثه" الواقع. الحق أقول لكم إن التصوف ليس إلا كبوة من كَبَوات الطفولة وعقدة من عقد أوديب. لا يتصوف الكائن لأنه استهدى بضوء العقل، ولا لأنه كلما أوغل في أغوار نفسه تعثر بعلة العلل، لكنه توق للمقامات، ولا يتصوف إلا من أذلته "المقامات"، ومن يفقد سلطانه يبحث عن سلطان لا يفنى. وما "حال الجذب" إلا سكرة أفرزتها أثقال الحياة وأوهام الجسد، يتوسل "السر" هناك، و"السر" هنا، في ذاته التي لم تعد ذاتاً، إنما بين بين. وعندما يقول الصوفي لا شيء موجود حقيقة إلّا الله وأنا. هو معنيٌ بالأنا، وما الآخر سوى موضوع، نطق به الهوى لغياب الهوى، فيصبح الكون، الذي ليس سوى استعارة عن الفردوس المفقود، في مكان آخر، وإذا كان كل ما يراه في الدنيا ليس حقيقة فكأنما هو يقول إذن عالم الحقيقة أهم. لكن ما الحقيقة؟ لن تصل إليها إلا بعد أن تمسي درويشاً فترى ما لا يُرى.
وعندما ينضم المتصوف إلى نبع وجوده، ويهتف "أنا الحق"، فإنما هو يؤسس لمملكة الأنا بعد خراب مالطا، وإن قال إنها مملكة الروح، فلا مشاحة في الاصطلاح، فالحق مطلب كل صوفي، لكنه الحق الذي تستر بالله، فيدير خده الأيسر لمولاه، لأن الصوفي الحق لا يؤذي خلق الله ولو آذوه، فالحقوق محفوظة في اللوح المحفوظ، وما دمت منقطعاً لحافظ الحقوق فلن تبالي ولو أهدر دمك وأبيح ملكك وجسدك، فالحقوق محفوظة هناك، والتعجيل بالحقوق ليس من صفات الصوفي الحق، فلكل شيء أجل مسمى وحقوقك لن تضيع إن شاء الله. الصوفي يريد أن يكون "الإنسان الكامل"، كي يكتسب سلطان "كلمته"، فيصير منزهاً كبارئه، من جميع الحوادث، فيقول للشيء كن فيكون. لكنه عندما يرتقي لهذا المقام المحمود لن يملأ حياته عدلاً فهذا ضد المشيئة، لكنه سيكون دالاً عليه، لا على ذاته، من خلال "إظهار طعام بلا علة ظاهرة"، أو تقصير مسافة، أو نجاة من عدو، أو سماع حقيقة من هاتف مجهول، ويا له من مقام محمود تحسده عليه الجن والإنس. والصوفي لن يرتقي حتى تضج الأصوات في رأسه، فيكون بين مقامه ومقام موسى شعرة معاوية، وهذه هي أم الكرامات، أن يخاطبه المولى بلا واسطة، فتكشف له الحجب فيرى ما يراه النائم بغير نوم، وفي هذه اللحظة يمتلك الصوفي جرأة نادرة في أن يقول لأي ملك: مُلكي أعظمُ من مُلكِكَ.
وما دمت من أهل الظاهر، فلن تفهم معنى "الفناء الصوفي" ولا طرق المقام المحمود، لأن حقيقته ليست حسية إنما وجدانية، ولا ينالها إلا "أهل الذوق" والطرب الرفيع، الذين يتخلون عن إرادتهم كي يكونوا رهن الإرادة الإلهية، يتجردون من الناسوت ويفنون في اللاهوت، وهذا ما يسمى في لغة أهل الهوى والساق على الساق بالاتحاد مع المعشوق، وفي حالة الشهود هذه يصرخ الصوفي أنا هو وهو أنا، "أنا من أهوى ومن أهوى أنا"، وهي من أكثر اللحظات صدقاً وتعبيراً عن "حقيقة التصوف"، أو ما يقال عنه في حالة الغيبوبة الصوفية الاتحاد بين جوهر النفس بالجوهر السرمدي، فتتجلى للهيمان الحقائق التي لا تُدرك إلا "سريرياً" وعندئذ يهتف من فرط الهيام والهذيان: إلهي يا حبيبي الأوحد.
