الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن المأزق السياسي المغربي ومخاطر الانزلاق نحو المجهول

فؤاد بلحسن الخميسي
كاتب وباحث

(Belahcen Fouad)

2023 / 2 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


النظام بمعناه العام - وبمعناه السياسي بخاصة- يتفكك، لأنه يزداد، يوما بعد يوم، ضعفا وفسادا وربما غباء أيضا. فحتى الأنظمة تحتاج إلى بعض الذكاء لتستمر.
أنظر إلى مؤسساتنا، من الأسرة إلى النظام السياسي، مرورا بالمدرسة والإدارة والمحكمة والمستشفى وغيرها، تجد أنها في مرحلة تحول عميق في قيمها وعلاقاتها وموازين القوة داخلها وغاياتها. كأننا أمام تحول كبير في البنية الكبرى (بنية البنى) لهذا المجتمع ولهذه الدولة، ولا أحد يدري إلى أين نتجه، وإلى أين يأخذها هذا التدافع المتبادل بين الأنساق الاجتماعية الداخلية بتأثير من الضغوطات الخارجية والعولمية؟
سياسيا- من البلوكاج المرفوع في وجه بنكيران إلى التطبيع مع دولة محتلة مجرمة إلى الانتخابات التشريعية والجماعية المهزلة الأخيرة، وأخيرا امتحان ولوج مهنة المحاماة، ثمة عالم يتفكك وآخر في طور التشكيل. والمقدمات تشي بأننا أمام سقوط مأساوي في القيمة الحضارية والأخلاقية لهذه البلاد. فخلف ما يسمى بالإنجازات والأوراش الكبرى (الطرق، الموانئ، السكك الحديد، المناطق الصناعية، الأنفاق والأبراج،...)، هنالك ما هو أهم وأخطر: الفساد.. فساد النخب وانفصالها عن تطلعات فئات واسعة من الشعب، وفساد الهياكل التنظيمية للدولة، بالموازاة مع خطاب وفكر سياسيين يزدادان صفاقة وغباء، وفساد عديد من البنيات الاجتماعية إلى درجة أمكننا أن نتحدث عن الفساد وقد أمسى ثقافة. ويبدو أنه لا حدود لهذا التحلل الذي يصيب معاني الأشياء في وجودنا العمومي. هل فقدت الدولة العميقة بوصلة الحكم والتدبير، وأمست لا تبالي في إدارة دفة الحكم خارج مراعاة الحد الأدنى من قواعد اللعب وبلا فرامل أو تقدير للمخاطر متوسطة وبعيدة المدى؟ هل هذا يرجع إلى الثقة الزائدة في أخطبوطية الدولة العميقة واطمئنانها إلى هيمنتها على السلط والنخب والقوة والمال والإعلام أم إلى ثقة زائدة في تقارير المعطيات والإحصاءات التي تقول أن الأمور على ما يُرام؟ ألسنا بصدد عمى ألوان أصاب النظام العام؟
*
ليست فضيحة امتحان ولوج مهنة المحاماة بالحدث العرضي، إنها واقعة تتكرر باستمرار، تقسيطا وجُملة. بل هنالك ما هو أسوأ (أقدم مثالا: أطلعني إطار مسؤول بإحدى الوزارات بعاصمة الأنوار، الرباط (!!!)، أنه اضطر للاستقالة من لجنة انتقاء المترشحين الناجحين في امتحانات التأهيل المهني بعد أن قُدمت له ولزملائه في اللجنة لائحة مصطَنعة للناجحين قصد التوقيع غير اللائحة التي أعدتها اللجنة المعنية، حيث قيل لهم إنها "لائحة الوزيرة" ولا خيار آخر غير التوقيع عليها).
ما القصة إذن؟
تتحرك دواليب الدولة بالموازاة مع انتعاش الفساد ودون أن تولي اهتماما جادا في الوقاية منه والمعاقبة عليه؛ ومع الوقت، ما عاد الفساد انحرافا سلوكيا فحسب، بل شرطا للرقي الاجتماعي. بمعنى أنك- كمواطن شريف- في سعيك لتحقيق ذاتك أو تنمية ثروتك، على الأغلب يجب أن تكون فاسدا حتى تنجح في ذلك، أو في الحد الأدنى يجب أن تُطبِّع مع الفساد، ألاَّ تُدينه، أن تَدخُل معه في تسويات. وقس على ذلك: لتتلقى العلاج، لتحصل على وظيفة، لتصير قياديا حزبيا مقربا من مركز القرار، لتَظهر في الإعلام العمومي، لتُبرم صفقات مع الإدارة، لتُنَمي مقاولتك،... عليك أن تصير فاسدا. افسد لتصعد إلى القمة أسرع ولتكون متميزا اجتماعيا. فالرسالة واضحة: اترك كفاءاتك ومهاراتك جانبا، وتعلم كيف تنخرط في لعبة الفساد!
وضمن هذا التدافع الطبقي بين المحظوظين والمغلوب على أمرهم ومن يوجدون بين هؤلاء وأولئك، أخذت الدولة العميقة، أكثر فأكثر، موقعا متحيزا لفائدة الأثرياء الفاسدين، والفاسدون الذين يتطلعون للثراء. وكل هذا يجري في مناخ يتميز بتزاوج المال مع السلطة، وتعطيل مؤسسات الرقابة والمحاسبة والعقاب. إذ أن الحالة الأولى تؤدي تلقائيا إلى الحالة الثانية. فحين يكون صاحب السلطة هو نفسه صاحب المال، أيا كان موقعه في تراتبية الدولة مركزيا وترابيا، فسيعمل على تعطيل كل الآليات المؤسسية التي تحد من سلطته أو تحد من أرباحه، سواء بسواء. فقد تم تأسيسها وهي تحمل بذور تعطيلها (أو ما يمكن تسميته بـ "الإعاقة البنيوية التأسيسية") أو تم تعطيلها بالتدريج من خلال استراتيجية مزدوجة للإخراس والتحكم (أو ما يمكن تسميته بـ "التعويق الوظيفي المواكِب"). تتذكرون كيف تم التعاطي مع مجلس المنافسة، وكذا الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والمجلس الوطني لحقوق الانسان والمجلس الأعلى للحسابات: وقف المسار الطبيعي للقرارات المؤسسية، الضغط على بعض المسؤولين أو إقالتهم، عدم دعم بعض المؤسسات بالمرجعية القانونية والوسائل الضرورية لتقوم بعملها، إلخ.
هكذا، ما فتئت الهوة تتعمق بين فئتين رئيستين في البالد: فئة تعمل من أجل المزيد من ربح المال بدون كوابح أخلاقية أو روادع قانونية، وفئة متطلعة إلى وطن يرتكز على المساواة أمام القانون والقوة الأخلاقية للمؤسسات. الأمر الذي يُترجم وسيُترجم على الأرض بمزيد من التصدع الاجتماعي آنا، واللااستقرار السياسي مآلا.
*
تأملوا المفارقة التي يصير فيها الوعي الجماهيري متقدما عن وعي السلطة! وعلى ما يبدو المغرب يدخل هذا العهد. حيثُ يراد من الناس أن تقبل بفساد الإدارة والنخب والسلطة كأمر واقع. لكنهم يرفضون ذلك، ويجدون ألف وسيلة ووسيلة ليعبروا عن رفضهم لمنطق الاستسلام وتطلعهم إلى إصلاح الدولة (أمست بعض الصفحات التفاعلية رائدة هذا التوجه وممثلة لهذا الصوت).
وقد سبق للبنك الدولي أن عبر عن هذه المفارقة-المأزق، وذلك حين نبه في أحد تقاريره الدولة المغربية إلى أن شبابها لن يبقوا صامتين وهم يُتابعون نماذج التقدم في العالم بينما أوضاع بلدهم غير ذلك.
أن يتمسك البلاد بخصوصيته، شيء. بينما أن تمسي خصوصيته هي تخلفه الحضاري وفساده الإداري والاقتصادي شيء آخر.
وهذا النقاش يدفعنا للوقوف على أحد أهم مفارقات الدولة العميقة، التي تحتاج منا إلى مزيد التأمل والتفكيك: هناك رغبة في أن يتغير مفهوم السلطة وممارساتها دون أن تتغير فعلا. أي أن أركان الدولة العميقة يريدون الشيء ونقيضه! كيف يكون لهم ذلك؟!!!!!
في الانتخابات نتقدم ثم نتراجع.. في الحريات نتقدم ثم نتراجع.. في معالجة انتهاكات الماضي لحقوق الإنسان نتقدم ثم نتراجع باقتراف انتهاكات جديدة... والدولة العميقة تبحث عن جواب لسؤال مستحيل: ما السبيل لتتقدم البلاد دون اجتراح خطوات جادة نحو توزيع جديد للسلطات والخيرات؟