ولقد أحسن أحد المتصوفة الوصف حينما قال: لقد رأيت ربي بعين قلبي فقلت من أنت؟ قال أنت!

ما في الجبة إلا "الكآبة"، ونزار قباني يقول "إني أحبكِ من خلال كآبتي، وجهاً كوجه الله ليس يُطال"، والكآبة هي مفتاح التصوف وسره الأعظم، ومن انهكته الكآبة تصوّف، و"أهل السكر" هم أشد الناس اكتئاباً. تشرب من "معين الحق" كي تنسى وتُنسى "كأنك لم تكن"، ومن التبست عليه السبل تاق للعودة إلى "زمن الارتضاع"، حيث براءة الأطفال وصفاء قلوبهم وخُلوّ صحيفتهم من السَّوابق: الهموم والنزوات والضغائن والذكريات.
وشعار كل صوفي، أو صوفية، هو الحب، وله ينذر المتصوفة أنفسهم، ولكن يراد منه أن يكون حباً بلا ذكريات، فالذي يولد ويعيش ويرغب ويتألم ويُقمع ويفقد ويغضب ويحقد ويموت ليس أنا إنما جسدي الفاني، وما أنا سوى هو، فالكل واحد في عالم التوحيد والحب المنزه من أردان الجسد ورغبات النفس الحقيرة.
ولعل رابعة العدوية، التي احترقت بنار الحب الإلهي واكتفت من دنياها بلبْد هو فراشها وهو مُصَلاها، من أبرز الأمثلة لهذا التمزق "الروحي" بين رغبات "الأنا" ومتطلبات "مبدأ الواقع"، وإن كانت تشاكل الحلاج والبسطامي وثوبان أو ذا النون المصري من حيث المآل في عالم التصوف: "لا أنا إلا أنا". رابعة التي لم تقوَ أن تتحرك أو تسكن أو تغفو أو تتنفس إلا وهو معها، لم تعرفه إلا من خلال الكآبة، وفي ذلك حكاية تفسر توقها المحموم للمقامات، ومن أذلته المقامات أكثر من رابعة!
ولدت رابعة العدوية في منتصف القرن الأول للهجرة، لعائلة شديدة الفقر، ولم تملك عائلتها إلا حب الله.
والله مؤنس الفقراء وصديقهم الأوحد. والفقير الذي أرهقته المحن، يعتقد أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، فيتصوف ويطلب المزيد من المحن والبلايا، والله لم يصف نفسه بالفقر، فهو "الغني" ومن يترك الدنيا لا يكون إلا غنياً. وبعد وفاة والديها باعها أحد التجار بستة دراهم، والمشتري أحسن معاملتها فعاملها كما تعامل الإماء. وكانت تعرف حينئذ برابعة مولاة آل عتيك، ولذلك كانت تسمى في أقدم المصادر التي تناولت سيرتها برابعة القيسية، بما أن آل عتيك بطن من بطون قيس، ومن آل عتيك أيضاً بنو عدوة ولذا يطلق عليها العدوية.
وفي المجتمع الذي نشأت فيه رابعة، كان يسمح للزوج أو السيد بممارسة بعض العنف السريري والاجتماعي، مع الزوجة أو الجارية، فهي مطية يركبها كيف ومتى شاء ويخضعها بالقول والفعل ولا شيء عليه. ومن تعترض على قيم الذكورة يطلق عليها الفاسدة، وقد يضطر سيدها إلى تأديبها بضرب غير مبرح، بحيث لا يكسر لها عظمًا قدر الإمكان ولا يشوه وجهها مجمع المحاسن، ويفضل أن يوزعه مفرقًا على جسدها متوخياً العدل والإنصاف، وألا يفسد مواضع الفتنة برفسة طائشة أو لطمة في حالة سهو تغير تضاريسه وتلغي حدوده. وبما أن العبد كان يتحرر من بعض أثقال عبوديته من خلال الدين، كذلك المرأة وجدت في الدين والتبتل وسيلة للتحرر من قيود المجتمع، وقيود جنسها، وإن كان التحرر "روحيا" كما هو في حالة رابعة التي عاشت محرومة من إشباع حاجاتها الجسدية والنفسية إلا على سجادة الصلاة. والغريب أن الجاحظ اعتبر أن علاقة النساء بالحيوانات الأليفة يرجع إلى أنهن مغيبات أو محتاجات إلى "ما يحتاج إليه النساء عند غيبة فحلهنّ". بل اضطرت بعض نساء ذلك المجتمع على ما يرى الجاحظ إلى مضاجعة "الخصيان" والعياذ بالله، لأن أمرهم أستر وعاقبتهم أسلم، بسبب الرقابة الجنسية الصارمة على أخلاق النساء بينما يتمتع الرجل بما طاب له من زوجات أربع وعدد لا محدود من الرقيق. وكانت الزوجة الصالحة هي التي تؤثر رضا زوجها أو سيدها على رضاها وهواه على هواها، ولا تمنعه شهوته متى ما طلبها ولو كانت ساجدة أو تعد فطور الصباح، فطاعة الزوج أو السيد من طاعة الله. وأفضل أنواع الجهاد بالنسبة للمرأة المؤمنة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته، فالصابرة لها أجر عظيم في الجنة إن شاء الله. أما المرأة التي لا تقبل الشراكة مع زوجها، فهي تقف ضد الشرع ورغبات الرب وحكمته الخفية في تشريع "مثنى وثلاث ورباع وما ملكت الأيمان" للزوج المحظوظ، والغيرة مدخل الشيطان ومفتاح الطلاق. والتمييز كان من الفراش إلى المحراب، ولذلك يحق له شرعياً منع أي زوجة من زوجاته الأربع أو ما ملكت يمينه من الصوم إذا احتاج للمتعة، أو الصلاة تطوعاً إلا بإذنه. وقد رأى الفقهاء أن ميل بعض النساء للصوم أو الصلاة تطوعاً قد يكون ذريعة للهروب من واجبات الزوجية، ومن حقه الشرعي "تفطيرها في صوم التطوّع ووطؤها فيه فإن امتنعت فهي ناشز". وعلى كل حال فإن طاعته وتلبية رغباته في آناء الليل وأطراف النهار خير لها من صيام الدهر وقيام الليل، ومن تفطر طاعة لزوجها فإن لها أجرين، أجر الصوم وأجر الطاعة لزوجها.
لم تستطع رابعة أن تتمرد على قيم المجتمع ومنزلتها الاجتماعية المتدنية لعلة الجنس والطبقة إلا من خلال الإمعان في العبادة والانشغال بحب الله، والعابدة "نموذج يقوض المثال المترسّخ في المتخيل الجمعي الذي يؤكد أنّ المرأة ناقصة دين وأنها أكثر عرضة للوقوع في المعاصي لصلتها الحميمة بالشيطان" كما تقول آمال قرامي. كذلك يوفر دور العابدة سلطة اجتماعية تلغي ليس الواقع الطبقي فقط، بل حتى الواقع الجندري، فتصير العابدة "رجلا" من علية القوم وتساوي أولياء الله من الرجال الصالحين. وحدها العابدة أو المنقطعة لله التي يجوز لها خرق المألوف من العادات والتقاليد وتعليق القانون الشرعي وخلخلة المعايير الأخلاقية، فيصير الرجال لها تابعين ولا يطعن ذلك في رجولتهم، وفي هذا السياق وحده يصح قول أحد المتصوفة "وما من صفة للرجال إلا للنساء فيها مشرب".