ليس بمقدورك إقامة حكم عادل وعصري وإدارة شفافة وعقلانية في وقت تكون السلطة لديك مؤسسة على دعم نخب ريعية فاسدة وفئات اجتماعية طفيلية مَهمتها التخابر والسرقة وتعطيل الحس النقدي وتأويل الوطنية في اتجاه الولاء الأعمى المتمحور حول "الشخص"؟
ولهذا فالبلاد اليوم محشورة في زاوية ضيقة: أي دولة نريد: دولة العصابة التي تحتكر خيرات البلاد وتقمع النقاش العمومي وإثماره، أم دولة القانون التي تهيئ فرص الترقي المعنوي والمادي للجميع؟
لطالما بقينا مترددين، بينما التاريخ الحضاري للعالم يتقدم. والتأخر في زمن السرعة له ضريبته...
*
وفيما يخص النخب التي نعدها نخبا إصلاحية، أكانت حزبية معارضة أم ثقافية مستقلة، لا أدري ماذا تنتظر قبل أن تدعو، مجتمعة ومنفردة، بصوت مرتفع، إلى حوار وطني حول أزمات البلاد! هذا إذا أرادت أن تكون جزءا من الحل بدل أن تكون، هي نفسها، جزءا في هذه الموجة الجارفة التي تدفع الوضع إلى مزيد من التأزيم.
يساريون ومحافظون وإسلاميون، مازالوا يتبخترون وسط أنانياتهم النضالية و/أو العبثية، وينقسمون على أنفسهم وينشقون ويُشاكسون بعضهم البعض. وهم، على ما يبدو، غير مستعدين لِجَسْر علاقاتهم وبناء مشروع سياسي مشترك، يفتح الطريق على عمل مرحلي منسق، قوامه إنقاذ البلاد من هذا الانحدار السياسي.
هناك حاجة إلى تكريس الوحدة الوطنية من خلال البحث عن مشروع وطني عام يرتكز على النقاش العمومي المفتوح بين جميع الفاعلين. فالوحدة الوطنية ليست تحصيل حاصل كما تفهمه الدولة العميقة ومنطقها الأمني. فأنت لا تصنع وحدة وطنية من خلال مفهوم للوطن منقسم على نفسه مجاليا وطبقيا وسياسيا. فهذه الخريطة العامة للفقر والبطالة والمشاكل الاجتماعية الأخرى وكذا الفوارق المجالية والضغوط على الحريات، لا يمكنها بأي حال أن تبني وحدة وطنية حقيقية.
وفي الوقت الذي تُجَمِّــع الدولة العميقة نُخبها ومرتزقتها وتَجمعها حول أفكار كبرى (فكرة «النموذج التنموي الجديد»، فكرة «النزاع مع الجارة»، على سبيلا المثال)، لا نجد بالمقابل أفكار كبرى لدى قوى المعارضة المعتدلة والراديكالية وهيئات النخب المستقلة. فحتى الآن، لا نرى في جعبتها غير الخطابات التي تعكس حوارا داخليا مع الذات الفئوية لا أكثر (العدالة والتنمية، اليسار الاشتراكي الموحد، فيدرالية اليسار الديمقراطي، العدل والإحسان، الجمعية المغربية لحقوق الانسان، التقدم والاشتراكية، وآخرون).
فإلى متى يستمر هذا التوجه الانقسامي في ذهنية نخب الإصلاح؟ وهل يمكن تفعيل البدائل بدون مشاريع وحدوية حقيقية؟ متى تنتبه النخب الإصلاحية إلى أن طبيعة أداءها يُلبي بالضبط ما تريده منها القوى المناوئة للإصلاح؟! وكل هذا يدفعنا إلى طرح السؤال الكبير على نخب الإصلاح تلك: هل يرجع هذا الانقسام في المشهد السياسي إلى خيارات أيديولوجية مبرَّرَة أم إلى بنية نَفْس-ذهنية تخترق العقل السياسي الإصلاحي المغربي تعيقه عن مشاهدة أمراضه وأعطابه؟ ألم يحن الوقت بعد لتأمل وتمثل تجربة الكتلة الديمقراطية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل بنود العرض الإسرائيلي المقدم لحماس من أجل وقف إطلاق ا


.. أمريكا وفرنسا تبحثان عن مدخل جديد لإفريقيا عبر ليبيا لطرد ال




.. طالب أمريكي: مستمرون في حراكنا الداعم لفلسطين حتى تحقيق جميع


.. شاهد | روسيا تنظم معرضا لا?ليات غربية استولى عليها الجيش في




.. متظاهرون بجامعة كاليفورنيا يغلقون الطريق أمام عناصر الشرطة