ولهذا كله وضع فريد العطار في تذكرته رابعة في مرتبة الأولياء وأصحاب الكرامات، ولقد اضطر أن يستعين بحديث للرسول يقول فيه "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم، ولكنه ينظر إلى نياتكم وقلوبكم" كي يبرر سبب اختياره لها بين الرجال. وبما أن الناس يحشرون على نياتهم، ينبغي أن نتجاهل جنسها ونركز على نيتها وأفعالها الطيبة، فعائشة كانت امرأة وجاز في الشرع أخذ شطر الدِّين منها، ومن هذا الباب يجوز أيضاً كما يقول العطار أن نستفيد بذكر بعض أعمال جارية من جواريها، وإذا "كانت المرأة في طريق عبادة الله تعالى كالرجال لا يُطلق عليها المرأة؛ بل هي في الحقيقة رجل". بل قال بعض علماء الأمة: إذا نُودي غداً يومَ القيامة: رجال، يكون أولُ من يُجيب مريم ورابعة عليهما السلام. ففضيلة مريم أنها انشغلت بالقنوت، وهذه من أعمال الرجال، ولذا أدرجها اللهُ في زُمرة الرجال، ووصفها بصفتهم: "وكانت مِن القنتين". ويكمل العطار تبريره الفذ، ولم يقل الله أنها كانت من القانتات مع أن هذا أنسب بظاهر حالها، ولكنه جعلها من الرجال المطيعين العابدين. وهذا يعني إذا فهمنا كلام العطار بحسن نية أن المرأة حينما ترتقي تكون رجلاً. وهكذا كانت رابعة. تذكر مع الرجال ولا يعد ذلك أمراً معدوداً من العيب!
أما رواية تحررها من الرق فيقال إن رابعة، بينما كانت منهمكة في صلواتها، تبكي وتنتحب، وتتشوق للقاء بارئها، سمعت صوتاً لم تعرف مصدره يقول لها لا تغتمي يا رابعة! فإن لك جاهًا يوم القيامة يغبطك عليه المقربون من أهل السماوات. فكانت بعد هذا الهاتف السماوي أقوى في خدمة سيدها، وفي تأدية فرائض ربها، تصوم النهار وتقوم الليل. وكلما انهكتها آلام الذل انغمرت في العبادة أكثر. وفي إحدى الليالي بينما كانت تناجي ربها، وبدت المناجاة كعتاب بين حبيب وحبيبه، إذ كانت تقول "إلهي لو كان أمري بيدي ما فترتُ عن الخدمة والعبودية، ولا استرحت، ولكنَّك جعلتني تحت يد مخلوق"، رآها سيّدها الذي استرق السمع لمناجاتها فرق قلبه. فلما أصبح أكرمها وأعتقها لوجه الله. ويقول بعض الرواة غير الثقات إنها انتبذت خربة لا يعلم حالها سوى علام الغيوب، وقضت أيامها بلياليها في العبادة والعويل والتفجع لبعدها عن المحبوب. ويقول آخرون لا نعلم من سيرتهم شيئاً نستطيع الاطمئنان إليه إنها أصبحت مغنية وعازفة على الناي، إلى أن تابت على يد الحسن البصري.
ويقال إن رابعة بعد توبتها قصدت الحجَّ فأرادت أن تعبر بطريقتها عن شوقها للقاء رب الكعبة، فصارت تتقلب على جنبيها في الطريق حتى وصلت بعد سبع سنين إلى عرفات، ولكنها ما أن وصلت حتى سمعت هاتفاً في رأسها يعاتبها قائلاً: ما هذا الطلب يا مُدعية؟ فإن كنتِ طالبة لنا فنتجلّى لكِ تجلّيًّا واحدًا لتذوبي في الحال كما يذوب الملح في الماء. فقالت رابعة: يا ربَّ العزة، ليس لرابعة رأس مالٍ تتَّجرُ به هذا المقدار من المال والربح، لكن أطلب نقطة من الفقر. فنوديت: يا رابعة، الفقر هو قهرنا الموضوع على طرق الرجال الذين يتوجهون إلينا!
ومن حسن حظ رابعة التي كانت شاعرة وعاشقة للشعر واللغة الشعرية أن الأصوات السماوية لا تأتيها إلا بصيغة شعرية رمزية، فحتى السماء تخاطب الناس على قدر لغتهم.

رابعة والحسن البصري

أميل إلى أن رابعة أحبت منقذها من الضلال حباً عذريًا، فاكتفت بمشاركته الصلاة والحديث معه عن الطريقة والحقيقة، وعلى الأغلب كان في نفسه شيء من هذا أو أكثر. يقول البصري أنه عندما يكون في حضرة رابعة، ينسى أنه رجل وأنها امرأة. وبما أن رابعة لا تقول إلا رمزاً، أهدت الحسن ثلاثة أشياء: قطعة شمع، وإبرة، وشعرة، على الأرجح من رأسها، وقالت له كن كالشمع، فإنه يحرق نفسه، ويضيء على غيره، وكالإبرة فإنها آلة للوصل. فإذا صنعت هذين الأمرين تكون لك شعرة العمل مقدار ألف سنة. ويبدو أن الحسن فهم من التجريد تشخّصه الخارجي ومن الرمز كنايته الخفيَّة، فخطبها. لكن رابعة رأت في عقد النكاح قيداً وشغلاً عن المحبوب السماوي، فقالت: يا شيخ، أنا فانية. وموجودة بوجوده، وأنا له وفي ظلِّ حكمه، فاطلبني منه لا مني. فسكت البصري عن الجواب، ربما لأنه كان مغتاظاً أو ربما لأنه لم يفهم مرادها بالضبط. وبعد دقائق من الصمت، لملم نفسه وقال بصوت متهدج: بمَ أدركت المقام يا رابعة؟ قالت: بأن تركتُ المدركات كلّها وضيعتها في وجوده. فسألها البصري: كيف عرفته؟ فزادت الطين بلة وقالت: يا شيخ، أنت تعرفه بالكيف، وأنا أعرفه بلا كيف. فغادر البصري دون أن ينبس ببنت شفة. لكنه سرعان ما زارها صبيحة اليوم التالي. وقال لها علّميني حرفاً من العلم الذي ما تعلمتِ من أحدٍ، ولا سمعتِ؛ بل نزل في قلبك بلا واسطةٍ مخلوقٍ. فأخبرته عن شيء من فتوحاتها الليلية. فطلب المزيد. ماذا يفعل المحروم من مشاهدة جمال الله تعالى في الجنة؟ فقالت من غفل عن ذكره في الدنيا ولو للحظة كان مصيره البكاء والأنين والحزن العظيم في الجنة. فبكى البصري، ثم قال: لِمَ لا تتزوجين؟
فذكرت له رابعة أنها مشغولة بمصيرها الأخروي، فلا تدري أهي من جماعة الشمال أم اليمين، فكيف من تنشغل بهذه المصيبة تستطيع أن تتفرغ للزواج؟!
وكلما زارها البصري قالت: تعالَ إلى هنا نصلِّ؛ لئلا يرانا أحدٌ. ويقول البصري: كل مرة أخرج من عندها أجد نفسي مفلساً وأجدها مخلصة. ونقل أحد الرواة الثقاة وبسند لا يشك في صحته إلا من كان من أهل البدع والأهواء، أن رابعة مرت ببيت الحسن البصري، وسمعته يبكي بكاء مريرا، فركضت نحوه ووضعت رأسها تحت لحيته حتى تقاطرت دموعه على وجهها، فهمَّ بها لولا أنها قالت: يا شيخ أظن هذا البكاء من رُعونات النفس! فانزعج الحسن من كلامها. لكنه كظم غيظه وجفف دموعه لئلا تغادره وقال: يا رابعة، تعالي لنُصلّي هنا ركعتين. وظل الحسن البصري على هذه الحال مع رابعة، يقضي الليالي الطوال معها تحدثه عن دروب السالكين، ويناغيها بأحاديث المحبة الإلهية فلا تناغيه، يسألها: كيف تحبين الله ولا تبغضين الشيطان؟ فتقول: استولت محبته على قلبي فلم يبقَ مكان لسواه، لا للبغض ولا للعداوة. فيعيد صياغة السؤال بحسب مقتضيات القلب: ما المحبة يا رابعة؟ وما علاماتها؟ فيكون جوابها عن الأزل والأبد. وعن الخوف الملازم من القطيعة. وعن نعمة التقبل للمحن بقدر الفرح بالنعم. والأهم هو الشعور بأنكِ لائقة به. إنه الشغل الدائم بمشاهدة الصانع عن مشاهدة الصنع.
والحسن يعلم أنه لائق بها وهي لائقة به، لكن شغفه بالوقار حال بينه وبين كلمة أحبكِ. فباتت رابعة تتوجع على سجادة الصلاة رغبة في وصال الحبيب البعيد. والحسن يتوجع وهو في حضرتها فيصلي معها لا طمعا في جنته إنما في جنتها وقربها، ولا خوفاً من ناره إنما هو خوف من جحيم بعدها وغيابها. يخلو معها والباب مغلق ويود لو كان بإمكانه أن يقول وهو ساجد "حبك الآن بغيتي ونعيمي". لكن بكاءها الذي يشابه صرخات الثكلى وهي تتلو آيات القيامة وأحوالها يولد في نفسه خوفاً هائلاً ليس من أهوال القيامة إنما من تخيل لحظة اعترافه بحبه الناري لها. فيستمع بخشوع إلى تلاوتها المدوية ويختطف نظرة سريعة لسقف الخربة الذي يمكن أن يسقط في أية لحظة بما أن صرخات رابعة يمكن أن يكون لها مفعول نفخة الصور لولا حفظ الله ورعايته. ومع كل آية من آيات يوم القيامة، ترتفع حرارة إيمانها فيرتفع عويلها، بينما البصري يعاين خفوت الحب في قلبه ولا يجد مهرباً من التفكر في الموت والفناء. وينسب للحسن البصري أنه كان يدعو إلى عدم الزواج وله أقوال في تمجيد العزوبة باعتبارها شرطاً من شروط التقوى حتى التقى برابعة.
وعندما مرضت رابعة، لازمها الحسن وعرض عليها أن يقضي جميع حوائجها لكنها أبت. فقالت يا شيخ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. ومن يرزقُ من يسبُّه، ألا يرزقُ من يحبُّه؟! فبهت الحسن!
ولقد اكتوى الحسن بنار الغيرة، عندما سمع أن سفيان الثوري، دخل محرابها واشتغل معها بالصلاة إلى مطلع الفجر، بل صام النهار معها، والأسوأ من هذا وذاك أن سفيان سمع منها مناجاة كثيرة لم يسمعها أحد قبله.
وبعد أيام من هذه الحادثة المفجعة، زارها البصري، لكنها كانت مريضة ولم تقوَ على الصلاة معه، فقال لها بشيء من العتاب: كاذب في دعواه وتقواه مَن لم يصبر على ضرب مولاه! فغضبت رابعة وقالت: يشمُّ من هذا رائحة الأنانية! بل أن الكاذب في دعواه من لم ينسَ الضرب في مشاهدة مولاه! فجلس بجوار مرقدها يبكي ويئن. قالت: ما يبكيك يا شيخ؟ قال: فقد الأحبة غربة يا رابعة! فغلبها الوجع فصارت تنشد: ليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب. قال: هو والله الخراب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07